دول المشرق العربي

سعد الحريري.. سيرة تحولات من ثورة الاستقلال الثاني إلى انتفاضة أكتوبر 2019

لا تزال تداعيات إعلان سعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق تعليق عمله بالحياة السياسية تتفاعل في الداخل اللبناني، على ضوء اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقررة في مايو 2022. وكان دولة الرئيس الحريري الابن قد قرر في 24 يناير 2022 عدم مشاركة تيار المستقبل في الانتخابات المقبلة للمرة الأولى منذ عام 1996، مع ترك الأمر مفتوحًا لأعضاء تيار المستقبل في المشاركة بالانتخابات بشكل فردي أو مستقل بعيدًا عن التيار.

قرار الرئيس سعد الحريري يعني عمليًا انهيار تيار المستقبل وتفكيكه، وأنه حتى لو عاد مرة أخرى إلى العمل السياسي فهو بحاجة إلى إعادة تأسيس وهيكلة أو إعلان قيام التأسيس الثاني. وأصبح تيار المستقبل منذ تأسيسه على يد الرئيس الشهيد رفيق الحريري في تسعينات القرن العشرين هو أهم حزب سني في لبنان، ووفر لزعيمه الحريري الأب ثم الابن عباءة زعامة الطائفة السنية في بلاد الأرز، حتى أتى قرار الابن الصادم بالتقاعد وعدم خوض انتخابات مجلس النواب عن المقعد الذي شغله خلفًا لأبيه لسنوات عن دائرة بيروت الثانية.

أسباب تقاعد سعد الحريري

على الرغم من أن أغلب القراءات المتعلقة بالقرار قد ذهبت إلى سنوات وزارته الثانية، فإن الإخفاق في مسيرة سعد الحريري قد بدأ مبكرًا، وشكّل سلسلة من العراقيل التي راحت تتضخم حتى شكلت السد المنيع أمام استمرار مسيرته السياسية اليوم.

وعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، لم يكن هناك مخطط عائلي لتوريث العمل السياسي داخل آل الحريري بشكل واضح، ولكن في هذا التوقيت العصيب قبلت الأسرة الحريرية التوصية التي أتت من الرياض بتصعيد سعد الدين الحريري لرئاسة تيار المستقبل والترشح لمقعد أبيه في بيروت، رغم أن سعد هو الابن الثاني، بينما بهاء الدين الحريري هو الابن الأول. وعقب مباحثات عائلية استقر الموقف على قبول التوصية السعودية، وتم تقسيم ثروة رفيق الحريري وفقًا للشريعة الإسلامية بين أبنائه.

حصل سعد الحريري على عباءة الزعامة السنية وزعامة التيار الحريري، وأيضًا على حصة كبري من امبراطورية ابيه ممثلة في شركة “سعودي أوجيه”، وانزوى إخوته بهاء وأيمن وفهد وهند في إدارة أعمالهم الاقتصادية العملاقة.

في هذا التوقيت الحاسم في تاريخ لبنان، أصبح تيار المستقبل جزءًا من تجمع 14 آذار الداعي إلى تفكيك الوصاية السورية الإيرانية على لبنان وإعلان ثورة الاستقلال الثاني، وهكذا أصبح سعد الحريري بين يوم وليلة هو أحد قادة ومؤسسي الحراك الجديد.

كان خطأ سعد الحريري الأول هو أنه اعتمد على الدعم السعودي وتاليًا الإقليمي والدولي دون العمل على بناء شبكة تحالفات محلية لبنانية خالصة كما فعل والده. بل على العكس، فإن سعد الحريري لم يسعَ إلى شراكة حقيقية مع حلفائه في 14 آذار، وسعى إلى تنفيذ رؤيته الخاصة لتخليص لبنان من الوصاية السورية الإيرانية دون أن يمتلك شبكة العلاقات الداخلية التي يمكن أن تساعده. فقد اكتفى بالتوصيات السعودية والفرنسية والعربية، وربما الأمريكية في بعض الأحيان، بينما على الداخل اللبناني عمومًا و14 آذار على وجه التحديد أن تسمع للحريري الابن فحسب.

وكان أول صدام مكتوم هو إعادة تشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عقب أحداث 7 مايو 2008 وما تلاها من اتفاق الدوحة، فقد قام سعد الحريري بترضية موارنة 8 آذار، حلفاء سوريا ولبنان، على حساب حصة الموارنة في 14 آذار.

وعقب انتخابات 2009 التي كانت أهم انتصار برلماني وسياسي للقوى المناهضة للوصاية السورية الإيرانية على لبنان وأذرعها اللبنانية، وعلى وجه التحديد الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل، وتكليف سعد الحريري بتشكيل وزارته الأولى، فإن الحريري الابن استمع إلى نصيحة فرنسية وأمريكية بمعزل حتى عن النصيحة السعودية والعربية، وقرر الانفتاح على سوريا البعثية، وزيارة دمشق ومقابلة الرئيس بشار الأسد، ومن قبله الزعيم الدرزي وليد جنبلاط رئيس الحزب الاشتراكي اللبناني وأحد قادة 14 آذار، وللمرة الثانية يقوم سعد الحريري بترضية قوى 8 آذار خاصة الموارنة على حساب حصة 14 آذار وموارنة 14 آذار في تشكيلته الوزارية!

ورغم أن الحريري الابن ذهب إلى دمشق، بتوصية أمريكية – فرنسية في إطار خطة من الرئيسين الأمريكي باراك أوباما والفرنسي نيكولا ساركوزي في إغراء دمشق بالابتعاد عن طهران، وهي رؤية ساذجة وقاصرة أثبتت فشلها، فإن المحور الإيراني السوري سرب عبر شاشة قناة الجديد اللبنانية في يناير 2011 تسجيلًا صوتيًا للحريري الابن وهو يتطاول على الأمير محمد بن نايف نائب وزير الداخلية وقتذاك (وزير الداخلية ثم ولي العهد لاحقًا). وعلى ضوء هذا التطاول وفشل المبادرة الأمريكية الفرنسية لفصل سوريا عن إيران ونجاح الثنائي الشيعي في التلاعب بحكومة سعد الحريري الأولى وتعطيلها، قدّم سعد الحريري استقالته في يناير 2011 وغادر لبنان إلى فرنسا.

غياب سعد الحريري عن لبنان كان خطأً جسيمًا، على ضوء اشتعال الحراك اللبناني الرافض للمحاصصة الطائفية، ثم بدء أحداث الحرب السورية وتفاعلات ما أطلق عليه الربيع العربي في الشرق الأوسط. وقد أدت تلك الاحداث إلى تضخم دور إيران وحزب الله في الجوار اللبناني، سواء سوريا أو العراق وحتى اليمن، وبينما كان ينظر إلى الشيخ سعد الحريري لا بوصفه زعيمًا لتيار المستقبل أو صاحب العباءة السنية ولكنه زعيم 14 آذار والزعيم المناهض للوصاية السورية الإيرانية.

وبينما كان الشيخ سعد الحريري غائبًا، فإن الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية وصاحب التاريخ الطويل في مناهضة الوصاية السورية ثم الإيرانية على لبنان قد ملأ دور زعامة 14 آذار، وأصبح الزعيم الصعب بل والأخير في قائمة 14 آذار الرافض بصرامة لهذه الوصاية.

وساعد صعود جعجع في أن الرياض تقاربت مع الزعيم الماروني؛ إذ إن الملك عبد الله قد أيقن بعد تجربة وزارة سعد الحريري الأولى أنه لا يمكن التعويل علي الحريري الابن في مناهضة الوصاية السورية الإيرانية، وراهنت الرياض –وحتى اليوم– على سمير جعجع. ولا عجب في ذلك؛ إذ إن للمملكة العربية السعودية تاريخًا من الصداقة والتعاون مع الزعامات المارونية مثل آل فرنجية وعلى رأسهم الرئيس الراحل سليمان فرنجية، فالظن بأن انحياز الرياض للسنة في لبنان لأسباب دينية هو ظن سياسي ساذج وبعيد عن الواقع.

وفى تلك الأثناء، حاول سعد الحريري التقرب من تركيا، ثم قطر، وحتى إيران، وطرح في بادئ الأمر سمير جعجع رئيسًا للجمهورية عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، ولم يدم الاتفاق بين الحريري وجعجع طويلًا، إذ مارس الحريري الابن هوايته المعتادة في خذلان رفقائه الموارنة في 14 آذار، وسارع في طرح اسم سليمان فرنجية الحفيد رئيسًا للجمهورية!

وعلى ضوء العداءات التاريخية بين آل فرنجية وسمير جعجع وميشال عون، قرر عون وجعجع وقتذاك الاجتماع وطرح اسم عون مرشحًا للرئاسة؛ من أجل إسقاط مسعى الحريري بتسليم الرئاسة اللبنانية إلى فرنجية الحفيد المقرب من دمشق، وكانت مناورة شديدة المرارة على سمير جعجع نظرًا لحقيقة أن ميشال عون قد أصبح جزءًا من تحالف 8 آذار المؤيد لاستمرار الوصاية السورية الإيرانية.

وحينما أدرك سعد الحريري أن مناورة عون – جعجع هي الأقرب للرئاسة، قرر اللعب بالورقة الأخيرة، والذهاب إلى تحالف حقيقي بعنوان العهد مع حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر برئاسة ميشال عون ولاحقًا جبران باسيل، وكان عنوان التحالف هو أن تذهب الرئاسة إلى ميشال عون وتذهب الوزارة إلى سعد الحريري.

وعلى ضوء الجمود الذي ضرب لبنان، قبلت كافة الأطراف اللبنانية في 14 آذار بهذا الاتفاق، وهكذا عاد الحريري الابن إلى بيروت مرة أخرى لتشكيل الوزارة الثانية عام 2016 بعد خمس سنوات لم يزر فيها الحريري الابن لبنان الا بشكل سريع.

ولم ينس الحريري الابن أثناء تشكيل وزارته الثانية أن يمارس نفس الخذلان بحق قوى 14 آذار وموارنة 14 آذار، وإعطاء حصة الأسد لقوى 8 آذار وموارنة 8 آذار، تمامًا كما جرى في وزارة السنيورة عقب أحداث 7 مايو 2008 وأثناء تشكيل وزارته الأولى –ثم الثانية– وانتخابات الرئاسة 2016!

وعلى ضوء فشل العهد في حل مشاكل لبنان، انفجرت الثورة الشعبية في 17 أكتوبر 2019 وقدم سعد الحريري استقالة وزارته الثانية، ما يعني عمليًا سقوط اتفاق “العهد” بعد أن أتم مهمته بأن أوصل عون لرئاسة الجمهورية أخيرًا وأعاد الحريري الابن إلى رئاسة الوزراء، ولم يعد ممكنًا استمرار اتفاق العهد مرة أخرى، فلا الحريري قادر على إيصال جبران باسيل إلى رئاسة لبنان ولا جبران باسيل قادر على تأمين الوزارة الثالثة لسعد الحريري.

اقتصاديًا، انهارت شركة “سعودي اوجيه” عام 2017، نصيب سعد الحريري من امبراطورية رفيق الحريري الاقتصادية، ورغم تغير القيادة السعودية إلا أنه فشل في إصلاح علاقته مع الرياض، التي لن تنسى له تحالفه مع الفريق السوري الإيراني ما بين عامي 2016 و2019.

الثورة اللبنانية استمرت في محاولة لإسقاط النخبة اللبنانية التي فشلت، ومع وقوع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 قدّم حسان دياب استقالة وزارته لتصبح ثاني وزارة تسقط تحت أقدام الثورة اللبنانية، وحاول “العهد” إعادة سعد الحريري إلى رئاسة الوزراء، ولكن الحريري الابن فشل في تشكيل الوزارة.

ومع اقتراب موعد الانتخابات، كان منطقيًا على الرئيس سعد الحريري ألا يخوضها، وأن يعلق عمله السياسي بدعوى التقاعد، فالشعب ثار على حكومته في المقام الأول، وقد فشل في تشكيل وزارته الجديدة لاحقًا عام 2021، وسقط تحالفه مع قوي 8 آذار، ولم يعد له حلفاء حقيقيون في 14 آذار؛ إذ إن التلاسن بين قادة فريق عمله وقادة القوات اللبنانية أصبح علنيًا وشبه يومي، ولا يوجد قوى إقليمية تقبل بالتعاون معه وعلى رأسها السعودية، وختامًا فإن فرنسا لن تقبل بالعمل مع رئيس وزراء ثار عليه شعبه في لبنان.

سلسلة من الاختيارات الاقتصادية والسياسية الفاشلة، إضافة إلى تلاعب محكم من سوريا ولبنان بدولة الرئيس، عبر الثنائي الشيعي وطموحات مؤسس التيار الوطني الحر، وكل ذلك كان يصب في طريق الوصول إلى هدف واحد ألا وهو تفكيك الزعامة السنية اللبنانية.

مستقبل الطائفة السنية

تسارعت التفاعلات السياسية في الظهور على مسرح الأحداث بلبنان فور هذا القرار الصادم، إذ بدأت بعض القوى السياسية داخل تجمع 14 آذار بالتفاوض مع بعض أعضاء تيار المستقبل لخوض الانتخابات عبر لوائحها على ضوء الحضور القوي لهؤلاء الأعضاء في مجلس النواب والانتخابات البرلمانية السابقة، مع حقيقة أن تيار المستقبل العضو المؤسس في تجمع 14 آذار مما يعني أنه لا توجد خلافات حزبية أو أيديولوجية بين هذه الأسماء وقوى 14 آذار.

وترددت أنباء أن النائبة بهية الحريري تعتزم تشكيل لائحة انتخابية سريعة تضم عناصر تيار المستقبل، على ضوء حتمية استمرار السيدة الحريري في مقعدها البرلماني عن محافظة صيدا.

وقد عملت بعض القيادات السنية في السنوات الأخيرة على تشكيل الوزارة اللبنانية دون أن يشار إليها بالزعامة السنية، مثل الرئيس فؤاد السنيورة والرئيس نجيب ميقاتي، رغم ما لديهم من شعبية وتكتلات انتخابية واسعة النطاق، خاصة الرئيس ميقاتي في طرابلس. بجانب أن قوى 8 آذار الموالية للنفوذ الإيراني – السوري برئاسة حزب الله لديها النائب والوزير السابق فيصل كرامي سليل آل كرامي التي تعد من أهم عائلات الطائفة السنية سياسيًا واقتصاديًا في تاريخ لبنان الحديث.

وإقليميًا، لا يوجد تخوف داخل السعودية من غياب سعد الحريري، بل إن بعض الأصوات داخل تيار المستقبل قد اتهمت الرياض بالتخطيط وتنفيذ هذا التغييب، ولكن الرياض اعتادت في التعامل مع لبنان على فكرة “زعامات المناطق”. وفى زمن ما قبل رفيق الحريري كانت الرياض تتعاون بشكل وثيق مع ثلاثة رؤساء للوزراء هم سامي الصلح وصائب سلام وحسين العويني في نفس الحقبة الزمنية، وتظل أسماء نجيب ميقاتي وأشرف ريفي وتمام سلام من الأسماء التي تحظى بقبول سعودي.

مستقبل 14 آذار

على وقع ما سبق، فإن تجمع 14 آذار بحاجة إلى هيكلة، وأيضًا تيار المستقبل؛ فلا يعقل أن تظل الساحة اللبنانية دون حزب سني قوي. ونتائج الانتخابات وما يليها من تفاعلات هي القادرة على حسم مدى قدرة الحراك المناهض للوصاية السورية الإيرانية على إعادة تجديد دمائه، سواء 14 آذار أو إنتاج حزب سني جديد على ركام تيار المستقبل وتجربة سعد الحريري، إذ إن أغلب قوى 14 آذار لا تمتلك القدرة على اتخاذ موقف حقيقي بوجه الثنائي الشيعي، سواء سامي الجميل رئيس حزب الكتائب، أو تيمور جنبلاط رئيس الحزب الاشتراكي التقدمي، ما يعني عمليًا أن سمير جعجع هو الفرصة الأخيرة لقوى 14 آذار.

ولعل المفارقة هنا أن سعد الحريري، وإن اتخذ بشجاعة قرار التقاعد، فأن شريكه في “العهد” الوزير جبران باسيل كان يجب أن يتخذ القرار ذاته، ومع ذلك يحاول باسيل البحث عن أي فرصة للترشح للرئاسة اللبنانية عبر الثنائي الشيعي أو محور دمشق – طهران، رغم حقيقة أن الشعب اللبناني يوم ثار على العهد، قد طالب برحيل جبران باسيل قبل سعد الحريري وميشال عون!

تلك كانت سيرة الإخفاق في مسيرة الشيخ سعد الحريري من ثورة الاستقلال الثاني عام 2005 إلى ثورة الشعب عام 2019، من 14 آذار إلى 8 آذار، من محور الاعتدال العربي عمومًا والسعودية على وجه التحديد، إلى المحور الفارسي عمومًا، وايران وسوريا على وجه التحديد، ومحاولة إيجاد موطئ قدم في محور الإسلام السياسي لدى قطر وتركيا في سنوات الربيع العربي، وخذلان رفاقه في 14 آذار في أربع استحقاقات وزارية وانتخابية متتالية ما بين عامي 2008 و2016، من اتباع رهانات أوباما وساركوزي الخاسرة، ثم الخلاف مع العاهل السعودي الراحل عبد الله ثم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والخروج من حلبة السياسة اللبنانية أمام ثورة الشعب يوم قدم استقالته في 29 أكتوبر 2019، التاريخ الحقيقي لتقاعد الشيخ سعد الحريري.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى