الحشد المضاد… كيف استعدت أوروبا للاجتياح الروسي
تتجه الأنظار بشكل مكثف وشامل للحشود العسكرية الروسية المتدفقة على خط الحدود بين موسكو وكييف، في ترقب حذر يحاول استشراف ماهية الأهداف الحقيقية لهذه الأرتال العسكرية المتنوعة التي تقاطرت على المحيط الأوكراني، من روسيا البيضاء شمالًا، مرورًا بكامل الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وصولًا إلى التخوم الجنوبية والجنوبية الغربية لأوكرانيا. من الضروري كي تكتمل الصورة التكتيكية لما يحدث حاليًا في شرق أوروبا أن نمعن النظر أكثر على ما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو فعله، من أجل مواجهة الانتفاضة “المرتقبة” للدب الروسي.
نظريًا، لن تكون ردود الفعل الميدانية من جانب حلف الناتو وواشنطن في هذه المرحلة موازية، أو حتى قريبة من حيث الكم أو النوع، للحشد العسكري الروسي الضخم. لكن على الجانب العملي، يمكن أن نلاحظ من خلال متابعة نمط ردود الفعل هذه أنها تستهدف مواجهة موسكو بنفس السلاح الذي يمكن اعتبار وجوده سببًا أساسيًا في رغبة موسكو في تصعيد الموقف شرقي أوروبا في هذه المرحلة، ألا وهو “توسيع التواجد العسكري الغربي في أوروبا الشرقية”.
هذا النمط يضع أيضًا في الحسبان ما تحتاجه أوكرانيا على المستوى العسكري لمواجهة التدخل الروسي المحتمل، لكن هذا يأتي -على ما يبدو- في المرتبة الثانية ضمن أولويات الغرب في شرق أوروبا.
الشرطة الجوية … بوابة توسيع الوجود الجوي للغرب في البلطيق والبحر الأسود
يمكن اعتبار دوريات “الشرطة الجوية” التي تنفذها منذ سنوات المقاتلات التابعة لحلف الناتو في نطاق دول بحر البلطيق والبحر الأسود بمثابة عنصر أساسي من عناصر الانتشار القتالي للحلف على التخوم الروسية، ضمن خط المواجهة الذي يشمل من الجنوب للشمال، بلغاريا ورومانيا وبولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا.
هذه الورقة كانت أيضًا ضمن وسائل الرد على الحشود الروسية الحالية، فقد لجأ حلف الناتو إلى الدفع بتعزيزات جوية في هذه الدول، لدعم المقاتلات التابعة له، والتي تعمل منذ سنوات على اعتراض ومرافقة الطائرات التابعة لسلاح الجو الروسي في أجواء بحر البلطيق والبحر الأسود.
فيما يتعلق بالدول المطلة على البحر الأسود، وهي رومانيا وبلغاريا، فقد وصل إلى قاعدة “ميخائيل كوجالنشيو” جنوبي شرق رومانيا خلال الأيام الأخيرة أربع مقاتلات من نوع “يورو تايفون” تابعة لسلاح الجو الإيطالي؛ للتمركز بشكل دائم في هذه القاعدة. بجانب وصول ما بين أربع وست مقاتلات أمريكية من نوع “إف-16” إلى قاعدة “فيتيستي” الجوية الرومانية، قادمة من قاعدتها الأساسية في مطار “سبانغداهليم” غربي ألمانيا.
هذه المقاتلات تضاف إلى مقاتلات ألمانية كانت تنفذ دوريات انطلاقًا من المطارات الرومانية فوق البحر الأسود. أما فيما يتعلق ببلغاريا، تعتزم كل من هولندا وإسبانيا إرسال مقاتلات للتمركز في مطاراتها خلال الأسابيع الثمانية المقبلة، بواقع إرسال إسبانيا ست مقاتلات “يورو تايفون” وإرسال هولندا مقاتلتين من نوع “إف-35”
بالنسبة لدول بحر البلطيق، فقد بدأ التركيز على تعزيز الوحدات الجوية لحلف الناتو فيها واضحًا، خاصة في إستونيا التي وصلت إليها أربع مقاتلات “إف-16” بلجيكية وست مقاتلات “إف-15” أمريكية سوف تتمركز خلال الفترة المقبلة في قاعدة “أماري” الجوية، لتعزيز المقاتلات الألمانية الموجودة هناك، وقد نفذت المقاتلات الأمريكية بعد وصولها مباشرة دورية اعتراضية فوق بحر البلطيق.
في ليتوانيا، وصلت إلى قاعدة “سياولياي” الجوية أربع مقاتلات “إف-16” دنماركية، وأربع مقاتلات من نفس النوع تابعة لسلاح الجو البولندي؛ كتعزيز للمقاتلات الهولندية الأربع المتمركزة في هذه القاعدة. قاعدة “لاسك” الجوية في بولندا استقبلت دفعتين من مقاتلات “إف-15” الأمريكية، إحداها تضمنت ثماني طائرات.
يضاف إلى ما سبق، تعزيزات جوية أخرى قد تبدو مرتبطة بالتوتر الحالي مع موسكو، منها وصول أربعة مقاتلات “إف-16” برتغالية إلى قاعدة “كيفلافيك” الجوية في أيسلندا؛ لتنفيذ مهام الدوريات الاعتراضية في أجواء الجزيرة. هذا بجانب نشر سلاح الجو البريطاني سربًا إضافيًا من مقاتلات “يورو تايفون” في قاعدة “أكروتيري” الجوية البريطانية في قبرص، وتمركز طائرة استطلاع بعيدة المدى دون طيار من نوع “أر كيو-4 جلوبال هوك” تابعة لسلاح الجو الأمريكي في قاعدة “سيغونيلا” الجوية في صقلية، وقد قامت انطلاقًا من هذه القاعدة بتنفيذ عدة مهام استطلاعية في الأجواء الأوكرانية.
هذا بجانب وصول أربع قاذفات استراتيجية بعيدة المدى من نوع “بي-52 إتش” إلى قاعدة “فيرفورد” الجوية البريطانية. وهو تمركز كان مخططًا له مسبقًا، لكنه يحمل أهمية كبيرة في هذه المرحلة، خاصة وأن قاذفتين من نفس النوع قامتا بتنفيذ رحلة “استعراضية” شملت أوروبا الغربية والبحر المتوسط.
مما سبق، نستخلص أن حجم الوسائط الجوية التابعة لحلف الناتو تزايد بشكل لافت خلال الأيام القليلة الماضية، حتى وإن كان ذلك تحت عنوان تبادل المراكز القتالية بين المقاتلات التي كانت تعمل على تنفيذ الدوريات الجوية خلال العام الماضي، وبين مقاتلات أخرى جديدة، علمًا بأنه لا وجود لأي تمركز جوي للحلف في أوكرانيا.
تدعيم القوة البشرية والأنظمة القتالية للناتو في شرق أوروبا
المحور الثاني من محاور استفادة حلف الناتو من الزخم المثار حول الحشود الروسية، هو محور تعزيز وجود الوحدات العسكرية التابعة للحلف في شرق أوروبا. بشكل عام كان للحلف ما يناهز 12 ألف جندي منتشرين في هذا النطاق، يشرف على عملياتهم مركز قيادة رئيسٍ في ألمانيا، بجانب مركز لإدارة الحركة الجوية في رومانيا. بدأ هذا الانتشار بشكل فعلي عام 2017، حين بدأ الحلف في تنفيذ استراتيجية تقضي بنشر كتائب مختلطة من جنود دول الحلف في نطاق دول بحر البلطيق والبحر الأسود.
مؤخرًا، صرح الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، بأن الحلف عزّز وجوده في شرقي أوروبا منذ عدة أسابيع، وأنه سيستمر في ذلك حتى عام 2024، مشيرًا إلى أن الحلف رفع استعداده للانتشار السريع لأكثر من 40 ألف عسكري في حالة التصعيد.
هذا يتوافق مع ما تم رصده خلال الأسابيع الأخيرة، فقد عمل الحلف منذ أوائل الشهر الجاري على المضي قدمًا في تعزيز وحداته القتالية في شرق أوروبا بشكل لافت، ففي إستونيا تتمركز قوة مكونة من 1500 جندي من بريطانيا والدنمارك وفرنسا، سيتم تعزيزها بنحو 900 جندي بريطاني إضافي. كذلك الحال في ليتوانيا التي تتمركز فيها حاليًا قوة تتألف من 1200 جندي بقيادة ألمانية ومشاركة بلجيكا وهولندا وكرواتيا وفرنسا والنرويج، وسيتم تعزيزها هذا الأسبوع بنحو 350 جندي ألماني. أما لاتفيا، التي تتمركز فيها قوة من 1500 جندي بقيادة كندية، ومشاركة من ألبانيا وبولندا وإيطاليا وإسبانيا وسلوفينيا، فيتوقع أن تشهد تعزيزات جديدة خلال الأيام المقبلة.
أما فيما يتعلق برومانيا، فيتمركز فيها نحو 900 جندي أمريكي، وقد وصل إليها خلال الأيام الماضية ألف جندي أمريكي إضافي قادمين من ألمانيا، ينتمون إلى كتيبة الفرسان الثانية، بجانب وصول وحدة من منظومات الدفاع الجوي قصيرة المدى “أفنجر”، تتبع الكتيبة الخامسة من الفوج الأمريكي الرابع للدفاع الجوي الذي يتمركز أيضًا في ألمانيا. ويتوقع أن تستقبل رومانيا قريبًا تعزيزات فرنسية مماثلة، خاصة بعد تصريحات نائب الأمين العام لحلف الناتو، ميرسيا جوانيه، حول بحث وزراء دفاع الحلف خلال اجتماعهم الأسبوع المقبل، مسألة تأسيس مجموعات قتالية دائمة في رومانيا تحت القيادة الفرنسية.
التعزيز الأكبر من جانب حلف الناتو في شرق أوروبا يبقى من نصيب بولندا حيث يتمركز على أراضيها بشكل دائم ما بين ثلاثة وأربعة آلاف جندي أمريكي، بجانب 1700 جندي من دول الحلف الأخرى، معززين بنحو 250 دبابة، وعربات قتال مدرعة من نوع “برادلي”، ومدافع ميدان وأخرى ذاتية الحركة. وخلال الأيام الماضية، بدأت واشنطن في نقل أربعة آلاف جندي من ألمانيا إلى قاعدة “رزيسزو” جنوب شرق بولندا، على بعد 50 كيلو مترًا فقط من الحدود الأوكرانية، ليتم توزيعهم داخل معسكر أمريكي في منطقة “ميليك”، واثنتي عشر نقطة تمركز أمريكية في غرب ووسط بولندا. وكذا، نشر حلف الناتو 350 عنصرًا من مشاة البحرية البريطانية لمساندة قوات حرس الحدود البولندية ضمن خطة عامة لتأمين الحدود مع أوكرانيا.
الوجود العسكري لحلف الناتو داخل أوكرانيا كان ينحصر بشكل أساسي في مجموعات التدريب العسكري التابعة للحلف التي تتمركز منذ عام 2015 ضمن مهمة “يونيفير” لتدريب عناصر الجيش الأوكراني. تتكون هذه المجموعات من مائتي جندي من الحرس الوطني الأمريكي، ومائة جندي بريطاني، ومائتي جندي كندي، يتمركزون في عدة معسكرات لتدريب القوات الأوكرانية، على رأسها معسكر “يافوريف” في منطقة “لفيف”.
عززت بريطانيا هذه المجموعات عبر إرسالها نحو مائة عنصر من قوات النخبة، لتدريب الوحدات الخاصة الأوكرانية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قامت بتعزيز الوحدات المحمولة جوًا في ألمانيا بنحو 300 جندي تابعين للكتيبة الثامنة عشر؛ تحسبًا لإمكانية الدفع بهم نحو بولندا في أي وقت.
الدعم التسليحي والتعزيزات البحرية
الضلع الثالث في خطة حلف الناتو للرد على الحشد الروسي هو الضلع الأضعف، ويتعلق بتقديم تعزيزات تسليحية للجيش الأوكراني، وتنفيذ بعض التحركات البحرية الداعمة له. على الجانب التسليحي، قامت واشنطن بإقرار مساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 200 مليون دولار لصالح وزارة الدفاع الأوكرانية، وقد بدأت واشنطن منذ الثاني والعشرين من الشهر الماضي في إرسال هذه المساعدات بالفعل إلى أوكرانيا، وتركزت بشكل رئيسي على الصواريخ المضادة للدبابات، مثل صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، وقاذفة الصواريخ المضادة للتحصينات “SMAW-D”، بجانب ذخائر متنوعة.
وكذا، منحت واشنطن الإذن لبعض الدول الحليفة لتزود أوكرانيا بمساعدات عسكرية طارئة، فقامت إستونيا بتزويد أوكرانيا بالمزيد من صواريخ “جافلين”، في حين وصلت أول دفعة من صواريخ “ستينجر” المضادة للطائرات منذ يومين إلى أوكرانيا قادمة من ليتوانيا. بريطانيا كذلك دخلت ضمن هذه القائمة بإرسالها 2000 صاروخ سويدي الصنع من نوع “NLAW” إلى أوكرانيا.
جدير بالذكر أنه حتى الرابع عشر من الشهر الجاري، تم إحصاء وصول 17 طائرة شحن كندية وبريطانية وأمريكية إلى المطارات الأوكرانية، حاملة ما مجموعه 1500 طن من المعدات العسكرية. كندا من جانبها أعلنت أمس أنها وافقت على منح كييف معدات عسكرية وذخائر بقيمة تناهز ثمانية ملايين دولار كندي، بجانب منحها قروضًا بقيمة 490 مليون دولار.
على الجانب البحري، أعلنت البحرية الأمريكية أنها أرسلت أربع فرقاطات مزودة بالصواريخ الموجهة من الفئة “آرلي بيرك” نحو أوروبا؛ لتعزيز القوة البحرية لحلف الناتو الموجودة في هذا النطاق، ليصبح هذا هو التعزيز البحري الثاني الذي تقوم به البحرية الأمريكية ردًا على التحركات البحرية الروسية في البحر الأسود والبحر المتوسط، بعد تمركز حاملة الطائرات “يو إس إس هاري ترومان” والمجموعة الضاربة التابعة لها قرب ساحل كرواتيا، بعد تنفيذها التدريب البحري المشترك “نبتون سترايك” مع بريطانيا وفرنسا الشهر الماضي.
يضاف إلى هذا التعزيز تحرك عدة سفن تابعة للبحرية الإسبانية نحو البحر الأسود، منها سفينة حرس سواحل من الفئة “ميتيورو” انطلقت من جزر الكناري، وفرقاطة تحركت للانضمام إلى المجموعة البحرية الدائمة الثانية لحلف الناتو، وكاسحة ألغام ستتحرك قريبًا إلى المنطقة.
بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن الحشد المضاد -إن جاز هذا التوصيف- لحلف الناتو في منطقة أوروبا الشرقية يبدو استراتيجيًا أكثر منه تكتيكي أو عملياتي، بمعني أنه يخدم الهدف الأساسي للحلف في هذه المنطقة وهو زيادة الوجود العسكري له قرب الأراضي الروسية، واستثمار الوضع الحالي للضغط على حكومات دول البلطيق لتوسيع انخراطها مع دول الحلف بشكل أكبر في النشاطات التي تخدم الاستراتيجية العسكرية للحلف.
هذه النظرة ربما تدعمها حقيقة أن الحلف لم يلجأ إلى وضع أي وحدات قتالية في أوكرانيا، على عكس رغبة كييف، وفي نفس الوقت لجأ إلى التهويل المستمر من قرب “الغزو الروسي الشامل”، والذي ضُرب له موعد غدًا. في كل الأحوال ستظل الأنظار مسلطة على تاريخ العشرين من الشهر الجاري، موعد انتهاء المناورات الروسية في روسيا البيضاء، وحينها يمكن عبر تتبع حركة القوات العائدة من هناك، تخمين النوايا الروسية، علمًا بأن بعض هذه القوات، بدأ بالفعل العودة إلى روسيا، لكنه لم يصل إلى مواقع تمركزه الأصلية، بل إلى نقاط قريبة إلى الحدود الأوكرانية، وهذا سيكون محل تحليل أكبر في المادة المقبلة.
باحث أول بالمرصد المصري



