
إحكام الطوق: واشنطن تفتتح منشأة عسكرية في “بولندا” الفناء الخلفي لمخاوف روسيا
تتجه جميع المؤشرات اليوم إلى التأكيد على أن أوكرانيا تمثل لُب القلق الروسي لأنها تأتي بالناتو مباشرة إلى الحدود الروسية. ولكن لا يلزم الكثير من التدقيق لفهم طبيعة المخاوف الروسية من الطوق الذي تفرضه واشنطن بل وتحكم فرضه حول الروس من كل الاتجاهات؛ سواء في إستونيا – لاتفيا – ليتوانيا وبولندا.
وما يهم بحق هنا هي “بولندا” التي تمثل الغابة الخلفية لمخاوف بوتين، وهي التي تستضيف على أراضيها منشأة عسكرية أمريكية تنتظر الافتتاح خلال العام الجاري وتوصف بأنها منشأة “غاية في الحساسية “، وتقع على بعد حوالي 160 كلم من الحدود الروسية وحوالي 1200 كلم من قلب العاصمة “موسكو”.
وما يحدث الآن يحيلنا إلى ستينيات القرن الماضي وتحديدًا إلى أزمة الصواريخ الكوبية التي كانت التالية على لائحة الخلافات بين الولايات المتحدة وكوبا بعد “خليج الخنازير” والذي حاولت فيه واشنطن دعم المتمردين في كوبا لإسقاط الشيوعية في الدولة التي تقع على حدودها، وذلك في أعقاب اتخاذ فيديل كاسترو إجراءات تأميم الشركات الأمريكية، وهي الإجراءات التي وجدها البيت الأبيض آنذاك إجراءات عدائية.
فما هو الرابط بين أزمة الصواريخ الكوبية وبولندا والأزمة الأوكرانية الحالية، عمومًا فإن أوجه الشبه أكثر من أن يتم إغفالها خصوصًا إذا ما كان الملك الروسي يجيد نشر جنوده ووضع الآخرين في “خانة اليك”.
رائحة أزمة الصواريخ الكوبية
في أكتوبر من العام 1962 اندلعت أزمة الصواريخ التي كادت أن تدفع العالم إلى حرب نووية. ولتوضيح خلفية جغرافية فإن كوبا هي جزيرة تقع على بعد 144 كلم تقريبًا عن الحدود الأمريكية، بما يعني أن أي وجود عسكري لروسيا الشيوعية آنذاك سواء بنفسها أو عن طريق أسلحتها يشكل مخاطر ضخمة بالنسبة للولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، فقد كان تهور الرئيس الأمريكي “كينيدي” في إعلان دعمه للمتمردين الكوبيين فيما عرف بخليج الخنازير أكبر الأثر في تعزيز مكانة “كاسترو” وتأهيله فيما بعد للتعاون بشكل مضاعف مع الروس؛ ذلك أن الرئيس الأمريكي تراجع في اللحظة الأخيرة عن دعم المتمردين الكوبيين بالطريقة العسكرية، ولكن قام بإرسال حوالي 1500 كوبي من المنفيين في الخارج لدعم نظرائهم في الداخل، حتى أنه تراجع عن توفير الغطاء العسكري الجوي مما أدى في النهاية إلى هزيمة المتمردين وتعزيز قبضة “فيديل كاسترو” على السلطة.
وكاسترو الذي كان قد وصل للسلطة مؤخرًا أراد إيجاد نوع من الردع للولايات المتحدة الأمريكية إذا ما تجرأت على فرض إرادتها بالقوة العسكرية على “كوبا”. وعلى تلك الخلفية لجأ إلى عقد صفقة صواريخ مع الروس لنشرها على الأراضي الكوبية وهي الصفقة التي سرعان ما تم افتضاح أمرها.
وقد تمكنت طائرات التجسس الأمريكية التي كانت تجيء وتذهب فوق الأجواء الكوبية من التقاط صور توضح مواقع عسكرية لإطلاق الصواريخ في كوبا، وفي نفس التوقيت تمكنت واشنطن المتأهبة ضد الشيوعية من رصد حوالي 20 سفينة سوفيتية في مياه الأطلسي وعلى متنها حمولة من الصواريخ النووية باتجاه كوبا التي تبعد عن الولايات المتحدة مسافة تجعل حياة ملايين المواطنين الأمريكيين على المحك. ولذلك كان أمام الأمريكيين وقت ضيق لاتخاذ القرار وبحث الحلول والتي لم يكن من ضمنها بالطبع “تجاهل” تلك الصواريخ.
وهو ما وضع الولايات المتحدة أمام خيارين: الأول عسكري ويتضمن حصار كوبا أو غزوها “برًا أو بحرًا أو جوًا” أو الثلاثة مجتمعين، أما الثاني فكان الخيار التفاوضي وهو ما استغله “كينيدي” وقرر بداية حصار كوبا لمنعها من استقبال المزيد من الصواريخ السوفيتية بحيث يمنح نفسه فسحة زمنية للتفاوض.
وعلى الرغم من أن “خروتشوف” أراد فرض إرادته، ولوح بأن السفن السوفيتية لن تعود حيث أتت؛ عاد الرجل وتراجع عن موقفه خوفًا من الانزلاق لحرب عالمية ثالثة قد تكون “نووية” هذه المرة – وعليه فقد بعث “خروتشوف” برسالة إلى “كينيدي” أنه في حال قام الأخير بفك الحصار عن كوبا والتعهد بعدم غزوها فإن السفن السوفيتية ستعود أدراجها.
ولكن روسيا التي تجيد الضغط والتفاوض على مدار تاريخها أكدت لكينيدي أن أعمال البناء والتشييد في منصات إطلاق الصواريخ في كوبا لن تتوقف قبل أن تقدم واشنطن بعض التنازلات هي الأخرى، وهنا لعبت موسكو بورقة الصواريخ الأمريكية في تركيا وطالبت بسحبها وهو ما حدث بالفعل ولكن “سرًا” وكل ما تقدم يأتي في إطار كيف يمكن أن توظف أوراق التفاوض لتجنب الحلول العسكرية المدمرة.
الطوق الأمريكي
يصر الناتو في كل مرة تتحدث فيها موسكو عن مخاطر القواعد العسكرية التي تحيط بها في بولندا ورومانيا بالتأكيد على أن هذا الوجود العسكري إنما هو لحماية الأوروبيين وليس لاستهداف الروس، ولكن الكرملين الذي يراقب الطوق وهو يضيق على وريثة الاتحاد السوفيتي شيئًا فشيئًا يريد النفاذ منه بأي طريقة وإن كان باستخدام ورقة الضغط الأوكراني تارة وورقة ضغط الغاز الروسي تارة أخرى.
ولذلك فقد يكون المستهدف الروسي من الأزمة الحالية في أوكرانيا ليست ” كييف” على وجه التحديد، بقدر الرغبة في التفاوض على الوضع في بولندا الذي يشكل أزمة حقيقية بالنسبة للروس الذين يستدعون مهاراتهم في الضغط والتفاوض منذ أزمة الصواريخ الكوبية.
وما يرجح هذا الاعتقاد أن المنشأة العسكرية الأمريكية التي توصف بأنها شديدة الحساسية سيتم افتتاحها في بولندا خلال العام الجاري وتستضيف المنشأة منظومة تعرف بـ” “ Aegis Ashore – وهي منظومة قادرة على تتبع الصواريخ المعادية واعتراضها، كما أن المنشأة تحتوي على قاذفات صواريخ يمكن تطويعها واستخدامها لإطلاق صواريخ هجومية.
وتقع المنشأة بالقرب من قرية Redzikowo التي لا يفصلها أكثر من 800 ميل من العاصمة ” موسكو”، ولذلك ينظر إلى الأزمة الحالية بأنها أبعد كثيرًا من أوكرانيا فالمخاطر متعددة في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، وروسيا محاصرة بشكل يعيد ذكريات الحرب الباردة.
لماذا بولندا؟
يشار إلى بولندا على الدوام بوصفها غير قادرة ذاتيًا على حماية أمنها القومي على الرغم من حجم إنفاقها العسكري والتحالفات التي تربطها بالآخرين، وهي على أقل تقدير غير قادرة على صون أمنها في مواجهة قوة “نووية ” مثل روسيا. ولذلك فإن وارسو مضطرة إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية حتى إشعار آخر.
ويمكننا التأكيد هنا على أن المخاوف الروسية من بولندا ليست مبنية على كونها تستضيف منشآت عسكرية أمريكية فقط –فهناك العديد من الدول التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية- ولكن في نفس الوقت تربطها علاقات جيدة مع موسكو؛ ولذلك فالأمر هنا أكثر ارتباطًا بكون “وارسو” تتخذ مواقف عدائية من موسكو.
ويمكن التدليل عليها بعدد من الأمثلة منها أنها كانت من الدول التي وقفت إلى جانب التشيك ضد موسكو وقامت على إثر ذلك بطرد ثلاثة دبلوماسيين روس من الأراضي البولندية كما استهدفت إسقاط الرئيس البيلاروسي” ألكسندر لوكاشينكو” لأنه موالٍ لروسيا، واتخذت نفس الموقف من الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا “فيكتور يانكوفيتش” في 2014.
وإذا كنا قد أفردنا مساحة للحديث عن أبعاد ودوافع المخاوف الروسية، فهناك مخاوف غربية أيضًا من التصعيد الحالي -ليس الغزو الأوكراني بأكثرها تشاؤمًا- فالغرب متخوف من أن تستدعي موسكو أزمة الصواريخ الكوبية وتقوم بنشر صواريخها على مقربة من السواحل الأمريكية في تهديد خفي وبعيد المدى عن الطموحات الروسية في أوكرانيا.
باحث أول بالمرصد المصري