
واشنطن ترفع يدها عن دعم مشروع “إيست ميد” لنقل الغاز بين إسرائيل وأوروبا.. الدوافع والمآلات
في تحرك مفاجئ، أعلنت واشنطن انسحابها من خطة التمويل لمشروع “إيست-ميد” الذي تم إطلاقه بناء على اتفاقية موقعة بين ” إسرائيل-قبرص-اليونان” في 2020؛ المشروع يتصور خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي المسال بطول “1900” كيلو متر، يبدأ من تل أبيب ويصل إلى اليونان وإيطاليا. وحسب الاتفاقية تبلغ سعة الخط نحو 10 مليار متر مكعب بتكلفة تصل إلى حوالي 7 مليار يورو، وهو ما وجدته واشنطن رقمًا مبالغًا فيه، وتكلفة عالية لا تتساوى قيمتها مع الفائدة المقدمة.
ومن هنا كان قرار واشنطن بالانسحاب من تمويل المشروع، على الرغم من أنه كان سيوفر بديلًا أوروبيًا عن ورقة ضغط الغاز الروسي. وبجانب ارتفاع التكلفة هناك عوائق بيئية وجيوسياسية متعلقة بطول الخط. وعلاوة على ذلك، فإن استكمال الأعمال في خط “إيست ميد” يستغرق سبع سنوات وهي مدة زمنية مبالغ فيها وفي المقابل ترى الولايات المتحدة أن هناك بدائل أخرى تتضمن لاعبًا أساسيًا في مجال الطاقة، فمصر تمتلك منشآت ضخمة لتسييل الغاز ما يؤهلها لأن تكون منفذ تصدير إلى أوروبا متفادية التعقيدات في منطقة شرق المتوسط.
وفي هذا الإطار، أعلن الرئيس التنفيذي لمؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية التزام مؤسسته بتقديم 430 مليون دولار لدعم أمن الطاقة في مصر. وتعليقا على الانسحاب الأمريكي حاول الأتراك انتهاز الموقف، وجاء إعلان الرئيس التركي في 18 من الشهر الجاري عن استعداد تركيا لمناقشة خط أنابيب بديل بعد الانسحاب الأمريكي في ظل تداول أنباء عن زيارة متوقعة للرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة قريبًا، وذلك في محاولة للتخلص من العزلة التركية في شرق المتوسط.
بين نورد ستريم2 والدوافع الأمريكية
وبالحديث عن التكلفة، فإنه وبمقارنة بسيطة مع خط “نورد ستريم2” الذي يمتد من روسيا ويصل إلى ألمانيا يتبين أن “نورد ستريم2” قادر على نقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال سنويًا إلى القارة الأوروبية، بتكلفة لا تتجاوز 10 مليار دولار على امتداد 1230 كيلومترًا تحت مياه بحر البلطيق، وتديره عملاق الغاز الروسي “غاز بروم” مع خمسة شركاء أوروبيين.
ولربما كان هذا هو السبب في أن الولايات المتحدة لم تطبق العقوبات على “نورد ستريم2” حتى الآن- حيث تذمر الاتحاد الأوروبي من مبالغة واشنطن في توظيف العقوبات للتدخل في شؤون الدول الأخرى وللعبث بمسائل تمس السيادة الأوروبية. وفي هذا الإطار يمكن أن يقوم الأوروبيون -وعلى وجه التحديد ألمانيا- برد فعل مماثل يتضمن فرض حظر على الغاز المستورد المشتق من التكسير.
وهو إجراء مسؤول عن معظم الغاز المستورد من الولايات المتحدة، ولكنه محظور في ألمانيا في الوقت الذي تواجه فيه برلين معضلة منذ محاولتها تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والطاقة النووية؛ وذلك لأن مصادر الطاقة المتجددة في ألمانيا لا تفي باحتياجاتها كبلد صناعي. وحسب ما تقدم فإن خسائر ألمانيا من عدم تشغيل “نورد ستريم2” يفوق بكثير خسائر روسيا التي ستجد منافذ لإمدادات الغاز لديها على أي حال.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب بيئية تتعلق بأن الاتجاه الموجود في البيت الأبيض في الوقت الحالي يتضمن التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. والجدير بالذكر أن بايدن ومنذ توليه للسلطة تعهد بإعادة تشكيل قطاع الطاقة في الولايات المتحدة، وتسريع الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، وفي هذا الصدد كان إلغاء خط الأنابيب المقترح بالرمال النفطية الكندية “كي ستون” أحد أولى تدابيره الكبيرة في مجال البيئة، وهو الأمر الذي يمكن القياس عليه في وقف الدعم لخط “إيست ميد”.
هذا علاوة على الأبعاد السياسية التي تجعل الخط مصدر توتر، خاصة مع استبعاد تركيا منه في منطقة مشحونة على خلفية حقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مشروع ” إيست ميد” كان سيسمح بنقل الغاز حتى قبل فض النزاع المتعلق بالحقوق الإقليمية في غاز شرق المتوسط، ولذلك تنظر تركيا إلى الانسحاب الأمريكي من تمويل خط الغاز المثير للجدل بوصفه انتصارًا لها وتقويضًا لمشروع رفضته منذ البداية.
وحسب وسائل إعلام يونانية، فقد وصفت واشنطن مشروع ” إيست ميد” في رسالة “غير رسمية” بأنه مصدر أساسي للتوتر وزعزعة السلم في منطقة شرق المتوسط، خصوصًا أن الخط كان من المقرر له أن يقطع 3 آلاف متر تحت مياه المتوسط مارًا بمناطق بحرية تقول اليونان إنها تقع في نطاق مياهها الإقليمية.
وفي إشارة إلى مزيد من الدوافع الأمريكية، يمكننا أن نضع إلى جانب نظرية” أمريكا أولا” زاوية أخرى تتعلق بأن الإدارة الديمقراطية الحالية لا تريد أن تسلك سلوك ترامب في أي ملف بدءًا من الشرق الأوسط مرورًا بالشمال الأفريقي ووصولًا للعلاقات مع روسيا – خصوصًا مع دعم واشنطن لخط الأنابيب “نورد ستريم 2” والذي ينقل الغاز من موسكو إلى برلين والذي يتضمن إشارات تدل على أن بايدن يريد فتح صفحة جديدة مع بوتين على أمل أن يستقر الأخير على نفس الصفحة إعلاءً لمبدأ المعاملة بالمثل.
وربما يفسد هذا التقارب الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية والذي قد ينتهي بفرض عقوبات على خط الغاز الممتد من روسيا إلى ألمانيا محدثًا انتكاسة في العلاقات – بل أن الأمر قد يتطور إلى استهداف الخط في حالة الاجتياح الروسي للحدود الأوكرانية. والأمر هنا يلقي بأوروبا مباشرة رهينة لغاز الشرق الأوسط، وهو ما يفسر التقارب الأمريكي-القطري الذي لاح في الآفاق مؤخرًا. وذلك في وقت تصل فيه شعبية الرئيس جو بايدن إلى 33% في أدنى مستو ى لها، ويعزى ذلك إلى الإخفاق في العديد من الملفات، منها: الانسحاب المخزي من أفغانستان، وعدم إحراز تقدم يذكر في المفاوضات النووية مع إيران بعد مرور عام كامل، وكذلك الحشد الروسي على الحدود الأوكرانية.
ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أن الولايات المتحدة تسخر طاقتها لدعم “موصلات الكهرباء” لما لها من إمكانية في تسهيل الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، ومن هنا تسعى واشنطن إلى الترويج لمشاريع الربط الكهربائي بين شرق البحر المتوسط وأوروبا، والتي يعد من أهمها مشروع الربط الكهربائي بين مصر واليونان. إضافة إلى مشروع الربط الكهربائي الأوروبي-الآسيوي والمقترح لربط شبكات الكهرباء الإسرائيلية بالقبرصية والأوروبية.
الاعتمادية الأوروبية
تعتمد أوروبا على الغاز الطبيعي لتزويدها بخُمسة احتياجاتها من الطاقة، مع التركيز على أن معظم إمداداتها من الغاز تأتي من خارج الاتحاد الأوروبي وبالتحديد من روسيا. وفي عام 2020 فقط فإن ثلث الغاز الذي استخدمته أوروبا دخل أراضيها من موسكو. وقد ذكرت “فايناشيال تايمز” في تقرير لها أن معظم صادرات روسيا من الغاز بعد تفكك الاتحاد السوفيتي تذهب إلى الاتحاد الأوروبي متخذة من البنية التحتية الموجودة في أوكرانيا طريقًا لها.
ولكن هذا لم يعد الحال الآن؛ لأنه نظرًا للخلافات بين روسيا وأوكرانيا بسبب رغبة الأخيرة في الانضمام إلى حلف الناتو تسعى روسيا إلى تنويع الوسائل التي تعتمد عليها في نقل الغاز. فعلى سبيل المثال فإنه منذ عام 2003 قامت موسكو باستخدام خط أنابيب “بلو ستريم” الذي يمر تحت البحر الأسود لتصدير غازها إلى الأوروبيين، وكانت الخطوة التالية في عام 2011 عندما نجحت روسيا في استخدام خط “نورد ستريم1” والذي يمر عبر بحر البلطيق بعيدًا عن أوكرانيا، ثم أعلنت عن خط نورد ستريم2 الذي يربط بينها وبين برلين.
وفي هذا الإطار، يمكننا أن نعزي السبب الرئيس في اعتماد أوروبا على الغاز الروسي إلى صعوبات لوجستية تعاني منها في استخراج الغاز من الحقول الموجودة في القارة الأوروبية. وواحد من أكبر حقول الغاز المكتشفة في هولندا في عام 1959 تم إغلاقه بالكامل لأن عملية استخراج الغاز منه تسببت في هزة أرضية هُدمت على إثرها آلاف المنازل في عام 2012.
على جانب آخر، فإن بريطانيا تعاني من تضاؤل احتياطاتها، أما النرويج التي تعد من الرواد في المجال تواجه عراقيل أخرى تتعلق بصعوبة استصدار التصريحات لما للأمر من آثار بيئية ضارة. من منظور آخر ربما يطرح البعض تساؤل حول الأسباب التي تجعل الأوروبيين يحجمون عن الغاز الأمريكي – حيث يرجع ذلك إلى انخفاض تكلفة الغاز الروسي بشكل نسبي كبير مقارنة بالغاز الأمريكي.
ولكن حرصت واشنطن على القيام ببعض المحاولات لتخليص الأوروبيين من ورقة ضغط الغاز الروسي فدشنت خط “نابوكو” – حيث ينطلق “نابوكو” من 3 دول في آسيا الوسطى، هي كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، ثم يتوجه غربًا نحو بحر قزوين إلى أذربيجان، ومن ثم إلى جورجيا، فتركيا، ويتابع مساره إلى بلغاريا ورومانيا والمجر والنمسا، حيث محطات التجميع والتوزيع باتجاه أوروبا.
ثم وفي عام 2009 حاولت الولايات المتحدة أن تدفع بقطر إلى الواجهة في مجال الغاز الطبيعي، فدعمت مقترح الدوحة في إنشاء خط أنابيب يمتد من قطر عبر السعودية وصولًا إلى لأردن وسوريا، ولكن المشروع لم ير النور بسبب الرفض السوري له قبل أشهر من اندلاع الثورة السورية.
منذ البدء.. إيست ميد
في الثالث من يناير من عام 2020 وقّعت إسرائيل مع قبرص واليونان اتفاقًا يخص إنشاء خط أنابيب عبر منطقة شرق المتوسط لإيصال الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وذلك باحتياطات كان من المتوقع أن تصل إلى 11 مليار متر مكعب بمعدل سنوي، وذلك بالاعتماد على احتياطات حوض شرق المتوسط قبالة فلسطين وقبرص باستخدام خطوط أنابيب الغاز اليونانية “بوزيدون” و”أي جي بي” حيث تمر بجزيرة كريت قبل أن تصل إلى الأراضي اليونانية.
وكان من الطبيعي أن يلاقي المشروع دعمًا من الجانب الأوروبي في الوقت الذي وجدت واشنطن في “إيست ميد” ضالتها لتخليص الأوروبيين من ورقة ضغط الغاز الروسي، وفي هذا الإطار وفرت واشنطن لمشروع “إيست ميد” الغطاء السياسي من خلال تشريعات سنها الكونجرس الأمريكي في نهاية 2019 قبل انتهاء ولاية دونالد ترامب.
وحسب صحيفة “ذا هيل” الأمريكية فإنه في ذلك الوقت أقر الكونجرس تشريعًا يعزز من مكانة واشنطن في سوق غاز شرق المتوسط على حساب إضعاف مكانة روسيا وتركيا. وإمعانًا في تحجيم الدورين؛ دور روسيا لأنها تمارس الضغوطات على الأوروبيين ودور تركيا لأنها تزعزع الاستقرار في شرق المتوسط وتهدد دول أعضاء في الناتو – أقر الكونجرس عقوبات على خطي “ترك ستريم” و “نورد ستريم2”.
ولكن هذا الدعم الأمريكي لم يستمر للنهاية، وفي لحظات حاسمة قررت واشنطن رفع يديها؛ فمن الناحية السياسية يظهر المشروع وكأنه نقطة استقطاب حادة بين تركيا والدول الموقعة عليه، خصوصًا أن تركيا كانت قد وقعت على اتفاق مع حكومة الوفاق الليبية يتيح لها أن تمنع وصول الأنابيب لجزيرة كريت، مفرغة المشروع من مضمونه.
ومن زاوية أخرى، فإن كلفة الخط إذا تمت إضافتها إلى كلفة استخراج الغاز ونقله ستصب في نهاية المطاف في ارتفاع أسعار الغاز بشكل لا يؤهلها للتنافس مع أسعار الغاز الروسي، كما أن هناك أصواتًا من داخل أوروبا أكدت عدم جدوى المشروع من الزاوية الاقتصادية.
ولإجمال الموقف داخل أوروبا، يمكننا الإشارة إلى أن الأوروبيين منزعجين من الاعتمادية على الغاز الروسي؛ لما له من انعكاسات على تكبيل القارة من الناحية السياسية. ولذلك فإن الأوروبيين لو وجدوا بديلًا عن الغاز الروسي بما يحقق المصلحة سيكونون أول المستغنين عن موسكو- خصوصًا مع وعي الأوروبيين بأن موسكو تستخدم الغاز كسلاح يحمي مصالحها، وذلك في ظل عجز أمريكي لا تخطئه العين عن توفير بدائل مؤثرة أو إحداث تغييرات في سوق الطاقة.
باحث أول بالمرصد المصري