
تهديدات متنامية.. الصومال بين الانتحار السياسي والوضع الأمني المضطرب
يعيش الصومال منذ سنوات أزمة سياسية عميقة تتفاقم حدتها بين الحين والآخر، إذ اختتم عام (2021) بعودة الصراع مجددًا بين رأسي السلطة في البلاد، بعد قرار الرئيس الصومالي “محمد عبد الله فرماجو” في 27 ديسمبر الماضي بتعليق مهام رئيس وزرائه “محمد حسين روبلي” في ضوء خلاف دار بينهما حول تنظيم الانتخابات، الأمر الذي رفضه الأخير واعتبره محاولة للانقلاب على الشرعية والدستور ومحاولة لإفشال الانتخابات القادمة.
وبالتزامن مع التوترات السياسية الأخيرة والأزمات البنيوية العميقة التي تعيشها مقديشيو، تصاعدت حدة الهجمات الإرهابية التي شنتها حركة الشباب الصومالية التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي، آخر مؤشرات ذلك، سقوط عدد من القتلى والمصابين في تفجير انتحاري نفذته الحركة في 10 فبراير الجاري بالعاصمة مقديشو. وسبق هذا الهجوم 3 هجمات دامية استهدفت قاعدة تابعة لقوات حفظ السلام الإفريقية في الصومال في مديرية دينسور بمحافظة باي جنوب البلاد، أسفرت عن مقتل عسكريين اثنين من قوات أميصوم وجرح 5 آخرين، إضافة إلى احتراق مركبتين عسكريتين.
في هذا السياق، نحاول تسليط الضوء على المشهد الأمني المعقد في الصومال في ضوء تنامي النشاط الإرهابي لحركة الشباب المجاهدين، وتنظيمي داعش وأهل السنة والجماعة، فضلًا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية المترهلة التي يعيشها الصومال، والتي تجعل من أرضه بيئة خصبة لتمدد الجماعات الإرهابية.
مشهد أمني معقد
ينطوي المشهد الأمني في الصومال على تشابكات بالغة التعقيد، تعكسها التفاعلات بين التنظيمات الإرهابية المتعددة التي وجدت في الاضطرابات السياسية والسيولة الأمنية فرصة سانحة لتمديد أنشطتها وتحقيق مكاسب ميدانية، وخاصة تنظيم داعش، الذي ينظر إلى أفريقيا باعتبارها ساحة بديلة يمكن من خلالها استعادة قدراته وترميم الضرر الذي لحق بسمعته بعد الضربات التي طالته داخل معاقله التقليدية في سوريا والعراق والتي كان آخرها مقتل زعيمه أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. ونستعرض فيما يلي أبعاد المشهد الأمني المعقد في الصومال:
• تنامي نفوذ حركة الشباب المجاهدين: في خضم الأزمة السياسية والأوضاع الأمنية الهشّة التي يعيشها الصومال حاليًا، وانسحاب القوات الأمريكية في مطلع العام الماضي، وكذا الانسحاب المزمع لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال، استغلت حركة الشباب المجاهدين الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي هذه الظروف وقامت بشن المزيد من الهجمات الإرهابية الدامية والتي تركزت في مناطق متفرقة في الأراضي الصومالية، ولا سيما في العاصمة مقديشيو، والمناطق الجنوبية، والمتاخمة للحدود الصومالية مع كينيا، واستهدفت الهجمات الإرهابية المدنيين والشركات والمؤسسات الحكومية والفنادق والمطاعم الشهيرة التي يتردد عليها موظفو الحكومة وحراس الأمن وسكان العاصمة الصومالية، مقديشيو.
ورغم نجاح بعض الضربات التي نفذتها قوات الجيش الصومالي ضد حركة الشباب خلال عام 2021؛ إذ تشير المصادر الرسمية الصومالية إلى أن الجيش نفذ 154 عملية أسفرت عن مقتل 1360 عنصر وقيادي من حركة الشباب، وإصابة 268، واعتقال 77 من بينهم قيادات بارزة، بالإضافة إلى إحباط 20 تفجيرًا، وتحرير 33 من البلدات والقري، واستسلام 13 عنصرًا وقياديا إضافة إلى شن 4 غارات جوية ضد مسلحي الحركة، إلا أن الأخيرة نجحت في إحراز تقدمًا ميدانيًا كبيرًا على الجغرافيا الصومالية، وهو ما تجسد في إحكام قبضتها على عدة مدن استراتيجية مهمة، ومن ذلك سيطرتها في ديسمبر الماضي على مديرية “عيل طير” الاستراتيجية، الواقعة بين مدينتي “غوري عيل” و”طوسمامريب” في محافظة “غلغدود” بولاية “غلمدغ”، على بعد 750 كلم من العاصمة مقديشيو، يأتي هذا بعد أسبوع من نجاح الحركة في إسقاط مدينة متبان الاستراتيجية بولاية هيران الواقعة بين ولايتي غلمدغ وهيرشبيلي، وسط الصومال.
وبالتزامن مع مطلع العام الجاري، كثّفت حركة الشباب من عملياتها، فلا يكاد يمر يوم تقريبًا من دون وقوع هجوم تتبناه الحركة؛ إذ شهدت الصومال خلال شهر يناير عام 2022، وقوع ما لا يقل عن 18 هجومًا تبنته الحركة، وأسفر عن مقتل نحو 90 شخصًا من المدنيين والعسكريين.
ومن المتوقع أن يستمر إرهاب الحركة في التصاعد خلال أشهر العام الجاري، ويدعم هذه التوقعات عدة أمور: أولها، المشهد السياسي المعقد والمشاحنات بين الفرقاء السياسيين، وكذا الأوضاع الاقتصادية المترهلة التي تستغلها الحركة في جذب المزيد من المقاتلين لصفوفها. ثانيها، تشير بعض التحليلات إلى أن حركة الشباب لديها قدرات لوجيستية واستخباراتية فائقة قادرة على توجيه ضربات ناجحة ضد القوات الحكومية، بما يمكنها من تعزيز نشاطها مستقبلًا. ثالثها، ما أشارت إليه مجموعة الأزمات الدولية في سبتمبر الماضي، بأن حركة الشباب تقدم خدمات أفضل من الحكومة، محذرة من أن عودة طالبان لحكم أفغانستان زاد جرأة الحركة الصومالية، معززة بقوة مادية؛ حيث تقدر عائدات الحركة بـ 15 مليون دولار شهريًا. رابعًا، تقع الصومال في إقليم جغرافي مضطرب سياسيًا وأمنيًا، إذ تطوقها دول غارقة في الأزمات، حيث الاضطرابات السياسية في جنوب السودان والصراع في إقليم التيجراي الإثيوبي، وهي الأوضاع المرشح انتقال تبعاتها السلبية أمنيًا إلى الصومال.
• عودة نشاط تنظيم “أهل السنة والجماعة”: شهد الربع الأخير من عام 2021، عودة تنظيم أهل السنة والجماعة إلى الواجهة مجددًا، وهو ما تمثل في المواجهات المسلحة بين عناصر التنظيم وبين القوات الإقليمية والفيدرالية، في محاولة لاستعادة نفوذه السياسي والعسكري على الأراضي الصومالية مرة أخري، وذلك بعد أن كان حليفًا للحكومة حتى وقت قريب. وقد نجح التنظيم مؤخرًا في السيطرة على بعض المدن الصومالية منها، مدينة جرعيل بإقليم جلجدود في ولاية غلمدغ وسط الصومال، وذلك بعد مواجهات دامية، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 120 شخصًا.
• محاولة داعش الحضور في الصومال: استغل تنظيم داعش الأزمة بين الرئاسة والحكومة، وأزمة الحكومة الفيدرالية مع الولايات المختلفة، فضلًا عن أزمة الانتخابات من أجل البحث عن موطئ قدم له وإعادة حضوره ونشاطه في الصومال. ويتركز عناصر التنظيم في مرتفعات جل جلا في إقليم بري بولاية بونتلاند شمال شرق البلاد، وتُشير التقديرات المختلفة إلى أن عددهم يُقدر بنحو 300 عنصرًا.
ورغم أن حركة الشباب المجاهدين تحتكر الساحة الجهادية في الصومال، إلا أن تنظيم داعش لايزال يشكل تهديدًا للبلاد، ويحاول تنفيذ عدة عمليات قتل باستخدام الأسلحة النارية، كما يقوم باستخدام أساليب الترهيب المختلفة لفرض الضرائب على التجار والشركات في الأسواق، ومن ثمّ الحصول على مصادر دخل لتمويل نشاطه الإرهابي، إلي جانب شروع التنظيم بين الحين والآخر في الدخول في اشتباكات عنيفة مع مقاتلي حركة الشباب، وهو ما يندرج في إطار مساعي داعش لربط نفوذه في شرق القارة بغربها، وتحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثل في إعادة إحياء خلافته المزعومة من البوابة الأفريقية، فضلًا عن تثبيت تنافسه الجهادي مع تنظيم القاعدة في شرق القارة وشمالها.
محفزات عديدة
يواجه الصومال جملة من التحديات البنيوية العميقة التي تهدد مؤسساته الوطنية، وتجعل من أراضيه خاصرة رخوة لتمدد التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيمي داعش والقاعدة والفروع الرديفة لهما، والتي لا تنفك تبحث عن بيئة مواتية لتعزيز نشاطها الإرهابي في القارة السمراء. ويمكن بيان أبعاد هذه التحديات على النحو التالي:
• احتدام الأزمة السياسية: يعيش الصومال أوضاعًا سياسة مترهلة منذ تسعينيات القرن المنصرم، آخر محطاتها يتمثل في الأزمة السياسية الراهنة التي تفاقمت حدتها في عهد الرئيس “محمد عبد الله فرماجو” والذي انتهت مدة حكمة دستوريًا في فبراير 2021، إلا أنه لا يزال مستمرًا في حكم البلاد حتى الآن، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصومال؛ إذ إن “فرماجو” أصبح أول رئيس صومالي يبقى في الحكم عامًا كاملًا بعد انقضاء مدته، وبعد محاولات عدة للتشبث ببقائه في السلطة.
وبنهاية العام الماضي، شهدت الأزمة تصاعدًا لافتًا، تجسد في تجدد الصراع بين رأسي السلطة في الصومال، بعد قرار الرئيس “محمد عبد الله فرماجو”، في 27 ديسمبر 2021، بتعليق صلاحيات رئيس الوزراء، “محمد حسين روبلي”، الذي رفض القرار واعتبره محاولة للانقلاب على الشرعية والدستور ومحاولة لإفشال الانتخابات القادمة، التي يعول على نجاحها في إخراج البلاد من أزمتها السياسية الراهنة. ومنذ ذلك الحين وحتى الوقت الراهن يتزايد الصراع بين الطرفين، وتواجه مقديشو خطر العودة إلى الصراع الداخلي والحرب الأهلية مجددًا، ومن ثمّ انزلاق البلاد نحو المزيد من الفوضى.
• تردي الأوضاع الاقتصادية: يعاني الصومال من أوضاع اقتصادية غير مستقرة، كان للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، وأزمة جائحة فيروس كورونا، إلى جانب موجات الجفاف الشديدة التي تعاني منها مقديشو، بصمات واضحة في تفاقمها؛ إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 70% من الصوماليين يعيشون تحت خط الفقر، ويعاني نحو 59.5% من السكان من الجوع، كما تحذر منظمات الإغاثة الدولية من ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في البلاد من 3.5 إلى 4.1 مليون بين يناير ومارس 2022. وفي ظل هذه الأوضاع المترهلة، هجر ما يقرب من 100.000 شخص، خاصة في المناطق الوسطى والجنوبية، منازلهم بحثًا عن الطعام والماء والمراعي لمواشيهم. كما أدى الافتقار إلى الحصول على المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي إلى زيادة مخاطر الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه. وبطبيعة الحال تجد الجماعات الإرهابية في مثل هذه الظروف فرصة سانحة لاستغلال المعاناة الإنسانية والأوضاع المعيشية المتردية في تجنيد المزيد من العناصر للعمل في صفوفها.
• انقسامات في صفوف الجيش: مع تجدد الصراع الدائر بين رأسي السلطة في الصومال، تتجدد المخاوف من حدوث انقسامات داخل صفوف قوات الجيش، الأمر الذي سينعكس سلبًا بطبيعة الحال على جهود مكافحة نشاط الجماعات الإرهابية، التي قد تستغل الثغرات الأمنية الناجمة عن تجدد الاشتباكات المسلحة بين فصائل القوات الحكومية المتناحرة في عدة مناطق، في التوسع وإحكام سيطرتها على المزيد من الأراضي الصومالية.
• لعنة الموارد: رغم أن الصومال يشتهر بموارده الطبيعية الهائلة المتمثلة في وجود احتياطات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي والمعادن المختلفة كالحديد والقصدير والنحاس، إلى جانب الثروة الحيوانية الضخمة، والرواسب الكبيرة من خام اليورانيوم والمعادن الأخرى النادرة، إلا أن الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد أدت إلى انصراف الحكومة عن إدارة واستغلال هذه الموارد بالصورة الأمثل، وهو ما يجعلها فريسة أمام التنظيمات الإرهابية التي تتواجد حيث توجد الثروات.
ختامًا، تمثل التحديات سالفة الذكر مجتمعة بيئة محفزة لنشاط الجماعات الإرهابية، والتي قد تستغل حالة الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها الصومال حاليًا في شن هجماتها الإرهابية لتعزيز نفوذها في شرق القارة الإفريقية، إلى جانب استغلال تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب الصومالي في جذب المزيد من المقاتلين لصفوفها.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع