الأمريكتان

كيف نقرأ الاحتجاجات في كندا؟

أعلن رئيس وزراء كندا جاستين ترودو إعلان حالة الطوارئ للمرة الثانية في التاريخ الكندي، وذلك على وقع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 22 يناير 2022 ولا تزال مستمرة حتى الآن. وكانت الاحتجاجات قد بدأت في واقع الأمر بشكل فئوي، على وقع احتجاج سائقي الشاحنات العملاقة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية على قيود التطعيم الخاصة بوباء كوفيد – 19، فتم شل حركة التبادل التجاري البري بين الدولتين، ما هدد بأزمة في سلاسل الإمداد في القارة الأمريكية.

ولكن المناخ العام المحتقن في كندا قد استقبل احتجاجات سائقي الشاحنات بتجاوب كبير، ودارت كرة الثلج، فانضم المئات من المواطنين إلى حركة الاحتجاج، وتمت محاصرة البرلمان، وتحولت الاحتجاجات إلى رفض عام للقيود التي وضعتها الحكومة الكندية بسبب وباء كوفيد–19، وطالبت الاحتجاجات الشعبية باستقالة رئيس الوزراء.

ورغم الطابع العمالي الذي بدأت عليه الاحتجاجات، إلا أن حزب المحافظين قد لعب دورًا كبيرًا في تنظيم احتجاج السائقين، ولاحقًا حالة الاحتجاج الشعبي؛ على ضوء حقيقة أن حزب المحافظين يرأس المعارضة السياسية أمام حكومة الحزب الليبرالي الذي يرأسه جاستين ترودو.

وانضم إلى الاحتجاجات عناصر حزب مافريك، وهو حزب يدعو إلى استقلال ولايات كندا الغربية أو الولايات الناطقة باللغة الإنجليزية، وتقع تلك الولايات في غرب وشمال كندا، الولايات الغربية هي كولومبيا البريطانية، وألبرتا، وساسكاتشوان، ومانيتوبا، والأقاليم الشمالية الثلاثة وتشمل: يوكون، نونافوت، ومنطقة الأقاليم الشمالية الغربية.

لماذا طالب المحتجون باستقالة جاستين ترودو؟

عقب الأزمة الاقتصادية العالمية (2008 – 2013) والتي أدت إلى صعود التيار القومي والحس الوطني على مستوى العالم، وخسارة الأحزاب النيوليبرالية (اليمين المحافظ التقليدي، الوسط الليبرالي، اليسار الاشتراكي، الخضر) لشعبيتها في أوروبا مقابل التيار القومي (اليمين القومي الجديد، اليسار القومي الجديد)؛ صدرت توصيات بحتمية الاهتمام بالأقليات الديموجرافية والانتخابية من أجل توحيدها في كتلة انتخابية توازن الكتلة القومية الوطنية الساعية لإسقاط الأحزاب الموالية للعولمة والنيوليبرالية الرأسمالية الدولية.

وهكذا، خرجت أفكار الصوابية السياسية وبدأ الغرب يفهم أنه إذا ما تم الاهتمام بالسكان من أصول أفريقية وآسيوية وعربية وإسلامية وهندية وتوطين اللاجئين من دول الحرب على الإرهاب ودول الربيع العربي؛ فإن الغرب سوف يحصل على كتلة انتخابية كبرى قادرة على هزيمة كتلة السكان الأصليين الذين أصبحوا ينتخبون الأحزاب القومية والوطنية.

وعبر أصوات الأقليات وتلك الثورة في التركيبة الديموغرافية، انتخب باراك حسين أوباما رئيسًا لأمريكا عامي 2008 و2012، وكانت تلك الأصوات هي الحصان الرابح لانتخاب جو بايدن في انتخابات 2020، واختيار الاشتراكي أولاف شولتس مستشارًا لألمانيا عام 2021، وصادق خان عمدة للندن في انتخابات 2016 و2021. ولكن التجربة الأكبر لم تكن من نصيب هؤلاء، ولكن من نصيب جاستن ترودو رئيس الحزب الليبرالي الكندي.

ورث ترودو العمل السياسي عن أبيه بيير ترودو الذي شغل منصب رئيس وزراء كندا لأربع ولايات، ثلاث منها متتالية ما بين عامي 1968 و1979 والرابعة ما بين عامي 1980 و1984. وقد أيقن جاستن ترودو أن لعبة إرضاء الأقليات وتوطين اللاجئين هي سبيله الوحيد للبقاء في السلطة فور ظفر حزبه الليبرالي بنتائج انتخابات 2015 البرلمانية. وقسم جاستن ترودو مجلس وزرائه على طريقة المحاصصة الطائفية والعرقية، فأصبحت هناك حصص وزارية ثابتة في وزارته للمسلمين والعرب والهنود والأفارقة والآسيويين.

وقد انطبع ذلك على سياسات ترودو الخارجية؛ إذ أبدى اهتمامًا فائقًا بالشؤون الهندية، مما أضر بالعلاقات بين البلدين، خصوصًا حينما دعم ترودو بتصريحاته احتجاجات السيخ وجعلها قضية كندية انتخابية من أجل كسب أصوات الكنديين السيخ. علمًا بأن ترودو قد عيّن سياسيًا هنديًا سيخيًا هو “هارجيت ساجان” في منصب وزير الدفاع ما بين عامي 2015 و2021 وسمح له بارتداء العمامة السيخية على رأس المؤسسة العسكرية الكندية.

وعين كذلك الأفغانية مريم منصف في منصب وزيرة شؤون المرأة والمساواة، والهندية برديش جيكر وزيرة للسياحة، والصومالي أحمد حسين وزيرًا للإسكان، والسوري عمر الغبرا وزيرًا للنقل، والصينية ماري نج وزيرة للتجارة الدولية. ومن البنجاب الهندي، تم تعيين كمال خيرا وزيرة الدولة لشؤون المسنين. واستكمالًا لقواميس الصوابية السياسية، تم تعيين باسكال سيتونج وزيرة للرياضة لتصبح أول وزيرة مثلية في تاريخ كندا.

وأطلق ترودو أكبر حملة لجلب اللاجئين السوريين وتوطينهم في كندا، دون النظر إلى انتماء هؤلاء اللاجئين إلى تنظيمات الإسلام السياسي من عدمه، ما جعل اسم جاستين ترودو أيقونة حقيقية في إعلام التنظيم الدولي للإخوان، وأثار موجة من الانتقادات والمخاوف الوطنية من تسلسل إرهاب الربيع العربي إلى كندا.

ولم يصمت الشعب الكندي، وخسر ترودو التصويت الشعبي والأغلبية البرلمانية في انتخابات 2019، ولكن نظرًا لعدم نجاح أحزاب المعارضة في الحصول على الأغلبية المناسبة لتشكيل الوزارة، شكل ترودو وزارته الثانية تحت عنوان “حكومة أقلية”، على أمل أن يخلق مناخًا سياسيًا مناسبًا لتحسين شعبيته والعودة إلى الأغلبية البرلمانية.

وفى عام 2021، شعر ترودو بأن شعبيته قد انتعشت، وهكذا دعا إلى انتخابات مبكرة، وللمرة الثانية على التوالي يخسر ترودو التصويت الشعبي والأغلبية البرلمانية، وللمرة الثانية يشكل حكومة أقلية في عوار صريح بحق النظام الانتخابي الكندي والديمقراطية الكندية. لذا لم يكن الشارع الكندي ينتظر أكثر من شرارة من أجل الانتفاضة ضد حكم رئيس الوزراء النيوليبرالي.

موقف المعارضة الكندية

يعد حزب المحافظين ثاني أكبر حزب في البلاد مع الحزب الليبرالي، وقد مارس الحزب مراجعة فكرية صارمة عبر عدم قدرة الحزب على ترجمة هزيمة جاستين ترودو مرتين في التصويت الشعبي وتشكيله حكومات أقلية، المرة الأولى عقب انتخابات 2019 حينما استقال رئيس الحزب اندرو شير رئيس البرلمان الأسبق، وعقب انتخابات 2021 حينما استقال أرين أوتول وزير شؤون المحاربين القدامى الأسبق. واسفرت تلك المراجعات عن تصعيد جيل جديد من الشباب والنساء داخل الحزب المحافظ، ما أسفر عن انتخاب وزيرة التنمية الاجتماعية السابقة كانديس بيرجن لرئاسة الحزب بداية من 2 فبراير 2022.

ولكن السلطات الكندية تشير إلى حزب مافريك The Maverick Party بوصفه المنظم الأول لاحتجاجات سائقي الشاحنات منذ اللحظة الأولى، ويتزعم الحزب الذي ينتمي إلى تيار اليمين القومي حركة ويكست Wexit Canada الداعية إلى انفصال “الغرب الكندي” أو “كندا الغربية”. وهذه الحركة بنيت على إرث طويل من الحركات الانفصالية في ولايات الغرب تحت مسمى “حركات انفصال البرتا” وهي الولاية الغربية التي كانت معقل تلك الجماعات.

وتعود أفكار انفصال غرب كندا إلى عام 1930، تحت مسمى “تهميش مناطق الغرب” على يد الحكومة الفيدرالية التي لم تراعِ الاختلاف الاقتصادي والتجاري والزراعي وحتى الثقافي بين الشرق الناطق بالفرنسية والغرب الناطق بالإنجليزية. وفى واقع الأمر أن السياسات الخاطئة للحكومة الفيدرالية الكندية حيال الغرب الكندي شديدة الشبه بسياسات الحكومة الفيدرالية الأمريكية حيال الجنوب الأمريكي في القرن التاسع عشر، ما أدى إلى اندلاع الحرب الاهلية الأمريكية؛ اذ يمكن القول إن الأسباب واحدة، وخلفت نفس المظلومية التاريخية، وفشلت واشنطن في تفكيك مظلومية الجنوب الأمريكي، وفشلت أوتاوا في تفكيك مظلومية الغرب الكندي.

وحركات انفصال الغرب على ضوء التهميش الحكومي لها تاريخ تأسيس ثانٍ عام 1980 على ضوء قرارات الحزب الليبرالي، وللمفارقة فإن رئيس الحزب والوزارة وقتذاك هو بيير ترودو والد رئيس الوزراء الحالي، ما أعطى بعدًا دراميًا وعائليًا للاحتجاجات الشعبية الكندية الحالية.

ولم تتوقف أنشطة المعارضة الكندية على تحرك حزب المحافظين وحركات استقلال الغرب الكندي، ولكن أيضًا تم استغلال مناخ حرية تداول السلاح في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو مناخ يسمح بتشكيل ميلشيات محلية مسلحة بشكل قانوني، وهو ما دأبت عليه الحركات القومية الأمريكية والكندية منذ عقود.

هذه الميلشيات القومية الكندية والأمريكية ظهرت على الحدود بين البلدين، وتم توقيف العديد من عناصرها المسلحة بكامل العتاد المسلح عقب مخالفتها القانون والمشاركة في المظاهرات السياسية بالسلاح.

انتقادات تفعيل قانون الطوارئ

مع إعلان رئيس الوزراء جاستين ترودو لحالة الطوارئ يوم الاثنين 14 فبراير 2022، انفجرت موجة من الانتقادات المحلية بوجه ترودو؛ إذ سبق للحكومة الكندية أن نددت بقوانين الطوارئ وإجراءات الطوارئ في العديد من الدول التي شهدت أعمال شغب تحولت إلى سلسلة من العمليات الإرهابية.

مُنتقدو رئيس الوزراء الكندي أكدوا أن ترودو دعم المزارعين الهنود الذين أغلقوا الطرق السريعة المؤدية إلى نيودلهي أثناء احتجاجات السيخ عام 2021، وعرضوا الموقفين معًا للإشارة إلى تناقض الخطاب السياسي الكندي. فحينما كانت المظاهرات وقطع الطرق والمخاطر الإرهابية تحدث في الشرق الأوسط والهند، كان جاستين ترودو يثور على تلك الحكومات ويتدخل كما لو كان طرفًا في تلك الأزمات المحلية، ولكن ما إن واجهت كندا نفس المخاطر اتضح أن قوانين الطوارئ موجودة بالغرب ويتم تفعيلها بوجه المتظاهرين.

وقامت الحكومة الكندية بتجميد الأرصدة البنكية لقادة الحراك الشعبي وقادة الحراك الرافض للإجراءات الحكومية الخاصة بالتطعيم حيال كوفيد – 19، وتعليق تأمين سيارات المشاركين في المظاهرات.

ولكل ولاية/إقليم في كندا رئيس وزراء محلي منتخب، وكان ملاحظًا مدى الانقسام الكندي على وقع إعلان حالة الطوارئ؛ إذ أيده رئيس وزراء إقليم أونتاريو، ولكن رؤساء الوزارات في أربعة أقاليم، ألبرتا وكيبيك ومانيتوبا وساسكاتشوان، قد عارضوا الخطة.

وعلى ضوء استمرار الحراك الشعبي، سارعت الحكومة الكندية إلى اتخاذ التدابير اللازمة عبر تفعيل المزيد من بنود قانون الطوارئ، وتم توقيف اثنين من أبرز قادة الحراك وهما الناشطة تامارا لينش من حزب مافريك، والناشط كريس باربر وذلك ليل الخميس 17 فبراير 2022.

حراك عالمي ضد كوفيد

شكل الحراك ضد قرارات الحكومات في زمن الوباء بمثابة ثورة عالمية جماعية لا يوجد لها منسق أو هيكل محدد، ولكنها ثورة عامة عالمية جرت منذ الأشهر الأولى من عام 2020 حينما بدأت بعض الحركات السياسية والشعبية تنشر تحليلات سياسية حول وجود مؤامرة دولية حول وباء كورونا، وأن بعض الحكومات تتحرك وفقًا لأجندة شبكات المصالح الغربية والعولمة الأمريكية والنيوليبرالية الرأسمالية الدولية.

وعلى إثر تلك الأفكار التي قام التيار القومي برعايتها بوجه التيار النيوليبرالي، إضافة إلى سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية حول العالم عقب “الإغلاق الكبير”، وصولًا إلى اندلاع أزمة اقتصادية عالمية مصغرة بداية من أكتوبر 2021، وظهور متحور دلتا ومتحور أوميكرون؛ فإن الشعوب قد بدأت تتجاوب مع تلك الأفكار والدعوات للتظاهر من أجل إسقاط الحكومات التي تتشدد في إجراءات الحماية والغلق والتطعيم، أو تتراخى في إنقاذ كبار السن ومن لا تشملهم أنظمة الرعاية الصحية.

ولم تكن كندا هي أول دولة، فمنذ 15 مارس 2020 يشهد العالم ما يمكن تسميته الثورة العالمية الثانية، على اعتبار أن الثورة العالمية الاولي كانت ما بين عامي 2008 و2013 لمناهضة تداعيات الأزمة الاقتصادية الكبرى، ما أدى إلى ميلاد التيار القومي الموجود حول العالم اليوم. ولكن الثورة العالمية الثانية كانت ضد الإغلاق anti-lockdown والمصل/اللقاح/التطعيم anti-vaccination والارتداء الإجباري لقناع الوجه anti-mask.

وعلى وقع الاحتجاجات الكندية، نظم نشطاء في 35 دولة حول العالم عبر تطبيق فيس بوك وتليجرام موعدًا لاحتجاجات مماثلة، ووجدت صدىً شعبيًا في شوارع الأرجنتين والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا ونيوزيلاندا. وقد رصد الأمن في فنلندا تورط الجماعات القومية مثل أسود الفاشية الجديدة وحركة الأزرق، إضافة إلى تنظيم جنود أودين، في محاولة لتنظيم احتجاجات مماثلة. وكذا في ألمانيا، حاولت حركة الرايخبرجر Reichsbürger movement (حركة مواطنو الرايخ) وحزب البديل الألماني المعارض تنظيم احتجاجات، ولكن كافة تلك المحاولات فشلت على ضوء الاستعداد الأمني.

وفى فرنسا حاول نشطاء حركات السترات الصفراء تنظيم قوافل للزحف إلى العاصمة باريس ما بين يومي 11 فبراير و14 فبراير 2022، ولكن جرى استنفار أمني هائل في المدن الفرنسية المتاخمة للعاصمة، وانتشر رجال الشرطة مستخدمين الغاز المسيل للدموع، وتم تحرير مخالفات باهظة الثمن للسيارات المشاركة في الاحتجاجات.

الشرق يسعي إلى انفصال “كندا الفرنسية”

كندا دولة اتحادية (فيدرالية) تتكون من 10 مقاطعات وثلاثة أقاليم، تابعة للتاج البريطاني؛ إذ يعتبر ملك بريطانيا هو ملك كندا. وقامت بريطانيا بتنظيم الدولة الكندية وإعلان قيام كندا عام 1867، وذلك عقب انسحاب فرنسا من مستعمراتها في أمريكا الشمالية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

C:\Users\user\Downloads\Political_map_of_Canada_ar.png

ورغم أن الغرب الكندي يتهم الحكومة بالتهميش ويموج بالحركات الانفصالية، فإن كيبيك في شرق كندا أيضًا تضم حركات انفصالية تتحدث عن العودة للوطن الأم فرنسا، أو على الأقل إعلان جمهورية فرنسية مستقلة عن كندا الواقعة تحت التاج البريطاني.

أما حركات الانفصال في الغرب الكندي فلا يعرف موقفها على وجه التحديد من التاج البريطاني، هل دولة “كندا الغربية” سوف تظل تحت التاج البريطاني، أم أن هذا هو مشروع جمهورية كندية ناطقة بالفرنسية أمام مشروع جمهورية كيبيك.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى