
متطرفون ولا أشد
متطرفون باسم الإبداع والحرية ومقتضيات الفن يرفعون في وجوهنا سلاح الريموت كونترول، ومتطرفون باسم الدفاع عن القيم والأخلاق ملتحفين بالدين يرفعون في وجوهنا سلاح السيف والتكفير. سلاح الريموت جاهز دائمًا للإجهاز على كل من ينتقد عملًا فنيًا أو يدعي البعض أنه ينتمي إلى الفن، وسلاح السيف والتكفير جاهز دائمًا للإجهاز على كل من يعمل في مجال الفن لينال من الصالح والطالح.
والحقيقة أنه لا هؤلاء ولا هؤلاء يبتغون حوارًا صحيًا يأخذ بيد المجتمع إلى الأمام. إنهما بمثابة فسطاطين يحارب كل منهما انتصارًا لوجهة نظره أو أيديولوجيته وليذهب المجتمع إلى الجحيم. الخلاف الدائر حاليًا بشأن فيلم “أصحاب ولا أعز” هو أحدث تجليات أو جولات تلك الحرب العبثية، وبكل تأكيد فإنها لن تكون آخرها.
ذلك أن الفسطاطين حريصان بكل ما أوتيا من قوة على استمرار تلك الحرب ورفدها بكل ما من شأنه أن يبقيها مشتعلة. إنها حرب صفرية يتصور أطرافها أن لا نهاية لها إلا بتصفية أي منهما للآخر. أصبحت الحرب كما الموضة يتجدد الحديث بشأنها بين حين وآخر. كل الجولات السابقة بين الفسطاطين اشتعلت ثم انطفأت جذوتها دون أية نتائج أو فوائد للمجتمع، ودون أن يتعلم أحد جديدًا يذكر يعنيه على حسم الخلاف.
أصل الخلاف قائم ومتجذر. فسطاط الريموت كونترول يرفع لواء التخوف على الفن المصري متمنيًا تحريره من كل القيود، حتى ولو كانت تتعلق بأعراف وتقاليد المجتمع. فسطاط التكفير يرفع لواء الدفاع عن الدين وكأن ذلك الدين من الضعف بما يجعله فريسة سهلة لفيلم أو رواية أو أي عمل فني به بعض الشطط أو حتى كثيره.
إنه الصراع على مقعد التحكم في حركات وسكنات المجتمع. هل يكون للحريات المطلقة أم للدين؟ لقد جعل الفسطاطان المشهد وكأن ثمة تصادمًا بين الدين والحريات العامة، أو كأن المجتمع المصري وليد اليوم لم يعرف قط تزاوجًا مثاليًا بين الحريات والدين. المصريون لم يعرفوا ذلك التصادم ولا يرحبون به. ثاروا على من حاول تعكير صفو ذلك التزاوج في عام هو الأسوأ في تاريخ مصر كادت مصر خلاله أن تطلق تاريخها وحضارتها.
في دولة مدنية حديثة نسعى جميعًا إلى تدعيم أركانها يجب أن يكون الفيصل فيها للقانون والدستور. الدستور والقانون يحميان الحريات العامة ويضعان ضوابطها، والاثنان يرتكنان إلى الدين. مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع. ورغم ذلك، فنادرًا ما تجد أيًا من منتسبي الفسطاطين ينطلق في دفاعه أو هجومه على عمل فني من القانون. القانون لا يعرف الريموت كونترول ولا التكفير.
فيلم “أصحاب ولا أعز” وما سبقه وما سيليه يجب أن يناقش في حدود القانون بكل ما يكفله من حماية للدين ولعادات وتقاليد وقيم المجتمع. الفيلم يحاول أن يشير إلى مرض أو آخر من أمراض مجتمع لم يدع أحد ولا يجوز لأحد أن يدعي أنه مجتمع مثالي. المشكلة ليست هنا. المشكلة في الهدف من تلك الإشارة. أفلام كثيرة جدا عن المخدرات والانحلال الأخلاقي والجرائم المختلفة لم ينلها الهجوم لأنها أدانت تلك الجرائم ودعت للعدول عنها. الأفلام التي وقفت عند حد عرض الجريمة وبدت كأنها ترويج لها نالها الكثير من الهجوم. أفلام البلطجة مثالا كافيا لذلك.
“أصحاب ولا أعز” بدا كأفلام البلطجة لا يدين الانحرافات التي عرضها تحت ضغط، بل وغواية محاولته تمرير فكرة قبول الآخر والاختلاف أيا كانت طبيعتهما. والمدهش أن الانحرافات التي عرضها الفيلم والتي تشعرك الحرب الدائرة بشأنها كأن تلك الانحرافات تعرض للمرة الأولى في أعمال فنية، تلك الانحرافات قد سبق عرضها ومناقشتها في أعمال فنية كثيرة دون أن ينال أي منها ذلك الهجوم.
وتكفي هنا الإشارة إلى أن مسألة الشذوذ الجنسي قد تم التعرض لها مثلا في فيلم “عمارة يعقوبيان”، أما مسألة الخيانة الزوجية فالأعمال التي تناولتها أكبر من أن تتم الإشارة إليها هنا، ومع ذلك لم يحظ أيا منها بمثل تلك الحرب الدائرة الآن. السؤال هنا هل من حق القائمين على الفيلم أن يقولوا ما يحلو لهم بالطريقة التي يرونها؟ الإجابة نعم. ولكن من حق المعترضين أيضًا أن يهاجموا الفيلم ويعترضوا عليه.
ولكن ليس من حق أي منهما أن يرفع سلاحه في وجه المجتمع. من حق كل منهما بل ومن واجبهما أن يدافعا عن موقفهما في إطار القانون وفقط. وغني عن البيان هنا خطورة تذرع كل منهما بأن القانون القائم قاصر على حفظ حق كل منهما، فذلك هدم واضح مع سبق الإصرار والترصد لاعتبارات الدولة المدنية، وجر المجتمع إلى أنفاق مظلمة وخلافات أو حروب لا طائل من ورائها.
باختصار شديد فإنه إذا كان فيلم “أصحاب ولا أعز” سيئًا حتى بالمعايير الفنية، فإن الحرب الدائرة بشأنه بما تشيعه وتكشفه من تطرف المدافعين والمهاجمين فيما يمكن تسميته فيلم “متطرفون ولا أشد” تظل أسوأ بل وأخطر على المجتمع. إنها ترسم طريقًا خطرة لكيفية إدارة الخلاف بعيدًا عن مقتضيات القانون.
ويبقى السؤال الأهم هل المشاركة في فيلم “أصحاب ولا أعز” أنفع للمجتمع وللسينما المصرية، أم المشاركة في فيلم “متطرفون ولا أشد” يحذر من ظاهرة التطرف والتشدد بشأن كل الظواهر وليس فقط الشذوذ الجنسي أو حتى التطرف والتشدد باسم الدين. إنها مسألة اختيار.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
رئيس وحدة دراسات الرأي العام