
بين “الوحدة الوطنية” و”الاستقرار”: كيف يبدو المشهد الليبي القادم؟
تتصاعد المخاوف من إعادة إنتاج ذات المُعضلات المُعطلة لتسوية الأزمة الليبية؛ فقد شرع مجلس النواب في اختيار حكومة مؤقتة جديدة، يُرجح أن تسمى بـ “حكومة الاستقرار”؛ لاستبدال “حكومة الوحدة الوطنية”، ناهيك عن بروز مؤشرات حول توافق قطبي الصدام “النواب” و”الدولة” على تدشين مسار دستوري-تشريعي يُمهد لعقد الانتخابات، بعد فشل عقدها بآجالها التي طُرحت خلال الشهرين الماضيين. وهو مشهد في مُجمله يطرح احتمالات وسيناريوهات بالغة الخطورة على الحالة الليبية، ورغم تعدد مساراتها وتنوعها إلا أنها ستقود إلى إضفاء مزيد من التعقيد على الأزمة، وهو ما يستدعي بحث اتجاهاتها وتداعياتها.
مُقاربة قديمة-حديثة
أظهرت تحركات مجلس النواب مؤخرًا اتجاهًا واضحًا لحلحة الانسداد السياسي الراهن، والذي كانت أهم تداعياته فشل عقد الانتخابات العامة في توقيتاتها المحددة سلفًا، وحفز ذلك النواب على تبني مجموعة من الإجراءات والمسارات، والتي مثل بعضها استدعاءً لمُقاربات سابقة، فيما عكست الأخرى استحداثًا لتحركات غير مسبوقة، ومن أبرزها:
- استبدال السلطة التنفيذية: يسير مجلس النواب بخطوات سريعة نحو اختيار حكومة مؤقتة جديدة، حيث تقرر فتح باب الترشح لرئاسة الحكومة واختيار رئيسها من خلال المجلس؛ لاعتبارات تتعلق بانتهاء ولاية “حكومة الوحدة الوطنية” بانقضاء تاريخ 24 ديسمبر الماضي، وما شكلته تحركات الدبيبة من سياق صدامي مع النواب، بالإضافة إلى اعتبار أداء الحكومة المؤقتة عاملًا رئيسًا في تعطيل إجراء الانتخابات العامة. وأعلن مجلس النواب عن تخصيص جلستيه المقبلتين للاستماع للمرشحين لرئاسة الحكومة ثم اختيار رئيس الوزراء الجديد؛ لتصحيح مسار السلطة التنفيذية بما يمهد للانتخابات في غضون الأشهر المُقبلة.
- التوافق مع مجلس الدولة: يسعى مجلس النواب إلى إيجاد صيغة توافقية مع مجلس الدولة حول الاستحقاقات المنتظرة، إذ عقدت لجنة “خارطة الطريق البرلمانية” عدة اجتماعات مع ممثلي مجلس الدولة، والتي تمخض عنها توافق نسبي على إعادة النظر بالقضايا الخلافية، كالقاعدة الدستورية والتشريعات الانتخابية وأولوية الاستحقاقات. وهذا المسعى يؤكد بحث مجلس النواب في سبل تجاوز العراقيل التي فوتت الآجال الانتخابية السابقة دون إنجاز؛ كون التباين بين رؤى المجلسين قاد إلى إجهاض الانتخابات منذ البداية، وسيعزز التوافق -حال تحققه- شرعية وفرص قبول نتائج الاستحقاقات المُقبلة.
- الضغط على التحركات الأممية: أظهرت جلسات البرلمان، وما أعقبها من تصريحات ومواقف رسمية، رفض النواب للدور والأنشطة التي تؤديها مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا “ستيفاني وليامز”؛ وهو مُقترن بالتصريحات التي تطلقها وليامز ضد المجلس إعلاميًا، وأن عودتها للمشهد تثير التوجس من رغبتها في استعادة التأثير والنفوذ الواسع الذي أدارت به التسوية بالسابق، وأفرز أجسامًا موازية مثل “لجنة الحوار السياسي” وبرامج كـ “خارطة الطريق الأممية”، وهدد سيطرة الكيانات التقليدية -النواب والدولة- على المشهد الليبي.
- الانفتاح على الدور التركي: عكس تبادل الزيارات بين المسؤولين بمجلس النواب والمنطقة الشرقية من جانب، وتركيا من الجانب الأخر، تراجع مستويات العداء ووجود أرضية تسمح بإعادة تقييم العلاقات بين الطرفين. فزيارة السفير التركي في ليبيا، كنان يلماز، لمدينة “لقبة” حيث التقى رئيس مجلس النواب ثم “بنغازي” والحديث حول إعادة فتح القنصلية التركية فيها والطيران المباشر إليها (يناير2022)، وما سبق ذلك من استقبال وفد لمجلس النواب في تركيا (ديسمبر2021)، تُعد إعلانًا عن انفتاح الشرق على الدور التركي، وبدء التنسيق حول القضايا الإشكالية كالمرتزقة والقوات الأجنبية، وهو ما يعزز قدرة المجلس على إنجاز الإجراءات الثلاثة السابقة.
استشراف الغد
تفتح التحركات سابقة الذكر المجال أمام جُملةً من الاحتمالات والمسارات التي يمكن أن تسير فيها الحالة الليبية خلال المرحلة المُقبلة، وإن كانت لا تخرج حالة الأزمة بين ثلاثة: (التهدئة – التصعيد- المراوحة بينهما)، إلا أن ما تم عرضه من إجراءات برلمانية يُرجح أن يقود إلى تطورات مهمة، وأبرزها:
أولًا: إنتاج سلطة تنفيذية موازية خارج طرابلس: يثير الطرح البرلماني القاضي بتسمية رئيس حكومة جديدة تساؤلات حول فرصة استنساخ الانقسام التنفيذي الذي عايشته ليبيا خلال السنوات الماضية، وحتى مع طرح تدشين تلك الحكومة بالمنطقة الوسطى وتحديدًا مدينة “سرت”، إلا أن هذا الخطر مازال قائمًا وبقوة؛ حيث تعكس تصريحات وأنشطة “الدبيبة” مؤخرًا عدم وجود نية لديه للتخلي عن رئاسة الحكومة.
هذا بجانب أن التوافق المتحقق بين مجلسي “النواب” و”الدولة” لم يتضمن تغيير أو استبدال الحكومة، وهو ما قد يقود إلى إسقاط تلك التوافقات أو يمنح القوى المسلحة غربًا فرصة تدشين مشهد استقطابي جديد، قد يدوم لسنوات كما حدث إبان عهد “الوفاق” و”المؤقتة”.
ثانيًا: هشاشة التوافق مع مجلس الدولة: يدرك مجلس النواب أن تضمين مجلس الدولة كطرف أساسي بالترتيبات المُقبلة هو فرصة وتهديد بذات التوقيت؛ إذ سيمثل ذلك اعترافًا بشرعيته ودوره في الانتقال الليبي، وهو ما قد يتحول إلى عقبة مُعطلة لتحركات النواب.
لذلك، يحاول البرلمان تحقيق توافق نسبي مع مجلس الدولة، دون إشراكه تمامًا في كافة الملفات المطروحة، حيث التوافق معه حول القاعدة الدستورية والتشريعات الانتخابية والمناصب السيادية مع استثناء عملية تغيير الحكومة من هكذا توافقات. وفي ظل خلفية الصدام بين المجلسين، وطبيعة القوى والمكونات والأطراف المساندة لهما، يُرجح أن تبقى تلك التوافقات ضعيفة وقابلة للتعثر والسقوط أمام أية إشكاليات أو تباينات قد تتصاعد في الفترة المُقبلة.
ثالثًا: إطالة زمن المرحلة السابقة للانتخابات: يُقدر أن تصبح الفترة السابقة للانتخابات أطول من الإطار الزمني الذي طرحته المستشارة الأممية “ستيفاني وليامز” يونيو المُقبل؛ إذ ذهبت لجنة “خارطة الطريق البرلمانية” في تقديراتها إلى أن إعداد القاعدة الدستورية والتشريعات الانتخابية واستكمال تنقيح سجلات الناخبين ستُنجز خلال عام من تاريخ الشروع فيها، أي أن الانتخابات لن تجرى قبل فبراير أو مارس 2023، وهي فترة ستكون حُبلى بالأحداث والتي يُحتمل أن تظهر خلالها تعقيدات وإشكاليات تقود إلى مزيد من التأجيل أو تلاشي فرص عقدها.
ومُجمل القول، فإن خطى مجلس النوب ستضفي خلال الأيام المُقبلة أبعادًا جديدة بالغة التأثير على هيكل الأزمة الليبية، وستكون في مُجملها راميةً إلى تعزيز موقع المجلس في صياغة ترتيبات المشهد القادم، وسيقترن ذلك بمساعي خفض التباينات مع الكيانات والأطراف التي سيتطلب السير في خارطة الطريق البرلمانية دعمها أو عدم تعارضها معها. إلا أن اختيار رئيس حكومة جديدة، والمقرر له جلسة المجلس يوم الثلاثاء (8 فبراير2022)، سيكون خطًا فاصلًا في سياق الترتيب للاستحقاقات وإعادة صياغة مسارات التسوية السلمية للأزمة بشكل عام، وفي علاقة النواب مع البعثة الأممية وأنشطتها بشكل خاص.