
قوة مصر الناعمة.. ريادة حقيقية تستند إلى مكونات فكرية وحضارية
تمتلك مصر ثقلًا حضاريًا وتاريخيًا لا يمكن حصره، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي وخططها التنموية الجديدة التي باتت محط أنظار دول العالم، وخاصة بعد 2014؛ لدورها المؤثر وتجربتها الفريدة باستعادة استقرارها ومعالجة الفجوات المجتمعية بعد محاولات التيارات المتطرفة سيادة المشهد، فقامت من جديد، وصمدت أمام الفتن، وطورت بنيتها التحتية، لتقطع الصفحات الماضية وتجعلها في طي النسيان.
القوة الناعمة.. الضغط دون استخدام القوة
القوة الناعمة هي القدرة على امتلاك النموذج الفكري والحضاري والتنموي القادر على التأثير في الآخرين، والقدرة على تحقيق الجاذبية لجذب الأنظار نحو ما تريد من ضغط، دون استخدام القوة؛ فأفكار الدولة ومبادئها وهويتها وإنجازاتها وتاريخها وفنها وثقافتها هي التي تفرض احترام شعوب العالم لها.
وقد ظهر هذا المصطلح في التسعينيات على يد “جوزيف ناي” المفكر السياسي الذي أسس الليبرالية الجديدة، والذي قسمه إلى ثلاث مجموعات: الثقافة والأدب والفن والتعليم، وقيم الدولة السياسية، وسياسة الدولة الخارجية وعلاقتها بالدول الأخرى، فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الآخرين تتسع قوتنا الناعمة.
ووفقًا لتقسيم ناي لمفهوم القوة الناعمة، نجد أن مصر تمتلك العديد من عناصر القوة الناعمة، فهي بلا شك لديها تاريخ طويل من الحضارات المختلفة، ورصيد حضاري يتفوق على الكثير من الدول، بداية من الحضارة المصرية القديمة، مرورًا بالإغريق والتراث القبطي والتاريخ الإسلامي.
مؤشر القوة الناعمة ومعايير التقييم المستخدمة
تُعد قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي، وهو الأمر الذي يحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية. وامتلاك عناصر القوة لا يكفي حتى تكون الدولة مؤثرة، فلابد من تبني سياسات فعّالة لاستخدام تلك القوة.
ويتم تقييم الدول وفقا لعدة معايير رئيسة، وهي العلاقات الدولية والتأثير العالمي الملحوظ للدولة، وسمعة الدولة، والاقتصاد والتجارة، والثقافة والتراث، والتعليم والعلوم، والحوكمة، والإعلام والاتصال، والشعوب والقيم، مع عنصر جديد أُضيف للمرة الأولى في عام 2021 وهو مدى كفاءة الاستجابة لتداعيات “كوفيد-19″، مع معايير فرعية أخرى مثل سهولة مزاولة الأعمال، واحترام الجمهور لجهود قيادة الدولة، والأمن والأمان، وتبنّي التكنولوجيا المتقدّمة، وتأثير الدولة الدبلوماسي، وقوة اقتصادها واستقرارها.
وقد احتلت مصر المرتبة 34 عالميًا عام 2021، بتقدم 4 مراكز عن عام 2020، وبمجموع درجات 38.3 درجة، من بين 30 دولة تشهد تقدمًا ملحوظًا، وأشاد الكل بمقدرتها على النهوض من جديد وإصلاح كل ما تم إفساده في السنوات الماضية، فحصلت مصر على ميداليتين ذهبيتين في الثقافة، والإرث الغني، فضلًا عن الإشادات الكبيرة بمجهودات مصر وقت جائحة كورونا، ومبادراتها نحو الدول العربية والعالمية بتوجيه المساعدات الطبية المختلفة، ونقل الخبرات المصرية في علاج فيروس سي إلى إفريقيا، بالإضافة إلى المشروعات القومية المصرية في الدول الإفريقية.
تأثير القوة الناعمة المصرية عربيًا
برزت القوة الناعمة المصرية في المنطقة العربية قبل انتشار هذا المصطلح في التسعينيات، ومنذ عشرات السنين. وما زال العالم العربي يعيش على هذه القوة عبر فنون مصر السينمائية والغنائية والدراما التليفزيونية والكتب الثقافية التي ما تزال تستقطب الجماهير العربية شرقًا وغربًا، بالإضافة إلى الأفكار والقيم المصرية التي نجدها مزروعة داخل كل منزل وبين أفراد كل أسرة.
استمدت مصر قوتها الناعمة من تاريخها العريق، فضلًا عن تفردها بإرث حضاري قد جذب العالم نحوه من خلال التطور العمراني واكتشافات أثرية ضخمة ومتاحف غنية، من بينها المتحف المصري الكبير، الذي ينتظر العالم أن يفتتح أبوابه بفارغ الصبر، بعد النجاح الساحق لجذب الأنظار نحو موكب نقل المومياوات الملكية إلى متحف الحضارة المصرية، وحفل الكشف عن طريق الكباش بالأقصر الذي أثرى وعزز السياحة المصرية وأعاد إليها الروح من جديد بعد معاناة جائحة كورونا.
ومن عناصر القوة الناعمة التي لا يستهان بها هو العنصر الرياضي والثقافي، فبموقع مصر الاستراتيجي وقوة بنيتها التحتية، أصبحت أرضًا لاستقطاب بطولات دولية عديدة، كاستضافة مصر لكأس الأمم الإفريقية عدة مرات آخرها عام 2019، واستضافة منافسات كأس العالم لكرة اليد السابعة والعشرين للرجال عام 2021، وقد أسند الاتحاد الدولي للرماية لمصر مؤخرًا استضافة بطولة كأس العالم للرماية 2022.
ذلك بالإضافة إلى تعميق وتوطيد العلاقات الثقافية والاجتماعية، إذ جذبت مصر الثقافات المختلفة، وعمّقت حضور الهوية المصرية والعربية، من خلال مبادرة” اتكلم عربي”، إلى جانب العديد من المبادرات التي تهدف إلى بث روح التعاون والتلاحم والصداقة بين مختلفة الدول، لتكون الدولة المصرية أيقونة السلام، ونواة لخلق عصر جديد من السلام والازدهار على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن بين الإنجازات الفريدة، اعتماد الأمم المتحدة، “منتدى شباب العالم” منصة دولية؛ تقديرًا لإسهامات المنتدى في مناقشة القضايا المعاصرة الخاصة بالشباب ودورهم في تحقيق أجندة التنمية المستدامة 2030.
الثقافة والفنون لهما النصيب الأكبر من حيث التأثير، إذ تعد مصر من الدول الرائدة في الانفتاح على الثقافات المختلفة وتبادل الخبرات؛ بهدف تحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية المستدامة، من خلال جعل الفن رسالة سلام للعالم ورسالة إيجابية تهدف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة وتعمق مفهوم الهوية الوطنية.
وقد استضافت مصر العديد من المهرجانات العالمية، بالإضافة إلى تفرد الفنون المصرية باستقطاب الفنون المختلفة ممزوجة بتنوع الثقافات والحضارات، وتشهد على ذلك دار الأوبرا المصرية، ومتاحف مصر، ودار الكتب، والمسارح، والسينمات، ونهضة الفنون في مصر في جميع المجالات.
ومن أهم عناصر القوة الناعمة المصرية التي أثرت عربيًا وإقليميًا هي اللهجة المصرية، فقد لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ العلاقات الثقافية والاجتماعية، وتحقيق مزيد من تقارب الشعوب في المنطقة العربية، فهي اللهجة التي اتفق الجميع على فهمها والتحدث بها بكل سهولة، والتي ساهمت الدراما والسينما المصرية في انتشارها إلى حد كبير.
هل تنتقص المنافسة من قوة مصر الناعمة؟
المنافسة حق مشروع لأي طرف، وبالفعل هناك سعي من دول عربية إلى إثراء المحتوى الأدبي، وتعزيز عناصر القوة الناعمة لديها. ولا يستطيع أحد أن ينكر أو ينتقص من مجهودات هذه الدول في الارتقاء بكافة المجالات التي تضيف وتقوي وتثري القوة الناعمة في الوطن العربي.
ولكن تبقى مصر هي صاحبة الريادة في المنطقة، فمصر تمتلك المقومات منذ قديم الأزل، وربما تكون هي الملهمة التي تستمد منها كافة الدول تجربتها. وهي التي لعبت دورًا كبيرًا في نقل الثقافات إلى مختلف الدول، وقامت بصياغة عقل ووجدان المنطقة العربية، وأبعد من ذلك نحو إفريقيا وآسيا، فكانت أول من أرسلت البعثات التعليمية للدول العربية والآسيوية، وقدمت العديد من المنح التعليمية.
ذلك فضلًا عن دور الأزهر الشريف والكنيسة المصرية كأحد أدوات مصر المهمة في علاقتها بالدول، ولن ننسى الكم الهائل من الشخصيات المصرية المؤثرة من مثقفين وكتاب ومفكرين وفنانين ورياضيين وغيرهم، فمصر فرضت من خلال قوتها الناعمة والقادرة على الاستقطاب والإقناع، سيطرتها على المنطقة.
ولذلك، قطعًا لا يمكن أن ينقص رصيد مصر بسبب هذه الجهود العربية الأخرى للنهوض بمقدراتها الثقافية والفنية؛ فالقوة الناعمة المصرية جزء من صميم المجتمع ولا يمكن أن تغيب، فمصر هي البداية لكل شخص يسعى للنجاح في أي مجال، ولطالما كان معيار النجاح الفني والثقافي والأدبي في الوطن العربي هو تحقيق هذا النجاح في مصر، فمن “المحروسة” تبدأ الشهرة و”النجومية”.
القيم هي التي تنشئ المجتمعات، وهي التي تضمن بقاء نهضتها، وهنا نتحدث عن القيم الجمالية النابعة من البيئة المصرية، والتي تشمل الفنون بكل ما تحمله. وتنمية الحاسة الفنية بمفردات نابعة من تلك البيئة يساعد الفرد على تذوق الفن والاستمتاع به، وتجعله ذا حس مرهف قادر على رؤية الجمال في موطنه، وهو ما ينمي لديه ملكات إبداعية لم يكن لها أن تخرج لولا توافر بيئة إبداعية من حوله.
فالهدف واحد، والتعاون والتشارك بين الدول من أجل إثراء الفنون والثقافة العربية شيء لا يختلف عليه اثنان، فهذا هو الهدف، فمصر لطالما نقلت خبراتها إلى مختلف هذه الدول، سواء كانت خبرات تعليمية أو طبية أو فنية أو في مجال القضاء والإعلام والخبرات العسكرية، أو حتى الخبرات الإنسانية المؤثرة.
باحثة بالمرصد المصري