علوم وتكنولوجياإسرائيل

فضيحة “بيجاسوس”.. كيف تحول التجسس السيبراني إلى سلاح استراتيجي في يد إسرائيل؟

استخدمت إسرائيل في السنوات الأخيرة برنامج “بيجاسوس” الإلكتروني للتجسس كسلاح دبلوماسي، لكن هذا السلاح القوي بدأ يرتد عليها مع كشف سلسلة من التقارير قيام الشرطة الإسرائيلية باستخدامه للتجسس على عدد من الشخصيات السياسية في الداخل الإسرائيلي، وهو ما أثار الإسرائيليين وعزز من حالة عدم الثقة المتصاعدة داخل المجتمع، وأسفر عن اضطرار الحكومة إلى إجراء تحقيق وطني فيما تم وصفه بـ “فضيحة بيجاسوس”.

في السابق استخدمت إسرائيل برنامج التجسس بيجاسوس لملاحقة الفلسطينيين، واعتمد عليه رئيس الحكومة السابق “بنيامين نتنياهو” لمواجهة معارضيه. ليس ذلك فحسب، بل أن حكومته استغلت التجسس السيبراني لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية ببعض الدول من جانب، وللتجسس على المسؤولين والشخصيات المهمة من جانب آخر. فضلًا عن ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية قدّمت كل الدعم والرعاية لشركة NSO المالكة لبرنامج بيجاسوس التجسسي، وقامت ببيعه للعديد من الدول بمليارات الدولارات. لكن على الرغم من تحقيق إسرائيل للعديد من المكاسب من خلال استخدام البرنامج، إلا أن الأمر قد انكشف مؤخرًا، واشتعلت الأوضاع في الداخل؛ اعتراضًا على سياسة الحكومة الإسرائيلية وانتهاكها لخصوصية مواطنيها.

كيف بدأت الأزمة في إسرائيل؟

لطالما تغنّت إسرائيل بتفوقها التكنولوجي وتمتُع وحدات استخباراتها بأحدث برمجيات التجسس على مستوى العالم، وقيامها بتصدير برمجيات التجسس إلى دول العالم على مدار السنوات الماضية. إلا أن ما حدث مؤخرًا كان بمثابة صدمة للإسرائيليين؛ إذ قامت الحكومة الإسرائيلية باختراق خصوصية مواطنيها من خلال استخدام برنامج بيجاسوس.

ففي منتصف يناير الماضي، أثارت صحيفة “كالكاليست” ضجة بعد نشرها تقريرًا يتضمن استخدام الشرطة برنامج “بيجاسوس” للتجسس على هواتف عشرات الشخصيات البارزة في الدولة بشكل غير قانوني، وبينهم رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو ونجله وشخصيات رئيسة مدعى عليها في “القضية 4000” المسماة أيضًا ملف “بيزك”. ذلك بالإضافة إلى التجسس على رؤساء بلديات دون أن يكون هناك أي مبرر أو شبهات لمخالفات جنائية أو ملفات فساد مفتوحة ضدهم. وفي أعقاب ذلك، أعلنت إسرائيل، أنها بصدد إجراء تحقيق وطني فيما وصفته وسائل الإعلام بـ “فضيحة بيجاسوس”.

ووفقًا للصحافة الإسرائيلية، تم اختراق الهواتف الذكية لمديرين عامين سابقين في وزارة الاتصالات، وشهود للمدعي العام، وقادة ورؤساء في إطار هذه القضية، بالإضافة الى صحفيين من موقع “والللا”. وكانت صحيفة “كالكاليست” قد أكدت في تقريرها أن برنامج بيجاسوس قد تم استخدامه في التصيد الاحتيالي للاستخبارات، حتى قبل فتح أي تحقيق ضد من استهدفتهم، ودون أوامر قضائية.

ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت المزاعم ضد الشرطة بأنها “خطيرة للغاية إذا كانت صحيحة”.
وقال في بيان إن بيجاسوس “لم يكن المقصود استخدامه في حملات التصيد التي تستهدف الجمهور أو المسؤولين الإسرائيليين، ولهذا السبب نحتاج إلى فهم ما حدث بالضبط”.

ووفقًا للتقرير، لم يكن يدور في خُلد الإسرائيليين أن يتم استغلال خريجي وحدة الاستخبارات “8200” والذين أسسوا فيما بعد شركة NSO للتجسس على خصوصيات الإسرائيليين، وذلك بعد أن اقتصر استخدام هذه البرمجيات على الفلسطينيين حيث يتم اختراق هواتفهم وخصوصياتهم ليل نهار دون أن يثير هذا الأمر حفيظة الإسرائيليين. 

وقالت الصحيفة إن الحديث في هذه الأيام عن نهاية الديمقراطية الإسرائيلية في أعقاب استخدام الشرطة للبرمجية الخبيثة لاختراق هواتف الإسرائيليين يبدو منافقًا جدًا، لافتة إلى أن الأمر لم يكن مفاجئًا لمن عمل في وحدات الاستخبارات من شرطة وجيش وشاباك؛ فقد اعتاد هؤلاء على اختراق خصوصيات الفلسطينيين على مدار سنوات طويلة، وليس من الصعب تغيير الاتجاه.

يشار إلى أن الضجة المثارة في إسرائيل حول بيجاسوس ألقت الضوء على جانب آخر، وهو المرتبط بالشأن الداخلي، حيث تم إثارة الموضوع العام الماضي فيما يخص إساءة استخدام بيجاسوس من قبل عملاء أجانب ضد الصحفيين والنشطاء الحقوقيين، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى إصدار أوامر بمراجعات التصدير.

وفي أعقاب إثارة “فضيحة بيجاسوس” في إسرائيل، خرج المئات من المتظاهرين أمام منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت اعتراضًا على سياسة الحكومة الإسرائيلية على خلفية استخدام برنامج التجسس ضد الاسرائيليين أنفسهم. وتبرر الشرطة تجسسها على هواتف الإسرائيليين بقانون تم إقراره عام 1979 قبل عام من تأسيس شركة “بيزيك الإسرائيلية للاتصالات”، ويتيح القانون التنصت على المكالمات الهاتفية فقط، دون التطرق إلى التطبيقات الجديدة للمراسلة، أو السيطرة على ميكروفونات الأجهزة أو حتى أجهزة الكاميرا فيها.

يُذكر أن التقرير الذي نشرته صحيفة “كالكاليست” كشف أن الشرطة الإسرائيلية امتلكت برنامج “بيجاسوس” لأول مرة في ديسمبر من عام 2013، عندما كان يتولى “يوحنان دانينو” منصب المفتش العام للشرطة. وبلغت تكلفة شراء وصيانة البرنامج عشرات ملايين الدولارات. وتم تفعيله في عهد المفتش “روني الشيخ” في عام 2015. وبموجبه تعرض كثير من منتخبي الشعب والنشطاء السياسيين، إلى الملاحقة والتجسس على هواتفهم بشكل مفرط.

بيجاسوس.. سلاح في مواجهة الداخل والخارج

استخدمت إسرائيل سلاح التجسس السيبراني على الصعيدين الداخلي والخارجي، اعتقادًا منها أنه السلاح الأقوى في العصر الحالي، وهو الضامن للحفاظ على أمن إسرائيل من المخاطر الداخلية والخارجية. وقدمت الحكومة الإسرائيلية، خاصة الحكومة السابقة برئاسة “بنيامين نتنياهو”، كل الدعم لشركة NSO المالكة لبرنامج بيجاسوس، وتدعي الشركة أن برامجها مخصصة فقط للاستخدام في إطار “مكافحة الإرهاب” وجرائم أخرى، لكن لا يمكنها شيء إذا تم تحوير استخدامها من جانب حكومات معينة.

على المستوى الداخلي، كانت إسرائيل قد استخدمت بيجاسوس لتتبع هواتف ست مجموعات فلسطينية لحقوق الإنسان وصفتهم بالإرهابيين. واستخدمت الشرطة البرنامج ضد مواطنين إسرائيليين كانوا يقودون الاحتجاجات ضد نتنياهو العام الماضي، عندما كان لا يزال رئيسًا للوزراء.

على المستوى الخارجي، أكدت شركة NSO أنها تصدر برنامج بيجاسوس التجسسي إلى الحكومات فقط بعد موافقة وزارة الدفاع، وأنها صدرته بالفعل إلى 40 دولة، ورفضت تصديره إلى 90 دولة حول العالم. ومن ضمن الدول التي حصلت على البرنامج بنما والمكسيك وبولندا والمجر ودول عربية خليجية. 

ومن البديهي أن القرارات النهائية بخصوص تصدير البرنامج هي قرارات ذات طابع سياسي استراتيجي، تصدر من وزارة الدفاع أو مكتب رئيس الوزراء وتهدف إلى تحقيق مكاسب استراتيجية للحكومة الإسرائيلية، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتغنى بها إسرائيل. وكانت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو راعية لـ NSO، حيث روجت ودفعت مبيعات برامج التجسس الخاصة بها في جميع أنحاء العالم. أينما سافر نتنياهو في زيارات رسمية، تم عقد الصفقات مع حكومة الدول التي تمت زيارتها.

وقد تم العثور على أهداف في جميع أنحاء العالم من الهند وأوغندا إلى المكسيك والضفة الغربية، مع ضحايا بارزين من بينهم مسؤولين أمريكيين وصحفي في نيويورك تايمز. وكانت الأهداف المعتادة للشركة هي في الغالب من الصحفيين والنشطاء والمعارضين، ووصل الأمر إلى التجسس على الرؤساء ورؤساء الوزراء والشخصيات العامة. وكان من أبرز الشخصيات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وفي ديسمبر 2020، قامت الإدارة الأمريكية بوضع شركة NSO على القائمة السوداء بعد أن اكتشفت أن 11 مصدرًا حكوميا أمريكيًا في أوغندا كانوا هدفًا للتعقب بواسطة برمجية بيجاسوس. وعقب القرار، أعربت الشركة عن أسفها للقرار ونفيها أن تكون قد عملت بشكل مناهض للمصالح الأمنية الأمريكية، ثم تم الإعلان عن استقالة الرئيس التنفيذي الجديد للشركة “إسحاق بنبنيستي”.

وبشكل عام، أصبح برنامج التجسس الإسرائيلي بيجاسوس، سيئ السمعة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الكشف عن قيام البرنامج باستغلال الثغرات غير المعروفة في WhatsApp وI Message وAndroid، وقيامه بإصابة أي هاتف ذكي والوصول الكامل إليه، من دون أن ينقر المستخدم على ملف أو يفتحه حتى. 

وقد كشفت فضيحة بيجاسوس، عن مدى الدور الذي تلعبه إسرائيل لزعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، حيث تدعم وترعى شركات برامج التجسس- ليس فقط بيجاسوس- وتقوم الحكومة بتوظيف هؤلاء بصورة غير رسمية لتحقيق أهداف الدولة غير الشرعية كالتجسس والتدخل في شؤون الدول الأجنبية.

كيف يعمل برنامج “بيجاسوس”؟

يعد بيجاسوس من أخطر برامج التجسس وأكثرها تعقيدًا، إذ يستهدف بشكل خاص الأجهزة الذكية التي تعمل بنظام التشغيل(iOS) لشركة آبل، وتوجد منه نسخة لأجهزة أندرويد أيضًا. يُسمح للبرنامج بمجرد تحميله على هاتف جوال، اختراق الهاتف والاطّلاع على الرسائل والبيانات والصور ووجهات الاتصال، ويتيح تفعيل الميكروفون والكاميرا عن بُعد. ويعمل البرنامج على استخراج الرسائل والصور ورسائل البريد الإلكتروني. 

ففي عام 2019، رفع تطبيق المراسلة “واتس آب” دعوى قضائية ضد الشركة الإسرائيلية قال فيها إنها استخدمت إحدى الثغرات المعروفة بـ”ثغرة يوم الصفر” في نظام التشغيل الخاص به لتثبيت برامج التجسس على نحو 1400 هاتف. وبمجرد الاتصال بالشخص المستهدف عبر “واتس آب”، يمكن أن يُحمّل بيجاسوس سرًا على هاتفه حتى لو لم يرد على المكالمة. وتم الكشف في الآونة الأخيرة أن بيجاسوس استغل ثغرة في تطبيق I Message الذي طورته شركة Apple، ومن المحتمل أن ذلك منحه إمكانية الوصول تلقائيا إلى مليار جهاز “آيفون” قيد الاستخدام حاليًا.

السلاح السيبراني بديل عن الدبلوماسية

خلال العقود الأخيرة، شهدت إسرائيل صناعة نوع جديد من الأسلحة، وهو السلاح السيبراني، والذي يعد أكثر خطورة من الأسلحة التقليدية. فقد تم استغلال قدامى المحاربين بالوحدة 8200، والمختصة بالتجسس الإلكتروني، بعد أن تم تدريبهم بشكل مكثف ببرنامج يسمى ARAM والذي لا يقبل سوى مجموعة من أكثر المجندين ذكاءً ويدربهم على أكثر الأساليب تقدمًا في برمجة الأسلحة السيبرانية؛ حيث تدفق هؤلاء على الشركات الناشئة السرية في القطاع الخاص، مما أدى إلى ظهور صناعة أمن إلكتروني بمليارات الدولارات. وكما هو الحال مع موردي الأسلحة التقليدية، يتعين على صانعي الأسلحة السيبرانية الحصول على تراخيص تصدير من وزارة الدفاع الإسرائيلية لبيع برامجهم في الخارج، وهو ما ينطبق على برنامج بيجاسوس الذي أثار الأزمة الأخيرة.

في الواقع، فإن مجموعة NSO لا تشكل سوى جزء صغير ضمن شبكة الشركات المختصة بالتجسس السيبراني؛ إذ تُعد إسرائيل مركزًا دوليًا لشركات برامج التجسس. وخلال الأعوام الأخيرة، اعتمدت إسرائيل بشكل كبير على سلاح التجسس السيبراني لتحقيق مصالحها، واستطاع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو استخدام التكنولوجيا الإلكترونية التجسسية الهجومية في سياسته الخارجية، واستطاع من خلالها تحقيق العديد من المكاسب.

في السياق ذاته، ساعد التجسس السيبراني في تعزيز المصالح الدبلوماسية الإسرائيلية، فقد تحولت دول كانت سابقا ذات مواقف سياسية تاريخية مؤيدة للقضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، إلى التصويت لصالح إسرائيل، وانطلقت العلاقة بين الشركة والولايات المتحدة إلى آفاق جديدة، خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي كان يمهد لاستخدام نسخة خاصة من برنامج التجسس على المواطنين الأمريكيين. 

لكن ذلك لم يوقف الملاحقات القانونية التي تقدمت بها كبرى الشركات التي تعنى بالصناعة الرقمية في الولايات المتحدة الأمريكية مثل أبل ومايكروسوفت وفيسبوك وسيسكو وآخرين ضد NSO، إذ شعرت تلك الشركات بالإهانة والغضب إزاء اختراقات بيجاسوس لأنظمتها وتطبيقاتها، وقدمت مذكرة مساندة في محكمة فيدرالية حذرت فيها من أن أدوات الشركة تشكل خطرًا كبيرًا.

إجمالًا، فإن اعتماد إسرائيل على سلاح التجسس السيبراني قد انعكس عليها في المقام الأول، ولم يساعد الدولة العبرية في الصمود أمام اتهامات مواطنيها والتأثير سلبًا على علاقاتها ببعض الدول. ومن المرجح أن يسهم كشف “فضيحة بيجاسوس” أمام الداخل الإسرائيلي في تفاقم حالة عدم الثقة الموجودة بالفعل بين المجتمع الإسرائيلي والحكومة. من جانب آخر، فإن الأزمة عززت تشويه صورة إسرائيل أمام كل من مواطنيها والمجتمع الدولي؛ فرعايتها لبرنامج التجسس والمساس بشؤون الدول الأجنبية لا يمكن قبوله على كافة الأصعدة، فهو انتهاك قانوني أخلاقي يتنافى مع كافة الأعراف الدبلوماسية.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

هبة شكري

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى