الأزمة الأوكرانيةأوروباروسيا

تصدع التحالفات… كييف أول المتراجعين أمام الحشود الروسية

تغيرات لافتة شابت مواقف بعض الأطراف المحسوبة على المحور الغربي، فيما يتعلق بأزمة تصاعد الحشود العسكرية الروسية على التخوم الشمالية والجنوبية والشرقية لأوكرانيا. المثير للدهشة في هذا الصدد كان التغير الذي ظهر واضحًا في مواقف أحد الأطراف الأصيلة في هذه الأزمة، وهو الرئيس الأوكراني “فلاديمير زيلينسكي”، الذي بدا موقفه الحالي من الحشود الروسية متعارضًا مع المواقف السابقة التي أعلنها خلال الأسابيع الأخيرة، وهو ما إن وضعناه جنبًا إلى جنب مع مواقف بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وكرواتيا والمجر، قد نصل إلى قناعة بأن “محور” الولايات المتحدة \في هذه الأزمة، بات يعاني من تصدعات متزايدة.

“زيلينسكي” الذي كان أول من نبه إلى وجود احتمالات جدية لقيام روسيا باجتياح أراضي بلاده باتت مواقفه وعدد من أركان حكمه تدفع في اتجاه عدم ترجيح حدوث هذا الاجتياح. بداية هذا التغير ظهرت من خلال تصريحات وزير الدفاع الأوكراني “إليكسي ريزنيكوف” الثلاثاء الماضي، خلال إحدى جلسات البرلمان، حيث قطع “ريزنيكوف” بأن تقديرات الحكومة الأوكرانية باتت تشير إلى عدم وجود احتمالات جدية لتدخل عسكري روسي، في ظل انسحاب القوات التي يتم حشدها بعد أن تقوم بالتدريبات المنوط بها تنفيذها، مفيدًا أن القوات التي حشدتها موسكو حاليًا لا ترقى إلى أن تشكل “قوة هجومية ضاربة” تسمح بشن هجوم واسع النطاق على بلاده.

بهذا التصريح غيّر “ريزنكوف” بشكل حاد من قناعاته التي عبر عنها خلال الأسابيع الأخيرة، وهذا هو نفس المنحى الذي اتخذه الرئيس الأوكراني، إذ اتسمت تصريحاته عقب المحادثة الهاتفية “المتوترة” مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الخميس الماضي بنبرة أقل تصعيدًا مما كان الحال عليه خلال الفترة السابقة.

واتهم “زيلينسكي” وسائل الإعلام الغربية بتقويض ثقة الأوكرانيين في حكومته، وإذكاء الذعر الاقتصادي، وهذا كله ترافق مع تقارير صحفية تفيد بأن “زيلينسكي” تجادل مع “بايدن” حول مدى خطورة التهديد الذي تمثله الحشود الروسية حاليًا؛ إذ بات الأول يرى أن هذه الحشود لا تمثل تهديدًا آنيًا، في حين يصر الثاني على خطورة هذه الحشود. 

هذه التغيرات الدراماتيكية في مواقف الرئيس الأوكراني ووزير دفاعه، ربما تكون وراءها دوافع موضوعية نتجت عن “محدودية” الدعم المقدم من الولايات المتحدة وحلف الناتو لكييف. التغيرات التي طرأت على المواقف الأوكرانية شملت أيضًا بعض الدول الأوروبية، مثل كرواتيا التي صرح رئيسها “زوران ميلانوفيتش” بأن بلاده ستقوم بسحب قواتها من وحدات حلف الناتو في حالة اندلاع حرب مع روسيا.

كييف والخشية من تكرار سيناريو “القرم” مجددًا

الملمح الأساسي من ملامح الخطة المضادة للحشود الروسية التي بدأ وزير الدفاع الأوكراني في تطبيقها عقب بدء موسكو في حشد قواتها قرب الحدود في مارس الماضي كان يرتكز على توفير القوة البشرية؛ ظنًا منه أن النقائص التي تعاني منها القوات المسلحة الأوكرانية على المستوى التسليحي -خاصة جوًا وبحرًا- سيتم سدها آنيًا في حالة اندلاع المعارك، سواء عبر تمركز مباشر لوحدات عسكرية غربية على الأراضي الأوكرانية، أو عبر دعم تسليحي غربي متنوع لكافة أفرع الجيش الأوكراني.

بدأت هذه الخطة بإقرار البرلمان الأوكراني قانونًا موسعًا يتضمن بنودًا خاصة بتشكيل وحدات شبه عسكرية من المدنيين، في إطار ما يمكن وصفه بأنه “مقاومة شعبية” تخطط كييف لإطلاقها ضد القوات الروسية حال دخولها للأراضي الأوكرانية. هذه الخطة كانت -بطبيعة الحال- منسقة بشكل كامل مع العواصم الغربية المختلفة، وتولى تنفيذها القائد العسكري المعروف في أوكرانيا “يوري جالوشكين” الذي قاد المعارك ضد القوات الانفصالية المدعومة روسيًا في إقليم دونباس عام 2014. وقد بدأ “جالوشكين” خلال العام الماضي عمليات تجنيد تستهدف حشد نحو 130 ألف متطوع، بهدف تشكيل ما بين 20 إلى 25 كتيبة يتم نشرها في معظم المدن الرئيسة بالبلاد، لمعاونة وحدات الجيش الأوكراني ميدانيًا.

هذه الخطة تعتمد بشكل أساسي على فكرة طرحها وزير الدفاع الأوكراني مفادها أن أفضل طريقة “ممكنة” لتنفيذ دفاع فعّال ضد أي هجوم روسي هو بإطلاق عمليات حرب العصابات ضد وحدات المشاة وكتائب الدبابات الروسية، عبر مئات المتطوعين المدنيين الذين تقودهم وحدات القوات الخاصة الأوكرانية؛ بهدف خلق بيئة ميدانية تعاني فيها القوات الروسية من خسائر بشرية مستمرة.

لكن تنطوي هذه الخطة على عدة معضلات أساسية، منها: مسألة “مدى انضباطية العناصر المدنية”، بالنظر إلى تجارب مماثلة تمت في دول أخرى مثل ليبيا، وكذا طبيعة آليات التنسيق والسيطرة بين هذه الوحدات وبين القوات النظامية، والأهم، حقيقة أن هذه الخطة تحتاج إلى كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة، وهو ما يجعل الحاجة ماسة للدعم الغربي من أجل سد هذه الفجوة.

خيبة الأمل الأوكرانية فيما يتعلق بالجانب التسليحي كانت سببًا رئيسًا في التراجع الأوكراني الواضح عن التصعيد مع موسكو، فقد اكتفت واشنطن بإقرار مساعدات عسكرية عاجلة بقيمة 200 مليون دولار، وبدأت إرسال هذه المساعدات بالفعل إلى أوكرانيا، وتركزت بشكل رئيس على الصواريخ المضادة للدبابات، مثل صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، بجانب ذخائر متنوعة. 

ومنحت واشنطن الإذن لبعض الدول الحليفة كي تزود أوكرانيا بمساعدات عسكرية طارئة، فستقوم إستونيا بتزويد أوكرانيا بالمزيد من صواريخ “جافلين”، في حين تقوم كل من ليتوانيا ولاتفيا بتزويدها بصواريخ “ستينجر” المضادة للطائرات. بريطانيا كذلك دخلت ضمن قائمة الدول التي ستزود أوكرانيا بصواريخ مضادة للدبابات، بواقع 2000 صاروخ سويدي الصنع من نوع “NLAW”، وقد بدأت كييف بالفعل التدرب على هذه النوعية من الصواريخ.

بريطانيا من جانبها، كانت لها خطوة لافتة حيال تسليح أوكرانيا، إذ منحت كييف قرضًا بقيمة 2.3 مليار دولار لشراء كاسحتي ألغام كانتا عاملتين في البحرية البريطانية سابقًا من الفئة “ساند داون”، ويمول هذا القرض الذي تبلغ مدته عشر سنوات عمليات تصميم وتصنيع ثمانية قطع بحرية جديدة يتم تصنيعها جميعًا في أوكرانيا عدا قطعتين سيتم بناؤهما في بريطانيا. 

وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة، إلا أنها لا تمثل قيمة تكتيكية كبيرة في الأزمة الحالية مع روسيا، بالنظر إلى محدودية هامش المناورة الذي تتسم به البحرية الأوكرانية في وضعها الحالي، علمًا بأن قدراتها التسليحية قد تقلصت بشكل كبير بعد عملية ضم شبه جزيرة القرم، وتفضيل عدة قطع بحرية أوكرانية كانت تتمركز في موانئ شبه الجزيرة إعلان ولائها للبحرية الروسية.

عدم توازي هذا الدعم مع طموحات وخطط كييف، مضافًا إليه تشكيك بعض الدول الأوروبية في جدوى تزويد كييف بمنظومات قتالية نوعية، مثل ألمانيا التي كان لكل من وزيرة دفاعها وقائد بحريتها تصريحات لافتة تتحدث عن عدم وجود فائدة تذكر من تسليم منظومات قتالية لأوكرانيا في هذه المرحلة، ناهيك عن رفض برلين توريد أي أسلحة تحمل مكونات ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، كانت جميعها عوامل يمكن أن نعدها أساس التراجع الأوكراني الحالي.

الولايات المتحدة ونظرة مغايرة للحشود الروسية

تصريحات وزير الدفاع الأوكراني تضمنت إشارة مهمة إلى عدم تطابق الرؤى بين بلاده والولايات المتحدة في هذه المرحلة بشأن الحشود الروسية؛ إذ قال: “على الرغم من تطابق البيانات الأوكرانية والدول الشريكة حول الحشود الروسية، إلا أنّ هناك اختلافًا حول طريق تفسيرها”.

الولايات المتحدة من جانبها مازالت تنظر إلى الحشود الروسية على أنها تمهيد لغزو واسع للأراضي الأوكرانية، وهذه النظرة تأكدت من خلال الردود الأمريكية على الطلبات الروسية بشأن الضمانات الأمنية التي قدمتها موسكو أواخر العام الماضي لواشنطن، فقد تجاهلت واشنطن في ردها هذا معالجة المخاوف الأمنية الرئيسة لموسكو، خاصة مسألة انضمام المزيد من دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو.

حتى قبل وصول الردود الأمريكية إلى موسكو، صعّدت واشنطن بشكل واضح من تصريحاتها وتحركاتها بشأن الحشود الروسية، إذ طالبت السفارة الأمريكية في كييف الأربعاء الماضي كافة المواطنين الأمريكيين الموجودين في أوكرانيا بمغادرة البلاد فورًا، وقد جاءت هذه الدعوة بعد يومين فقط من بدء واشنطن إجلاء عائلات دبلوماسييها في أوكرانيا، وكذا إعلان الخارجية الأمريكية أنها لا تنصح الأمريكيين بالسفر إلى كل من أوكرانيا وروسيا في الفترة الحالية. 

يضاف إلى ذلك تصريحات أدلى بها عدة مسؤولين أمريكيين لوكالة رويترز، أكدوا فيها على استمرار الحشود الروسية، وتضمنها كميات كبيرة من التجهيزات الطبية، بما في ذلك أكياس الدم والبلازما، وهو ما يشير إلى استكمال موسكو -حسب رأي هؤلاء المسؤولين- استعداداتها لبدء العمليات العسكرية في أوكرانيا.

التصريحات التصعيدية من جانب واشنطن، تصاعدت بشكل أكبر بتصريحات الرئيس الأمريكي “جو بايدن” عن نيته إرسال عدد محدود من الجنود الأمريكيين إلى أوروبا الشرقية، وهو هنا أكد على تصريحات سابقة أدلى بها المتحدث باسم البنتاجون “جون كيربي” أشار فيها إلى أن “بايدن” اتخذ قرارًا برفع درجة جاهزية نحو 8000 جندي أمريكي؛ لاحتمالية انتشارهم في بولندا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا في حالة قيام حلف الناتو بتنشيط قوة الرد السريع ضد روسيا.

الخطط الأمريكية في هذا الصدد وجدت بعض المعارضة من جانب عدة دول أوروبية، مثل المجر، التي صرح وزير دفاعها “تيبور بينكي” بأن لدى بلاده ما يكفي من وحدات قتالية، وأنه لا داعي لنشر وحدات عسكرية أجنبية إضافية على أراضيها. هذا التصريح جاء بعد تلقى بودابست طلبًا رسميًا من جانب واشنطن لنشر قوات تابعة للناتو على أراضيها، تضاف إلى نحو 4000 جندي أمريكي و1000 جندي من حلف الناتو موجودين في بولندا، و4000 جندي من حلف الناتو في مناطق متفرقة من دول بحر البلطيق.

وعلى الرغم من أن هذه التصريحات تحمل في طياتها تطمينات لكييف بأن حلف الناتو والولايات المتحدة يخططان لنشر عدد كبير من القوات دعمًا لها، إلا أن تصريحات رئيس الأركان المشتركة الأمريكية “مارك ميلي” حول عدم تخطيط الولايات المتحدة لنشر قوات أو أنظمة قتالية على الأراضي الأوكرانية، وكذا تصريحات الرئيس الأمريكي “جو بايدن” حول عدم وجود نية لدى بلاده لإدخال قوات أمريكية إلى أوكرانيا، تسببت في مزيد من الإحباط لدى كييف، وبالتالي يمكن قراءة تصريحات المسؤولين الأوكرانيين الأخيرة في هذا السياق.

أوروبا تتحرك بشكل حثيث ضمن زوايا الأزمة الأوكرانية

من جانبها، تعمل أوروبا، أو بالأحرى يعمل حلف الناتو، على تدعيم تموضعه الحالي في شرق أوروبا، إذ بدأت مجموعات قتالية تابعة للحلف تدريبات مشتركة مع جيش إستونيا، تحت اسم “وينتر كامب”، يشارك فيها ضباط وجنود من بريطانيا وفرنسا، بالتزامن مع وصول تعزيزات جوية أمريكية إلى قاعدة “أماري” في إستونيا، تتمثل في ست طائرات مقاتلة من نوع “إف-15″، تابعة لسرب المقاتلات الرابع المتمركز في قاعدة “سيمور جونسون” الأمريكية، وستتبعها مقاتلات دنماركية من نوع “إف-16” ستصل إلى قاعدة “سياولياي” الجوية في ليتوانيا.  هذه التعزيزات تضاف إلى الدوريات الجوية المستمرة التي ينفذها حلف الناتو في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وكذلك الطلعات الدائمة لطائرات الاستطلاع المأهولة والمسيرة لدول حلف الناتو في أجواء أوكرانيا.

بحريًا، بدأت القطع البحرية لحلف الناتو، بمعية حاملة الطائرات “يو إس إس هاري ترومان” ومجموعتها القتالية التي تتكون من فرقاطة وأربعة مدمرات صاروخية، في تنفيذ التدريب البحري “نبتون سترايك”، الذي سيستمر حتى الرابع من الشهر المقبل. هذا التدريب يتم وفي نفس الوقت تضع القوة البحرية للناتو أنظارها على التدريبات البحرية الواسعة النطاق التي بدأتها البحرية الروسية، منها تدريب لنحو عشرين قطعة بحرية تابعة لأسطول البحر الأسود، وتدريب آخر تجريه في البحر المتوسط وحدات تابعة لأسطولي بحر الشمال وبحر البلطيق الروسيين.

سياسيًا، تتجه الأنظار إلى باريس، التي أعلنت الاثنين الماضي أنها بصدد إعداد مبادرة لخفض التصعيد في الأزمة الأوكرانية، في حين يعتزم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون القيام بمبادرة مماثلة خلال زيارته التي يعتزم القيام بها إلى كييف، وكذا مباحثاته المرتقبة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن إلى أن يتم تحقيق اختراق سياسي واضح، ستبقى المجموعات القتالية الإحدى عشرة التي قامت موسكو بحشدها حول أوكرانيا أمرًا واقعًا، انتظارًا لما سيسفر عنه تقييم موسكو لرد واشنطن على طلباتها الخاصة بالضمانات الأمنية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى