
أصداء مرتقبة.. موقع الشرق الأوسط في معادلة الحرب والتهدئة بين روسيا والغرب
على الرغم من تباعد الحدود الجغرافية، إلا أن العالم بات أكثر تشابكًا وتقاربًا، بحيث يمكن أن تؤثر أزمات الغرب على تفاعلات الشرق، ويمكن أن تمتد تداعيات نشوب صراع في منطقة ما على دول أخرى لا تقع في النطاق الجغرافي لمنطقة الاشتباك. وعليه قد لا ينفصل الصراع الدائر بين روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى عن منطقة الشرق الأوسط.
فعلى الرغم من مساعي التهدئة عبر الأدوات الدبلوماسية ومحاولات منع الاشتباك من خلال جهود الوساطة ومساعي بعض الأطراف للحد من التوتر، إلا أن تلك الجهود لا تضمن بشكل كامل الابتعاد عن السيناريو الذي يخشاه الجميع والذي يدور حول قيام موسكو بغزو كييف، خاصة أن بعض التقديرات الغربية تشير إلى احتمالية وقوع الغزو في النصف الثاني من فبراير، ما يعني الدخول في حرب مفتوحة ومواجهة شاملة تضع العالم أمام حرب عالمية ثالثة. وفي حال حدوث تلك المواجهة قد تقود إلى تشكيل التحالفات وفرض قواعد جديدة للنظام الدولي.
تأثيرات محتملة
يمكننا الوقوف على التأثيرات المحتملة للغزو الروسي لأوكرانيا –حال حدوثه- على منطقة الشرق الأوسط والتي تباينت التقديرات بشأنها، ففي الوقت الذي يُرجح البعض أن أصداء الغزو ستكون حاضرة في القضايا الكبرى والملفات الشائكة في الشرق الأوسط، تؤكد الرؤى الأخرى أن الارتباط المباشر بين الأزمة الأوكرانية والشرق الأوسط يظل محدودًا.
أولًا) مباحثات فيينا النووية: يُنظر إلى الملف النووي الإيراني بوصفه أحد أبرز القضايا التي يمكن أن تتأثر بالأزمة الأوكرانية؛ وذلك لأن كافة الأطراف المنخرطة في المفاوضات تلعب بدرجات متفاوتة دورًا على مسرح الأزمة الأوكرانية، ومن هنا يمكن أن تنعكس الحرب بين روسيا والغرب على مجمل المباحثات في فيينا والتي توقع البعض أن تشهد الجولة الثامنة التوصل إلى تفاهمات نهائية، وذلك قبل تصريحات وزير الخارجية الروسي (10 فبراير) بأن الطريق ما زال طويلًا لإحياء الاتفاق النووي، وعلى ذات المنوال، أشار الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” (11 فبراير) إلى أن طهران لا تعول على مفاوضات فيينا والعلاقة مع واشنطن.
وعليه، تأتي هذه المواقف في اتجاه مضاد لما كانت عليه التوقعات، والتي عولت على حدوث انفراجة خلال الجولة الثامنة من المباحثات. ومن هنا يمكن أن يؤثر التصعيد المحتمل بين روسيا والغرب على الملف النووي الإيراني في ضوء قيام موسكو بتوظيف دورها المؤثر في تلك المباحثات للضغط على الولايات المتحدة والغرب، وفقًا لهذا التصور فلن تقوم روسيا بممارسة أية ضغوط على طهران للتوصل إلى تفاهمات سريعة كورقة يمكن أن تساوم بها الغرب.
هذا بجانب أن توقيت الأزمة الأوكرانية وتشابك الأطراف قد يؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات لدى الولايات المتحدة والقوى الغربية، بحيث ينصب تركيزها على الحرب المحتملة إذ ما قررت موسكو غزو كييف، ما يمنح طهران مزيدًا من الوقت لإطالة أمد المفاوضات، ومحاولة انتزاع مزيد من التنازلات من الولايات المتحدة الأمريكية.
من ناحية أخرى، رأت بعض التقديرات أن الأزمة الأوكرانية قد تدفع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب إلى التوصل إلى اتفاق نهائي؛ إذ يفتح الاتفاق حال حدوثه الباب أمام إيران لضخ النفط في الأسواق العالمية، ما قد يؤدي إلى تخفيف أزمة الطاقة في أوروبا والتي يمكن أن تتصاعد في حالة الغزو ومع فصل الشتاء، حيث يمكن لطهران أن تسهم في إمدادات تقدر بنحو 1.3 مليون برميل يوميًا، وذلك بعد أن أوقفت العقوبات الأمريكية تصدير إيران لنحو 1.8 مليار برميل منذ 2018 وحتى الربع الأول من العام الماضي.
ثانيًا) ترويج موسكو لنفسها كحليف بديل: يبدو أن أحد المكاسب الكبرى التي تعمل موسكو على تأكيدها هو أن النظام الدولي على أعتاب مرحلة جديدة من التحول إلى نظام يتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القطب المهيمن منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، إلى نظام متعدد الأقطاب والتحالفات والذي يسمح بعودة موسكو إلى الساحة الدولية عبر امتلاكها أدوات التأثير السياسي والعسكري، مع محاولة تعزيز وضعها الاقتصادي عبر التقارب مع بكين، وهو ما عكسه إعلان البلدين عن الدخول في مرحلة جديدة من العلاقات تتجاوز التحالفات السياسية والعسكرية في الحرب الباردة، فقد أكد البيان المشترك بين الصين وروسيا (4 فبراير 2022) أنه لا حدود للشراكة بين الدولتين، ما يعني أن التعاون سيمتد إلى كافة المجالات بلا أية قيود.
انطلاقًا من هذا التوجه نحو تشكيل النظام العالمي الجديد، ستعمل روسيا على تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وخلق شبكة من الحلفاء الجدد، والترويج لنفسها كحليف موثوق فيه، خاصة بعدما اهتزت صورة الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، وتوجهها إلى تقليل الانخراط في الشرق الأوسط لصالح منطقة الإندو-باسيفيك؛ لاحتواء النفوذ الصيني المتصاعد.
وعليه يبدو أن روسيا ستعمل على ملء الفراغ الناجم عن الاستدارة الأمريكية صوب آسيا، والعمل على توظيفها لبسط نفوذها أو على الأقل توسيع في منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن التدخل الروسي في سوريا 2015 سمح لها بتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث يعتبر الانتشار الأول من نوعه للقوات الروسية في الخارج منذ الحرب الباردة، والذي سمح لها بتعزيز نفوذها العسكري عبر قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية. وكذا، أتاحت الأزمة الليبية مساحة نفوذ إضافية لروسيا في الصراعات في منطقة الشرق الأوسط.
ثالثًا) زيادة نفوذ أنقرة وطهران، يمكن أن يمثل الغزو الروسي –حال حدوثه- فرصة أو مكسبًا لبعض القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط؛ بهدف توسيع نفوذها الإقليمي. ولعل محاولات الرئيس التركي “أردوغان” للتوسط في الأزمة دليل على رغبة أنقرة في فرض نفسها كجزء من المعادلة الراهنة، خاصة أنها ترتبط بدرجات متفاوتة بأطراف الأزمة، كونها عضوًا في حلف الناتو، وتتمتع بعلاقات وطيدة مع كل من كييف وموسكو. وفي هذا الإطار يمكن أن تمثل الأزمة فرصة توظفها تركيا لفرض نفوذها، والترويج لكونها رقمًا في معادلة فرض الأمن الأوروبي.
ومن ثم يمكن أن تتسبب الأزمة في إعادة إصلاح العلاقة مع الغرب -ولو جزئيًا- وتخفيف حدة الانتقادات الموجهة لتركيا على خلفية أزمات الداخل والسياسات التوسعية في الخارج، ما يمنح النظام التركي مزيدًا من المرونة، ويحد من الضغوط التي يتعرض لها، إلا أن ذلك قد يصطدم بالعلاقة بين موسكو وتركيا والتي قد تفرض قيودًا على تركيا لعدد من الاعتبارات من بينها حاجة أنقرة إلى موسكو في عدد من الساحات وعلى رأسها سوريا، علاوة على العلاقات التجارية والاقتصادية والدور الذي تلعبه السياحة الروسية في إنعاش الأوضاع الاقتصادية في تركيا، فضلًا عن المصالح المرتبطة بالطاقة.
ومن هنا، تحتاج تركيا إلى حسابات دقيقة في حال وقوع غزو؛ إذ قد تجد نفسها في وضع يفرض عليها الاختيار بين الغرب أو روسيا. ورغم ذلك لا يُرجح الوصول إلى تلك المعادلة في ظل مؤشرات التهدئة التي برزت مؤخرًا.
من ناحية أخرى، يمكن أن تمنح الأزمة إيران ووكلاءها مزيدًا من الحركة في الإقليم، خاصة أن الشغل الشاغل في الوقت الراهن بات يدور حول احتواء روسيا أو الاستعداد لمرحلة ما بعد الغزو، ما يضع إيران رغم ما يمثله المشروع الإيراني من تحدٍ للولايات المتحدة وحلفائها في مرتبه تالية للتعاطي مع روسيا والصين، ومن هنا قد تستغل طهران توجيه الاهتمام الدولي تجاه أوكرانيا لخدمة استراتيجيتها في المنطقة.
رابعًا) مأزق إسرائيلي مُحتمل: قد تجد تل أبيب نفسها في وضع مُتأزم في حال نشوب حرب أو قيام موسكو بغزو أوكرانيا؛ وذلك لعدد من الاعتبارات من بينها التقارب بين إسرائيل وأوكرانيا على مختلف المستويات؛ إذ تُعد كييف أحد العواصم التي وقعت على اتفاقية تجارة حرة مع تل أبيب، وتعد سوقًا ومصدرًا مهمًا لشركات إسرائيل العاملة في مجال التكنولوجيا. وقد أشارت تقارير –مؤخرًا- إلى طلب أوكرانيا الحصول على أنظمة دفاع جوي وسيبراني من إسرائيل.
من ناحية أخرى، تفرض العلاقات الإسرائيلية الأمريكية ودور الأخير في حفظ وضمان أمن إسرائيل نفسها على المعادلة، وتمثل روسيا أهمية كبرى بالنسبة لإسرائيل خاصة فيما يتعلق بالضربات الإسرائيلية على تمركزات خاصة بإيران وحزب الله في سوريا، والذي يمكن أن تلعب روسيا دورًا مؤثرًا فيه إذا ما أرادت أن تكبح أو تقيد من الضربات الإسرائيلية؛ نظرًا لنفوذها وسيطرتها على المجال الجوي السوري. ومن هنا يمكن تفهُم رفض إسرائيل بيع منظومة القبة الحديدية لأوكرانيا خشية أن تغضب موسكو.
وعليه ترى دوائر صنع القرار الإسرائيلية أن موقع روسيا في الشرق الأوسط مع تغيير أولويات واشنطن والتوجه إلى المحيط الهادئ يحتم عليها عدم الانحياز صراحة لطرف على حساب الآخر؛ فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لن تتراجع عن دورها كصمام أمان وضامن لأمن إسرائيل، إلا أن وضع موسكو الراهن والمستقبلي كقوة مقيمة في الجوار الإسرائيلي يدفعها لتبني موقفًا محايدًا في حال وقوع الغزو.
من ناحية أخرى، قد تجد إسرائيل نفسها في حاجة لاستقبال عدد من المهاجرين اليهود المقيمين في أوكرانيا؛ إذ تشير التقديرات إلى أن الجالية اليهودية تتراوح ما بين 48 إلى 75 ألف مواطن مؤهلين للعودة إلى إسرائيل في حالة حدوث غزو أو اشتباك مسلح.
خامسًا) تحديات غذائية وإنسانية مرتقبة: يمكن أن ينتج عن تفاقم الأوضاع على الحدود الأوكرانية تأثيرات تتعلق بالأمن الغذائي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، خاصة في ظل محورية أوكرانيا وموسكو فيما يرتبط بصادرات الحبوب؛ إذ يسيطر البلدان على ثلث صادرات القمح عالميًا، وعليه يُنظر إلى الحبوب والصادرات الزراعية التي تمر عبر البحر الأسود لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أنها قد تتأثر بشكل كبير في حال الوصول لنقطة الاشتباك.
وفي هذا السياق، تشير التقديرات إلى أن نحو 50٪ من صادرات أوكرانيا من القمح توجه إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عام2020؛ إذ يعتمد اليمن على نحو 22% وليبيا 43% من استهلاكها للقمح الأوكراني، فضلًا عن أن لبنان يعتمد على ما يقرب من نصف وارداتها على القمح الأوكراني، ما يعني أن هذه البلاد قد تتأثر بشكل كبير خاصة مع ارتفاع الأسعار المحتمل، والذي قد يقابله نقص في المخزون لدى البلدان التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني.
على ذات المنوال تعد مصر من أكبر دول الشرق الأوسط والعالم استيرادًا للقمح، إلا أن حدود التأثير على مصر قد تكون محدودة، خاصة في ظل المخزون الاستراتيجي من الحبوب والذي يكفي لأكثر من 5 أشهر، علاوة على البدائل المتاحة أمام مصر والتي تتوفر لديها عبر تنويع مصادر استيرادها للقمح دون الارتكاز فقط على المصدر الروسي والأوكراني. ناهيك عن خطة مصر لزيادة إنتاجية القمح؛ إذ تستهدف الدولة المصرية الوصول بالإنتاج إلى نحو 14.2 مليون طن خلال عام 2025، بجانب أنها توسعت في زراعة القمح بقيمة بلغت 3.2 مليون فدانًا خلال عام2020.
يضاف إلى ذلك التأثيرات المحتملة على الصعيد الإنساني، خاصة في المناطق التي تشهد صراعات مسلحة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يمكن أن تؤدي حالة الاشتباك إلى تراجع الجهود الدولية الرامية لتسوية تلك الصراعات؛ إذ إن أية تصعيد يعني تراجع أولويات حلحلة تلك الصراعات، ما يعني تجدد دورات العنف في تلك الميادين. وكذا، يمكن أن تتأثر الجهود الإنسانية والإغاثية، علاوة على التأثير على جهود إعادة الإعمار التي يمكن أن تعقب تسوية أزمات منطقة الشرق الأوسط.
في الأخير، لا شك أن تـأثيرات سيناريو الحرب –وإن كان غير مرجح- ستنعكس بشكل مباشر على خريطة التفاعلات والتحالفات في منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن أن أصداء تلك المواجهة قد تمنح الضوء لعدد من القوى الإقليمية للبحث عن تمديد وتوسيع نفوذها في الإقليم، إلا أن تشكيل هذا النفوذ ومساعي الهيمنة قد تصطدم بجملة من الحسابات المعقدة، خاصة أن منطقة الشرق الأوسط تشهد في الوقت الراهن عددًا من التحولات التي سوف تؤثر على مسار الحركة المستقبلية، سواء للفاعلين من داخل المنطقة أو خارجها.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع