اختتمت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك زيارتها الأولى إلى منطقة الشرق الأوسط بزيارتها إلى مصر، مما يعبر عن متانة العلاقات المصرية الألمانية، والتي يحتفل البلدان بمرور ما يناهز 65 سنة على بدئها في عام 1957. فبعد “حقبة ميركل” التي شهدت تطورًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين على عديد المستويات، تأتي حكومة السيد أولاف شولتز حديثة العهد وهي تقدر الوزن النسبي للدور المصري وحجمه وأهميته على الساحة الإقليمية، وكون مصر فاعل رئيس في أهم الملفات المؤثرة على المستويين الإقليمي والعالمي.
تطور العلاقات
شهدت العلاقات الثنائية بين القاهرة وبرلين استقرارًا واستدامة على مدى السنوات الـ 70 الماضية، لكن ينظر المحللون إلى السنوات السبع الأخيرة على أنها حملت تحولًا جذريًا في شكل العلاقات، لتتعدى أطر العلاقات الثنائية التقليدية إلى واقع أكثر شمولًا؛ فقد تعددت أوجه ومجالات التعاون بين البلدين لتشمل مجالات جديدة بخلاف مجالات التعاون المعروفة.
وكان الدافع الأساسي لهذا التطور هو التشاور المكثف والتنسيق والتواصل المستمر بين الإدارتين المصرية والألمانية؛ فقد قام الرئيس السيسي بزيارة ألمانيا أربع مرات منذ زيارته الأولى والتاريخية في 2015. وقامت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بزيارة مصر مرتين في مارس 2017 وفبراير 2019.
ذلك بخلاف الزيارات الوزارية والبرلمانية المتعددة بين البلدين والتي كان أهمها زيارة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مع وفد من الوزراء وكبار رجال الأعمال المصريين إلى ألمانيا مرتين في أقل من 6 أشهر لتعميق التنسيق والتعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والاستثمار، والاستفادة من الخبرات الألمانية، والتعاون الثقافي والعلمي والسياحي، ومجالات أخرى كالطاقة النظيفة وغيرها من الملفات ذات الاهتمام المشتركة.
وهو ما يدلل على مدى التطور الذي شهدته العلاقات بين البلدين في الأعوام الأخيرة. ناهيك عن عدد ضخم من المشروعات المشتركة في مختلف المجالات؛ بهدف دعم رؤية مصر التنموية وسعيها نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
أهمية الزيارة
وبالعودة إلى الحاضر وزيارة وزيرة الخارجية الألمانية “الجديدة” أنالينا بيربوك إلى القاهرة، فهي في حد ذاتها توضح حرص الإدارة الألمانية الجديدة على “استدامة التطور” في العلاقات بين برلين والقاهرة. ولذلك عدة شواهد وأسباب لدى الجانب الألماني؛ ففي ظل الوضع الإقليمي المتأرجح تسعى حكومة شولتز إلى دور أوضح لتلعبه بهدف تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
ولطالما توافق البلدان على معظم القضايا الإقليمية والدولية، لذلك تجد برلين في القاهرة لاعبًا لا غنى عنه لتعزيز السلام وتحقيق الاستقرار في المنطقة، من منطلق دورها العربي الريادي والإفريقي التنموي. فضلًا عن البحث عن التأييد ودعم المواقف في الملفات الشائكة كالأزمة الأوكرانية الروسية؛ كون القاهرة صاحبة الوزن النسبي الأثقل في المنطقة.
الملفات المشتركة
- الصراعات الإقليمية ومكافحة الإرهاب
يعد ملف الصراعات الإقليمية هو الملف الأبرز في اهتمامات البلدين، فكل من القاهرة وبرلين يقفان على نفس الخط من الأزمة في ليبيا وضرورة خروج المرتزقة والعناصر الإرهابية والمليشيات منها، والعودة لمسار برلين، وهو ما أكدته مخرجات اللقاء الوزاري بين الوزير سامح شكري ونظيرته الألمانية بيربوك.
فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تقدر برلين الدور المحوري الذي لعبته القاهرة لفرض التهدئة مايو الماضي إبان حرب غزة الرابعة، علاوة على أنها ترى القاهرة حجر الزاوية لبقاء الهدنة بين الطرفين، والوصول إلى حل مستقبلًا، وهو ما أكدته الوزيرة في تصريحاتها للإعلام بعد لقائها بالوزير شكري.
وفيما يتعلق باليمن، يبحث البلدان عن سبل لخفض حدة الصراع وإيقاف المعاناة الإنسانية والحفاظ على أمن النقل البحري المهمة بالنسبة لهما في منطقة القرن الإفريقي، الأمر الذي تقوم القوات البحرية المصرية بدور مشهود فيه.
أما في سوريا، فترى الإدارة الجديدة في ألمانيا امتدادًا لأفكار المستشارة السابقة ميركل أن الدبلوماسية هي الطريق للحل، وهو الطرح ذاته الذي تراه القاهرة أنسب كخارطة طريق للخروج من حرب مستمرة لـ11 عامًا ، فعلى الرغم من مشاركتها في تكوين التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش في سوريا والعراق عام2015 إلا أن ألمانيا تمكنت من الحفاظ على نفسها في شكل “وسيط محايد” يمكن الاعتماد عليه في المباحثات الدبلوماسية وخفض التصعيد بين القوى الموجودة على الساحة السورية، وهو الدور المتقدم الذي يسعى البلدان من خلال التنسيق المشترك والتعاون إلى الوصول إلى أقصى درجات التهدئة بين الأطراف سواء السورية الداخلية أو الفاعلين الإقليميين بالأزمة.
وفيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، تتفق وجهات النظر المصرية والألمانية حول ضرورة تجفيف منابع الإرهاب الفكري، والقضاء على وجود التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وكان لمصر نجاح كبير في ذلك بإنهائها على الإرهاب في سيناء، وهو ما تقدره ألمانيا بشده؛ بالأخص مع حرصها على القضاء على الفكر المتطرف في المنطقة والذي تخشى من إضراره بها، فوفقًا لآخر الأرقام المعلنة من وزارة الخارجية الألمانية انضم ما يزيد على 1000 ألماني إلى صفوف تنظيم داعش منذ 2015.
- الهجرة غير الشرعية
يعد ملف الهجرة غير الشرعية أحد أهم ملفات التعاون المشترك بين مصر وألمانيا، وهو الملف الذي يستدعي تنسيقًا مستمرًا حاله حال الملفات الأمنية وملفات الصراعات الإقليمية، وهو ما كان خلال حقبة ميركل. وتسعى حكومة شولتز إلى استمرار النجاح المشترك فيه. إذ تقوم ألمانيا بلعب دور حيوي في الملف من خلال دعم العملية التنموية في القارة الإفريقية ومنطقة الشمال الإفريقي لخلق الفرص والاستثمارات الوطنية؛ بهدف رفع الحالة الاقتصادية للمجتمعات الإفريقية كسبيل للتقليل من الهجرات غير الشرعية.
بدورها تقوم مصر باستضافة ملايين اللاجئين من دول الصراع في المنطقة، وقامت خلال السنوات الخمس الماضية بتجفيف كل طرق الهجرة غير النظامية من أراضيها ولم تقم بالإتجار بورقة المهاجرين أسوة بدول أخرى في المنطقة للحصول على دعم أوروبي أو مكتسبات أخرى؛ ذلك لحرص مصر على انتهاج سياسة شريفة أتت ثمارها من خلال تعدد العلاقات مع مختلف الدول، واكتساب احترام المجتمع الدولي وتقديره للدور المصري “الحيادي وغير المسيس”، وهو ما تقدره الحكومة الألمانية الجديدة.
- التغير المناخي
بالإضافة إلى ما سبق، تعد استضافة مصر أواخر العام الحالي لقمة المناخ Cop27 في مدينة شرم الشيخ سببًا آخر مهمًا لألمانيا للاستثمار أكثر في علاقاتها “المتطورة” مع مصر. ومن المعروف أن وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة أنالينا بيربوك هي من مناصري قضية التغير المناخي والحفاظ على البيئة؛ فهي أحد أبرز قادة حزب “الخضر” في ألمانيا الذي يضع مسألة التغيرات المناخية على رأس أجندته.
واليوم تعد مصر المسؤولة عن تنفيذ السياسات المناخية في أفريقيا كونها منظم القمة المنتظرة وقائدة التنمية الإفريقية من خلال مشروعاتها في القارة. وقد دللت تصريحات الوزيرة بيربوك للإعلام الألماني قبل رحلتها للمنطقة على ذلك.
فقد قالت “هناك عدد قليل من الأماكن في العالم حيث تجتمع أخطار أزمة المناخ على الناس والطبيعة والاقتصاد وفرص التحول المستدام كما هو الحال في الشرق الأوسط. أريد أن أبحث في كل محطة من محطات رحلتي عن فرص للعمل معًا بشكل أوثق بشأن سياسة المناخ والطاقة، سواء كان ذلك في التوسع في استخدام الطاقات المتجددة أو تأمين احتياطيات المياه أو حماية الموارد الطبيعية. بصفتها المكان التالي لعقد قمة المناخ العالمية، فإن لمصر دور خاص تقوم به – وسأقترح على نظيري هناك أن نتشارك في رئاسة حوار بطرسبرج بشأن المناخ، الذي نستضيفه في يوليو.”
- التعاون الاقتصادي
أما على الصعيد الاقتصادي، تعي ألمانيا أهمية أفريقيا كسوق استهلاكي كبير لمنتجاتها بمختلف أنواعها، وأن مصر هي أحد أهم أضلاع الاقتصاد الإفريقي وأحد أكبر الأسواق في القارة. وتطمح برلين لزيادة التبادل الاقتصادي بينها وبين مصر، وتسعى إلى زيادة المشروعات التنموية والاستثمارية في دول القارة، بالأخص الدول المنتجة للطاقة.
وعلى الصعيد الثنائي، تحتل ألمانيا المركز العشرين في قائمة الدول الأكثر استثمارًا في مصر؛ إذ يوجد في مصر ما يقرب من 900 شركة ألمانية. ووفقًا للهيئة العامة للاستثمار، بلغت الاستثمارات الألمانية في مصر 640,6 مليون دولار بنهاية الربع الثالث من العام 2019.
وتنظر المانيا إلى مصر على أنها ذات أولوية استثمارية بالنسبة للحكومة الألمانية فيما يتعلق بتقديم ضمانات الاستثمار؛ إذ تأتي مصر ضمن أكثر 10 دول حصولًا على ضمانات استثمارية ألمانية، وقد بلغ إجمالي الضمانات 18 ضمانًا بقيمة إجمالية وصلت لـ 1,4 مليار يورو في 2021، مما يعكس الثقة الألمانية في المناخ الاستثماري المصري.
وكذلك لا يمكن إغفال ملف التعاون العسكري بين البلدين، والذي شهد تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة؛ فقد تعاقدت مصر مع شركة تيسين جروب الألمانية على شراء 4 غواصات من طراز 209، واستلمت مصر بموجب التعاقد الغواصات الأربع خلال الفترة من عام 2017 إلى عام 2021.
وبالإضافة للأسباب السابق ذكرها، فإن ألمانيا تفكر في كيفية الخروج مستقبلًا من مأزق الغاز الروسي والذي برز خلال الأزمة الأوكرانية، الأمر الذي يبرر زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز هذا الأسبوع إلى أوكرانيا وروسيا؛ سعيًا للتهدئة. وربما يكون الغاز المصري في أعماق المتوسط بديلًا استراتيجيا للغاز الروسي “حال تعطل وصوله” إلى أوروبا، وهو سبب آخر يضفي أهمية على زيارة الوزيرة بيربوك إلى القاهرة.
يضاف إلى ذلك أن الحكومة الألمانية الجديدة وبالأخص وزيرة الخارجية بيربوك من أشد المناصرين والمدافعين عن حقوق الإنسان، ولا يمكن نسيان البيان الصادر عن مكتبها ديسمبر الماضي والذي هاجمت فيه الخارجية الألمانية الحكومة المصرية في ملف حقوق الإنسان مطالبة بالإفراج عن بعض المتهمين على ذمة قضايا تنظر أمام القضاء المصري. لذا، تعد الزيارة تعبيرًا “بالفعل” عن فهم المنظور المصري لحقوق الإنسان، وفهم أعمق لسياسة الدولة الجديدة تجاه قضية حقوق الإنسان التي تبدي لها الدولة المصرية أولوية.
وهو الأمر الذي برز خلال عدد من المحافل المحلية والدولية، والمشروعات وتوجهات الإدارة السياسية خلال العام الماضي وحتى بدايات العام الحالي، وهو ما أسهم في تقارب “أسرع” بين حكومتي البلدين، على العكس من توقعات مراقبين بأن يكون الملف هو السبب في فتور مستقبلي في العلاقات بين البلدين مع وصول حكومة أولاف شولتز.
ختامًا تتعدد أوجه التعاون والتنسيق بين مصر وألمانيا في السنوات الأخيرة، بل ويتطور التعاون بين البلدين ليصل إلى مجالات جديدة كمجال الإنتاج الحيواني والنباتي، ومجالات إنتاج الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، وغيرها من المجالات. وتشير زيارة وزيرة الخارجية الألمانية إلى مصر وتوقيتها بشكل واضح إلى أهمية الدور المصري وتقديره عالميًا، الأمر الذي أكدته وزيرة الخارجية الألمانية في تصريحاتها بعد لقائها بوزير الخارجية المصري سامح شكري مشيرة إلى أن “مصر أهم شريك لبلادها في المنطقة العربية وشمال إفريقيا”.