مصر

الفن المصري.. قوة تخطت الجغرافيا وتحدت الزمن

نبغت الفنانة المصرية فاطمة ابنة الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي نبوغًا ليس له مثيل في عالم الغناء. وعاشت حياة فنية حافلة، هي التي امتلكت الصوت الذي توحدت أمامه الأقطار العربية، ووقف الزمن أمام قدرته على البقاء على مدار عقود ممتدة بالكثير من علامات التعجب والاستفهام، واخترقت أحباله وبدون أدنى جهد القلوب، حتى أحب الناس صاحبته الست “أم كلثوم” التي عرٌفها العرب بلقب كوكب الشرق. وهو اللقب الذي يُعزى إطلاقه عليها لأول مرة إلى أهالي فلسطين الشقيقة التي كانت الست أم كلثوم، جنبًا إلى جنب مع الكثير من فنان مصر، قد اعتادت على إحياء حفلات بها خلال الفترة التي سبقت احتلالها وإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948.  

ويختلف الكثيرون حول التاريخ المحدد لحصول “الست” على هذا اللقب، لكن القصة نفسها غير مُختلف عليها، ويُقال إنها تعود للعام 1946، عندما كانت أم كلثوم تستقل القطار في طريقها من القدس إلى حيفا لتحيي حفلتين، واحدة منهم في مسرح يُدعى الانشراح. ومن هناك صعدت امرأة فلسطينية تُدعى أم فؤاد وقالت لأم كلثوم: “أنتِ كوكب الشرق بأكمله”. وتُعد قصة كوكب الشرق واحدة من قصص كثيرة المصريون هُم أصحاب دور البطولة فيها، إما في مجال الغناء أو السينما أو المسرح والآداب وغيره. حدثت في الماضي ولازالت تحدث، ولطالما ربطت بين الفن المصري والجماهير العربية. تدفعنا لطرح تساؤلات عدة حول منبع الفنون المصرية، وعلاقاتها بمثيلاتها عند الإخوة العرب، وصولاً إلى نظرة على أحوالها المعاصرة. 

لكل شيء منبع.. من أين يكتسب الفن المصري مصدر قوته؟

يقول الكاتب والمفكر الكبير توفيق الحكيم في كتابه بعنوان “تحت المصباح الأخضر”، “أن الأمم تشعر في أطوار تاريخها كما يشعر الفرد في أطوار حياته. ومظهر شعورها هو ما نسميه الفن. ويدلنا تاريخ الفن على أن شعور الأمم خاضع لعين الناموس الذي يخضع له الفرد: ناموس السن والزمن. فكما أن للشباب إحساسه المتجه غالبًا إلى الطموح والأمل والتفاؤل بالحياة، كذلك الأمم في عهود شبابها يتجه فنها إلى المثل الأعلى”. 

ويُتابع الحكيم شارحًا، “لكن من أين ينبغ حلمنا ومثلنا الأعلى؟ من قلب أرضنا. لا شعور ولا تفكير إلا مصدرهما الأرض. فكما ينتسب الولد للفراش كذلك الفن للأرض”. ويضيف عن منابع الفن المصري، قائلاً، “إن مصر هي البعث. وأن كل شعور مصري منذ فجر التاريخ قائم على هذه الكلمة: البعث. لماذا؟ لأن أرض مصر التي لم يتغير جمالها على الزمن، تلك التي نرى نيلها وجوها، وكل شيء فيها يسير على نظام لا ينحرف منذ الأزل، قد غرست في نفوس أهلها الإيمان بها. مصر لن تموت. ولن تموت فيها دجاجة أو بطة أو إوزة.. كل شيء يبعث ليستأنف من على هذه الأرض الخصبة الخالدة حياته الوادعة الهادئة التي لن تزول.. موت وبعث، موت وبعث، وهكذا دواليك مثل ساقية النيل ذات الجرات الحمراء”.

إذًا، الشعب المصري هو من يخلق الفن، لكن الفن ينبع من الوجدان، وحتى يتأثر هذا الوجدان إلى الدرجة التي تدفعه معها لأن ينتج فنًا، فهو بحاجة للتفاعل مع الأرض التي يستقي منها إحساسه الفياض الذي يخرج في نهاية المطاف إما على هيئة قطعة موسيقية أخاذة أو رواية تحسب على قائمة الروائع الأدبية العالمية، أو مسلسل درامي يبرع فنانوه إلى الحد الذي يأثر معهم قلوب الآخرون. بمعنى، إن شمس الفنان التي تبزغ من مصر إلى العالم لابد وأن تحمل مع أشعتها ملامح المكون الخالص للشخصية المصرية بكل ملامحها وتاريخها وتفاعلاتها مع بلادها أينما ذهبت.

الفن المصري والعربي.. تشابك اللحظات الأولى

شهد عام 1932 ظهور أول فيلم مصري سينمائي ناطق باللغة العربية، تحت عنوان “أولاد الذوات” من بطولة الفنان يوسف وهبي والفنانة أمينة رزق. ومنذ ذلك الوقت مر الفن المصري بمختلف أشكاله السينمائية منها أو التليفزيونية بمراحل عدة، تنوعت واختلفت عبر العصور، مُحققة تأثير بالغ القوة على شريحة كبرى من الجماهير، التي لا تقتصر فقط على كونها جماهير مصرية، ولكنها تمتد كذلك حتى تشتمل على الجماهير العربية بالكامل من المحيط إلى الخليج.  

وفي سوريا، شهد العام 1947 تأسيس أول استوديو مجهز لإنتاج فيلم ناطق على يد نزيه الشهبندر الذي نتج عن محاولاته أول فيلم سوري ناطق بعنوان “نور وظلام”.  تلي ذلك، أن عرف العالم العربي أول مهرجان سينمائي في تاريخه تحت لواء الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تضم مصر وسوريا. ولقد جاء هذا المهرجان على هامش فاعليات معرض دمشق الدولي عام 1956، والذي تم بفعل الجهود التي مارسها صلاح ذهني –الذي تولى عام 1960 منصب رئيس دائرة السينما والتصوير- في إقناع السوريون لتبني هذا المهرجان. 

وفي سياق غير بعيد، نذهب إلى لبنان التي تُعد بدورها واحدة من الدول العربية الأوائل التي انشغلت بالفن. حيث يعود تاريخ صناعة السينما في لبنان إلى عام 1930، التي تعتبر جميع الأفلام التي تم إنتاجها في هذه الفترة مجرد محاولات فردية لم يحالفها النجاح. ويمكن القول أن الإنتاج السينمائي اللبناني بدأ يرسخ نفسه بنجاح بدءً من العام 1952. ونعرف من كل ما سبق، أن بلدان العالم العربي –رغم تأثرها بالفن المصري- لطالما كانت زاخرة بحياة فنية خاصة بها من نوعٍ ما، وأن هذا ظهور هذا الفن لم يؤثر يومًا بشكل أو بآخر على مثيله في مِصر. 

الدراما المصرية والعربية.. لحظات معاصرة

شهدت التسعينيات نهضة درامية كبيرة في مصر تكللت بافتتاح مدينة الإنتاج الإعلامي، عام 1997، والتي أطُلق عليها لقب “هوليوود الشرق”. وقد باتت هذه المدينة التي صاحب ظهورها طفرة إنتاجية كبيرة بمثابة دلالة على أن سطوة الفن المصري وحظوته لم تقتصر فقط على النجوم الأوائل اللذين ازدهروا في العشرينيات أو الثلاثينيات وصولاً الى التسعينات من القرن الماضي. بل أنها استمرت ولازالت مستمرة حتى اليوم الحاضر. 

وعلى الرغم من تألق الدراما العربية بشتى أفرعها، السورية، واللبنانية، والتونسية وغيرها، إلا أنه كان معروفًا أن النجم الذي يسطع في سماء القاهرة يلمع في جميع السماوات العربية كذلك، وأن اللسان الذي يتقن اللهجة المصرية يصبح مفهومًا ومستساغا لدى أبناء كافة اللهجات العربية الأخرى، والعكس في الحالتين ليس من الضروري أن يكون صحيحًا. مما يقود إلى ضرورة الاعتراف بالفن المصري باعتباره أداة مؤثرة ليس فقط على الشعوب العربية المجاورة، بل على فنانونها كذلك. 

ومن هذا المنطلق، يمكن النظر في مفهوم القوى الناعمة المصرية بأدواتها المختلفة، والتي يُعد الفن بمثابة واحدًا من أهم هذه الأدوات. ويمكن القول إن ما قدمه الفن المصري عبر تاريخه، حظي بهذا التأثير الواسع لعدة أسباب مختلفة، من ضمنها امتلاكه القدرة على تقديم التسلية للمشاهدين بشكل جذاب أو للمستمعين في حالة الطرب. بالإضافة الى امتلاك مصر الدائم لنخبة متنوعة من المواهب الفنية الفريدة من نوعها، والتي حققت شهرة واسعة النطاق جعلت اسم مصر مرتبطًا بشكل دائم بأسماء هذه المواهب الفذة.

وترتب على ذلك، أن أصبحت مصر تمتلك تأثير ثقافي ولغوي في وجدان كل العرب، فقد تعدى أمر إعجابهم واهتمامهم بالفن الى حد أن اصطبغت حيواتهم الى حد كبير بالطريقة المصرية بوجه عام. وأصبحت أشياء تأتي من صميم أصناف الطعام المصري والمصطلحات الشعبية المصرية والنكات وغيرها، جزءً لا يتجزأ من حديث أي عربي مع المصري بمجرد وقوع أي لقاء بينهما داخل مصر أو في أي بقعة من بقاع الأرض، كما أن ذلك التأثير تسبب أيضًا في نشر اللغة العامية المصرية على نطاق واسع، وأصبح المواطن العربي من أي جنسية مُغرمًا بالعامية المصرية ويفهمها بوضوح في الوقت الذي من الصعب أن تعثر فيه على مواطن مصري يفهم سائر اللهجات العربية لو حاولنا أن نُجرب العكس.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى