
الســـــودان.. إلى أين؟
انسداد الأفق السياسي في السودان عقب رفض المبادرات الدولية والوساطة الإقليمية، ورفض المكون المدني الداخلي وسط ضغوط أمريكية، لم ينذر سوى بالمزيد من التعقيد، حتى مع تكوين حكومة مجلس السيادة والترحيب بالمبادرة الأممية بالحوار بين الأطراف الفاعلة في السودان. ولكن لا تزال الاحتجاجات والضغوط الأمريكية وتهديد كل ما يقف أمام التحول المدني في البلاد، وأخيرًا تدخل منظمة الإيجاد في محاولات لحلحلة الانسداد، فهل ستسهم تلك المحاولات في حلحلة الأزمة، أم تؤدي إلى الانجرار لمزيد من النزاع، خاصة مع اضطراب وضع دارفور والشمال السوداني؟
المشهد السوداني وموقف الأطراف الفاعلة
بالرغم من إعلان رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عن تشكيل حكومة مكونة من 15 حقيبة وزارية لتسيير الأعمال في يناير الماضي؛ إلا أن الوضع ما زال ينذر بتوتر الأوضاع، من خلال الدفع نحو مزيد من الاحتجاجات بدعوات من تجمع المهنيين السودانيين وقوى سياسية مدنية أخرى والتي أسفرت عن مقتل العديد والتي تتم بشكل دوري منذ إعلان البرهان عن عملية إصلاح مسار العملية الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي.
مما أدى إلى مزيد من الضغوط الدولية، مع إعلان البرهان ضرورة إجراء تحقيقات في قتل المتظاهرين دون احتواء المكون المدني المنشق، فيما تقدم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بالاستقالة من منصبه مع مطلع يناير الماضي عقب الرفض الشعبي للاتفاق السياسي الذي وقعه مع البرهان في 21 نوفمبر 2021، مما أحدث نوعًا من الفراغ الدستوري.
وفي الوقت ذاته، أعلن نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق محمد حمدان دقلو أن المؤسسة العسكرية لا ترغب في الوصول إلى صناديق الاقتراع. ويعقد دقلو لقاءات مع عد قبائل وعشائر لفتح حوار يؤدي إلى استكمال العملية الديمقراطية. وبالرغم من الرفض الأممي للتعامل العسكري مع المظاهرات في السودان، صدر بيان عن اللجنة الأمنية بولاية الخرطوم بأنها تسمح بالتظاهر في الميادين العامة، لكن بعد التنسيق مع الجهات الأمنية.
وتقدمت عدة جهات بمبادرات للخروج من الأزمة الحالية، ومن أبرزها ما أعلنه تجمع المهنيين السودانيين، وقوى الحرية والتغيير وحزب الأمة القومي، وعدد من لجان المقاومة وأساتذة الجامعات السودانية والتي استبعدت العودة للوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، ولكنها ركزت على إبعاد المكون العسكري من الحياة السياسية، وتكوين جيش موحد، من خلال وضع خارطة طريق ودمج الحركات المسلحة وقوات الدعم السريع، يليها فترة انتقالية مدتها 3 أو 4 سنوات، حتى الوصول لعملية انتخابية، مع توحيد قوى الثورة وتشكيل حكومة انتقالية.
واقترحت مبادرات أخرى تكوين مجلس مدني شرفي، ومجلس أعلى للقوات المسلحة. فيما تستبعد أخرى الشراكة مع المكون العسكري؛ مما يضعنا أمام عودة السيناريو الإثيوبي في الخلاف بين الجهة الحاكمة والقوات الداخلية والتي أفضت إلى التدخل العسكري لفض المقاومة والانجرار لحرب أهلية.
وتزامن ذلك مع مبادرة الأمم المتحدة “للحوار الوطني”، لكن تجمع المهنيين السودانيين رفض التحاور مع المكون العسكري وطالب بعودة الحكم لسلطة الشعب، وطلبت قوى الحرية والتغيير من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرتس، “توسيع قاعدة مبادرة الحوار” التي أطلقها مؤخرًا، عبر إنشاء آلية تشمل فاعلين دوليين من دول الترويكا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، ورفض التحاور مع المكون العسكري لكنهم سينفتحون بالتحاور مع القوى السياسية الأخرى، بشرط أن يؤدي الحوار إلى إنهاء حالة ما أسموه بالانقلاب الحالية، ويقود إلى عملية انتقالية شاملة تفضي في نهاية الأمر إلى إقامة انتخابات حرة ونزيهة”.
ورحبت حركة العدل والمساواة بالمبادرة ترحيبًا مشروطًا بأن يكون الحوار “سوداني سوداني”؛ فيما رحب حاكم دارفور ماني أركو، وزعيم حركة تحرير السودان، بالمبادرة ودعا الاتحاد الإفريقي إلى الانضمام لها، وكذا المؤسسة العسكرية بالمشاورات السياسية التي تبنتها الأمم المتحدة، مع التأكيد على رفض التدخل الدولي في الشؤون الداخلية للبلاد، وأن يكون دور “رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) مسهلًا وليس وسيطًا بين الأطراف”. وكذا، أعلن تجمع المهنيين السودانيين رفضه لقاء مبعوث الأمم المتحدة الخاص فولكر برتيس، متهمًا بعثة المنظمة الدولية (يونيتامس) في البلاد بالانحياز للقادة العسكريين.
ويأتي تباين مواقف الأطراف الفاعلة من مبادرة الأمم المتحدة في ظل التخوف من الانسحاب من الاحتجاجات التي تمثل مصدر الضغط على الأرض من قبل بعض القوى لتحقيق الأهداف، فيما وصف البعض المبادرة بأنها تدخل يصب في مصلحة الدول الكبرى من خلال إقصاء بعض القوى من الحوار، والتي يجب أن تقتصر على تقديم المقترح وتجميع الفرقاء والدعم الفني للوصول إلى إجراء انتخابات حرة وشفافة.
دلالات الموقف الدولي والإقليمي بين تقديم المبادرات وملف حقوق الإنسان:
- الأمم المتحدة،
جاء الموقف الأممي من خلال طرح المبادرة، ودعوة مجلس الأمن في الجلسة المنعقدة بشأن السودان في يناير الماضي “جميع الأطراف إلى التحلي بأقصى درجات ضبط النفس”، مع الإعراب عن القلق بشأن الاضطرابات في السودان وفي دارفور، وضرورة احترام التظاهر السلمي وحرية التعبير، وتقديم الدعم والتعاون مع مكتب المدعي العام للجنائية الدولية، وهو ما جاء في البيان المشترك الذي تلاه سفير المكسيك لدى الأمم المتحدة خوان رامون دي لا فوينتي باسم بلاده وكل من ألبانيا والبرازيل وفرنسا والغابون وغانا وإيرلندا والنروج وبريطانيا، مؤيدًا مبادرة مبعوث الأمم المتحدة إلى الخرطوم التي أكدت التزامها بدعم وجود حكومة سودانية مدنية، وكانت قد حذرت “يونيتامس” من حالة “الجمود السياسي” التي قد تؤدي إلى انزلاق البلاد نحو مزيد من عدم الاستقرار.
هذا وقد أرجأ المجلس الدولى لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مع بداية الشهر الحالي، مناقشة الملف الشامل لاستعراض تقرير السودان الثالث لموعد غير محدد، وذلك عقب ساعات من إعلان الحكومة السودانية أنها غير معنية بعقد هذه الجلسة، وأنها لن تتعاون مع آي مخرجات لها، مع استمرار اعتماد مندوب السودان الدائم السابق لدى مكتب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بجنيف السفير علي بن أبي طالب عبد الرحمن عقب إعفائه من منصبه كممثل للسودان، ثم عاد واعتمد وفد السودان الرسمي، برئاسة وزيرة العدل المكلفة هويدا الكريم.
وهو ما عدّته الحكومة السودانية انتهاكًا صريحًا لسيادة السودان، وطلب أبو طالب في خطاب رسمي إلى رئيس مجلس حقوق الإنسان، تأجيل استعراض التقرير الدوري الشامل عبر تعميم للدول الأعضاء في المجلس والمفوضية بصفته الممثل الشرعي للسودان، عقب وصفه “الوضع الحالي في السودان بأنه انقلابي يحكم بالأمر الواقع”.
وكانت قد عينت الأمم المتحدة الدبلوماسي السنغالي “أداما دينج”، خبيرًا مستقلًا لحقوق الإنسان في السودان عقب أحداث 25 أكتوبر لمراقبة سجل حقوق الإنسان، وحددت مهمته في قيادة حوار بين أطراف الأزمة لتحسين الوضع الإنساني في البلاد لحين تشكيل حكومة مدنية.
- دول الغرب والولايات المتحدة:
وعلى نفس الغرار الأممي جاء الموقف الغربي، فمازال تأكيد كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا وسويسرا بمواصلة الاعتراف بالحكومة المدنية في البلاد ودعم فكرة العودة للوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية. فلم يتغير الموقف الأمريكي من رفض سيطرة المكون العسكري وتسمية ما حدث في 25 أكتوبر بأنه انقلاب، ودعم التحرك الشعبي في السودان، ورفض سيطرة الجيش على شركات اقتصادية، والمطالبة بتكوين جيش وطني موحد تحت قيادة مدنية، وهو ما ظهر في مناقشة الكونجرس الأمريكي في جلسته يوم الثلاثاء 1 فبراير، حول فرض عقوبات جديدة على المكون العسكري من أجل الدفع للمدنية وسط ادعاءات مراقبة حقوق الإنسان ورفض استخدام الأمن العنف ضد المدنيين منذ حراك 25 أكتوبر بقيادة رئيس مجلس السيادة العسكري عبد الفتاح البرهان.
وهو ما ظهر في تصريحات “مولي في” مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشئون الإفريقية ، أن واشنطن مستعدة لاتخاذ إجراءات إضافية تقليدية وغير تقليدية ضد الجيش إذا استمر العنف، وذلك من خلال دراسة تقليص المساعدات العسكرية بشكل أكبر، وعزل الشركات التي يسيطر عليها الجيش، وفرض عقوبات على المتعاونين مع أجهزة الأمن السودانية والشركات الاقتصادية.
ويأتي هذا في إطار مشروع القانون الذي أعده الكونجرس والمقدم من السيناتور الديمقراطي كريس كونز؛ رئيس اللجنة الفرعية لتخصيص اعتمادات العمليات الخارجية والخارجية وعضو لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس في فبراير 2021، ينص على فرض عقوبات تطال الشخصيات والجهات التي تعيق التحول المدني في السودان وتقوض السلام وحقوق الإنسان في السودان، وذلك بناء على تفويض الدفاع الوطني الأميركي للعام المالي 2022 والذي أجيز قبل أكثر من شهر.
- الوضع الإقليمي، والمنظمات الإفريقية:
الموقف الإفريقي، بالرغم من تجميد مشاركة السودان في أنشطة الاتحاد الإفريقي، إلا أن القضية السودانية ستظل حاضرة على الأجندة الإفريقية من خلال قيام منظمة “الإيجاد” الهيئة الحكومية للتنمية في إفريقيا والمعنية بالسلام في القرن الإفريقي والتي يرأسها السودان في دورتها الحالية، بالعمل على إجراء مباحثات من أجل الدفع قدمًا نحو وضع حل عاجل للأزمة السودانية كما جاء على لسان السكرتير التنفيذي للمنظمة ورقني قبيهو، من الخرطوم بمواصلة اللقاءات مع الفرقاء السودانيين لاستكمال عملية الانتقال الديمقراطي من خلال التنسيق مع الاتحاد الإفريقي.
وقدم البرهان تقريرًا حول تطورات الأوضاع السياسية والجهود المبذولة لتجاوز الأزمة السياسية، في اللقاءات المنفصلة للمنظمة مع كلٍ من البرهان، والفريق محمد حمدان دقلو، النائب الأول لرئيس مجلس السيادة. ومن المقرر أن تعلن نتائج اللقاءات على هامش قمة الاتحاد الإفريقي المقبلة فبراير الحالي من خلال تقرير عرض الحقائق دون تقديم مبادرة جديدة.
دلالات الوضع في السودان
قد يضعنا السرد السابق إلى سيناريو الانجرار لحرب أهلية، فقد ينذر تفتت قيادات القوى المدنية داخل السودان إلى تزايد النزاع، مع تباين وجهات النظر، مما يزيد من إثارة الشغب مع استمرار الاحتجاجات غير السلمية والموقف الأمني المعقد، والتي أعلنت على إثرها تنسيقيات لجان المقاومة بالخرطوم بجدول مسيرات خلال الشهر، وبالتالي تهديد استقرار البلاد، وخاصة فيما يتعلق برفض المبادرات الداخلية التي تحاول إقصاء أي من الفصيلين المدني أو العسكري، وعدم وجود آلية للحوار لمبادرة الأمم المتحدة، مما يتطلب موقفًا من مجلس السلم والأمن.
هذا إلى جانب الوضع في دارفور، والذي أفضى إلى وصول رئيس مجلس السيادة الانتقالى بالسودان الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو، إلى مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور فى غرب السودان مع وفد رفيع المستوى لعقد اجتماع المجلس الأعلى المشترك للترتيبات الأمنية وبحث تطبيق اتفاق جوبا للسلام وسير تشكيل القوة المشتركة ذات المهام الخاصة بتحقيق الأمن والسلام في الإقليم وتنفيذ الترتيبات الأمنية.
ذلك عقب إطلاق مبادرة “صفر كراهية” القائمة على تعزيز الحوار، بهدف دعم السلام والاستقرار في إقليم دارفور الذي ظل يعاني منذ عام 2003 كنتيجة واقعية لما تم تسميته “غياب العدالة والإفلات من العقاب”. وكذا، تستمر الاحتجاجات في الولاية الشمالية، ومع بداية الشهر الحالي اصطفت شاحنات عند “جسر الحامداب” حيث يستمر أهالي ومزارعو الولاية الشمالية في السودان في إغلاق الطريق الرابط بين السودان ومصر، مما أوقف حركات التجارة، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الكهرباء في البلاد والتي أوقفت ري الأراضي الزراعية.
أما المشهد الثاني، فقد يبشر بحلحلة الأزمة الحالية في حال نجاح منظمة “الإيجاد” بفتح باب حوار مع الأطراف الفاعلة في السودان، وعرض الأمر على الاتحاد الإفريقي، والتأكيد على الحل السوداني السوداني من خلال العمل فقط على “تجميع الفرقاء السودانيين” وتقديم الدعم الفني واللوجيستي لهم دون شيطنة أحد الأطراف وخلق حاضنة لجميع الأطراف.
وهو الأمر الذي قد يعترضه الموقف الغربي الرافض لوجود المكون العسكري مع استمرار سيطرته على حكم البلاد، وفرض عزلة دولية عليهم، ورفض سيطرتهم على الشركات الاقتصادية التابعة للجيش، والمطالبة بتكوين جيش وطني موحد بالاتفاق مع الحركات المسلحة التي لم تحصل بعد على مطالبها، وتنفيذ اتفاق جوبا للسلام 2020 في ظل محاولات المكون العسكري من خلق حالة من التوافق مع بعض هذه التحركات.
مما يتطلب تبني الاتحاد الإفريقي مبادرة الأمم المتحدة ووضع جدول زمني لها، وشروط إجرائية تفضي لوضع البلاد على سلم الانتقال للعملية الديمقراطية من خلال التوافق الداخلي تحت شعار “الحل السوداني السوداني”، والوضع على المسار الاقتصادي الصحيح، وسط رغبة دولية في محاولة احتواء أزمات القرن الإفريقي.
باحثة بالمرصد المصري



