مكافحة الإرهابالعراق

في الذكرى الرابعة لهزيمته: عودة التهديد الداعشي إلى العراق

شن تنظيم داعش الإرهابي أو ما يُعرف بـ “ولاية العراق” هجومًا إرهابيًا يوم 21 يناير استهدف مقر سرية تابعة للجيش العراقي ناحية منطقة العظيم بمحافظة ديالى، الواقعة على بعد أكثر من 120 كيلومترًا من شمال العاصمة بغداد؛ مما أدى إلى مقتل 10 مجندين، وضابط عراقي. وقد أعاد هذا الهجوم تسليط الضوء على النشاط العملياتي المتنامي لتنظيم داعش في العراق، خصوصًا وأنه الهجوم الأكبر للتنظيم في العراق منذ الهجوم الذي استهدف فيه التنظيم أحد أسواق مدينة الصدر شرق العاصمة بغداد في يوليو 2021.

فضلًا عن ذلك، حظي الهجوم الأخير لداعش بمكانة رمزية خاصة سيحاول التنظيم توظيفها في خطابه الإعلامي؛ إذ إنه يأتي بالتزامن مع الذكرى الرابعة لإعلان العراق هزيمة داعش عسكريًا، وتحرير جميع الأراضي من سطوة التنظيم، وهي متغيرات تتعاظم معها الحاجة إلى تسليط الضوء على السياق والأبعاد الحاكمة لتنامي نشاط داعش في العراق.

سياق عراقي معقد

شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدًا لافتًا في النشاط العملياتي لتنظيم داعش في العراق، فقد سعى التنظيم إلى إعادة هيكلة وتنظيم صفوفه، مع تبني استراتيجية جديدة على الصعيد العملياتي تقوم على الاعتماد على المجموعات الداعشية الصغيرة والخلايا النائمة في شن حروب عصابات وهجمات نوعية ومباغتة، تُركز على استهداف عناصر أمنية ومنشآت مدنية وعسكرية وقادة محليين، مع التوسع الملحوظ في استهداف البنى التحتية العراقية، وهو النهج الذي يبدو أقرب إلى سلوك تنظيم القاعدة. لكن هذا التنامي في النشاط الداعشي لم يكن وليد الصدفة، وإنما هو مرتبط ببعض السياقات والمتغيرات التي تعيشها الساحة العراقية، وذلك على النحو التالي: 

1- الأزمة السياسية في البلاد: 

يعيش العراق في الفترة الحالية أزمة سياسية تتزايد حدتها يومًا بعد يوم، وهي الأزمة التي ترتبط بشكل رئيس بحسابات القوى السياسية العراقية في مرحلة ما بعد الانتخابات، خصوصًا مع سعي مقتدى الصدر وهو زعيم أكبر الكتل الفائزة في الانتخابات الأخيرة إلى وضع الأحزاب الشيعية التي سبق لها وأن تداولت الحكم فيما بينها لسنوات طويلة أمام خيار التخلي عن الحكم لصالح أطراف أخرى، في إشارة إلى حلفائه من السنة والأكراد، وبناء ما يُسميه الصدر “حكومة أغلبية وطنية”. 

وهو الأمر الذي دفع الإطار التنسيقي الشيعي “الإطار السياسي الجامع للأحزاب الشيعية المحسوبة على إيران” إلى تبني تحركات تستهدف “شل البرلمان” العراقي وبالتالي الحياة السياسية في العراق. وهي التحركات التي بدأت مع الجلسة الأولى للبرلمان العراقي، حيث أعلن الإطار التنسيقي عن الطعن في قانونية الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي، معتبرًا أن خروقات قانونية ودستورية رافقتها، وهو الأمر الذي يهدد بإصابة المشهد السياسي العراقي بالجمود حال استمراره، إذ إن الإطار التنسيقي مُمثل في البرلمان بنحو 75 نائبًا.

جدير بالذكر أن المتابع للحالة العراقية والنشاط الإرهابي فيها منذ 2011، يجد أن النشاط الإرهابي في العراق تربطه علاقة طردية بعدد من العوامل والظروف، في القلب منها الأزمات السياسية، التي كلما تصاعدت فإن ذلك يدفع باتجاه تصاعد النشاط الإرهابي، خصوصًا مع التداعيات السلبية للأزمات السياسية على الجهود الأمنية في مجال مكافحة الإرهاب.

2- زيارة غير معلنة للعراق لقائد فيلق القدس: 

جاءت العملية الأخيرة لداعش بالتزامن مع زيارة غير معلنة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني العميد إسماعيل قاآني للعراق، وهي الزيارة التي استهدفت بشكل رئيس حلحلة الخلافات الشيعية – الشيعية، وتقريب وجهات النظر بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري. وهو مُعطى لا يمكن فصله عن الدلالات والرسائل التي حملتها العملية، فحتى وإن كان المُستهدف في العملية هو الجيش العراقي وليس الحشد الشعبي، فإن العملية تستهدف إيصال رسالة إلى الطرفين (الجيش والقوى الشيعية) بأن خطر داعش لا يزال قائمًا، بل ويتنامى.

3- الانسحاب العسكري الأمريكي:  

يأتي تصاعد النشاط العملياتي لتنظيم داعش في أعقاب إنهاء الولايات المتحدة بشكل عملي وفعلي لمهامها القتالية في العراق، وهو القرار الاستراتيجي الذي تم اتخاذه كأحد مخرجات الجولة الاستراتيجية الأخيرة بين بغداد وواشنطن التي جرت في يوليو 2021، فضلًا عن التحول الاستراتيجي بالنسبة لأولويات وزارة الدفاع الأمريكية، حيث يرى “البنتاجون” أن الأولوية في المرحلة المقبلة تتمثل في تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في المحيطين الهادئ والهندي، لمواجهة “التهديد الصيني”.

ويبدو أن ما نوه إليه العديد من التقديرات الصادرة عن سياسيين أو عن مراكز فكر كان أقرب للصواب؛ إذ إن هذا القرار من الولايات المتحدة سيترتب عليه فراغ أمني واستراتيجي كبير، ستحاول التنظيمات الإرهابية وفي القلب منها داعش استغلاله من أجل إعادة إحياء نفسها ومشروعها في العراق، خصوصًا في ظل التداعيات التي ترتبت على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وصعود طالبان، وتحو هذه التجربة إلى نموذج مُلهم بالنسبة لتيارات العنف والإرهاب في المنطقة. 

4- إعادة صياغة داعش لاستراتيجيته:

مع الضربات الكبيرة التي تعرض لها تنظيم داعش في العراق منذ هزيمته في الموصل عام 2017، خصوصًا مع تبني الدولة العراقية والتحالف العسكري الدولي لمواجهة التنظيم استراتيجية “قطع الرؤوس” وهي الاستراتيجية التي تقوم بشكل رئيس على استهداف قادة التنظيم؛ بدأ التنظيم في التحرك من أجل تغيير استراتيجياته على الأرض، خصوصًا على مستوى عدم منح الأولوية لفكرة “التمكين” أو إقامة الدولة المزعومة، والتحرك لإعادة بناء وإحياء أفرع التنظيم المختلفة، خصوصًا في مناطق النفوذ التقليدية كالعراق وسوريا، وتكثيف العمليات الإرهابية اعتمادًا على الخلايا والمجموعات الصغيرة والذئاب المنفردة، على أن تكون هذه العمليات “نوعية”، وبالتالي يأتي هذا النشاط العملياتي لداعش في العراق بالتزامن مع إعادة تموضع التنظيم، وتبنيه رؤى واستراتيجيات جديدة.

دلالات متعددة

عكست العملية الأخيرة لتنظيم داعش في العراق، ومُجمل النشاط الإرهابي للتنظيم في الأشهر الأخيرة عددًا من الدلالات المهمة، وذلك على النحو التالي: 

1- جاءت العملية الأخيرة في الذكرى الرابعة لإعلان رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي تحقيق “النصر” على تنظيم “داعش” بعد ثلاث سنوات من الحرب الطاحنة، وبالتالي فالتنظيم استهدف عبر هذه العملية ومثيلاتها في العراق في الأشهر الأخيرة إرسال رسائل إلى القوى المناوئة له بأنه لا يزال حاضرًا في مناطق النفوذ التقليدية بالنسبة له، ولديه القدرة على إعادة إحياء نفسه، وهو أمر يسعى التنظيم كذلك إلى توظيفه من أجل استقطاب عناصر ومقاتلين جدد.

2– الهجوم الأخير في ديالي يأتي بعد مرور أقل من 24 ساعة على قيام الجيش العراقي والحشد الشعبي بشن عملية عسكرية كبيرة في منطقة حاوي العظيم الواقعة بين محافظات صلاح الدين وسامراء وديالى لتطهيرها من فلول تنظيم داعش الإرهابي، وهو مؤشر يشير -إلى جانب بعض المؤشرات الأخرى- إلى وجود خلل في الاستراتيجيات والمقاربات المتبعة لمحاربة الإرهاب عمومًا في العراق، وهي فرضية تتصاعد صوابيتها في ضوء قدرة الإرهابيين على تطوير استراتيجياتهم بشكل فعال وسريع.

3-  ربما يحمل هذا الهجوم في طياته مؤشرًا على نجاح تنظيم داعش في اختراق صفوف القوات الأمنية استخباراتيًا وعسكريًا، خصوصًا وأن محافظ ديالى “مثنى التميمي” أشار إلى أن المنطقة المُستهدفة في منطقة العظيم مُحصنة بالكامل، وتوجد كاميرات حرارية ونواظير ليلية، وأبراج مراقبة خرسانية بها.

4- أشار محافظ ديالى “مثنى التميمي” في تصريحات صحفية إلى أن الإرهابيين استغلوا إهمال الجنود الذين كانوا موجودين في سكنة الجيش العراقي، لكن النقطة الأهم التي لفت إليها هي أن مقاتلي داعش انسحبوا بعد ذلك إلى صلاح الدين، مبينًا أن “المحافظة طالبت سابقًا، وتطالب حاليًا بضرورة التصدي لتسلل الإرهابيين من محافظة صلاح الدين إلى ديالى، ووضع حد لمساحة 65 كيلومترًا من الحدود بين المحافظتين لمنع تسلل الإرهابيين، لأنه من دون ذلك ستستمر خروقات كهذه”.

جدير بالذكر أن محافظة ديالى تشهد هجمات متكررة لتنظيم داعش، استهدف أغلبها قوات الأمن، وغالبًا ما تؤدي إلى سقوط ضحايا، وهو أمر يعقبه قيام القوات الأمنية العراقية بتنفيذ عمليات عسكرية في منطقة جبال حمرين الممتدة بين محافظتي ديالى وصلاح الدين لملاحقة خلايا التنظيم، لكن هذه العمليات غير ذات فاعلية إلى حد كبير في ضوء الصعوبات اللوجستية المرتبطة بغياب الدعم الجوي الذي كانت توفره القوات الأمريكية قبل انسحابها من العراق، وهو أمر يعكس وجود بعض المناطق التي تعاني من هشاشة أمنية كبيرة يستغلها تنظيم داعش بطبيعة الحال من أجل تنفيذ عملياته.

وختامًا، يمكن القول إن تصاعد المنحى العملياتي لتنظيم داعش في العراق خلال الأشهر الأخيرة، هو نتاج طبيعي للأزمات الكبيرة التي تعاني منها الدولة المركزية العراقية، فضلًا عن بعض المتغيرات الأخرى المرتبطة بانسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق، وما خلفه هذا الانسحاب من فراغ أمني واستراتيجي، فضلًا عن التغير في استراتيجية التنظيم نفسه وجنوحه نحو تبني استراتيجية جديدة تنحي جانبًا فكرة “التمكين” وإقامة الدولة، وتركز على تكثيف المنحى العملياتي اعتمادًا على الخلايا الصغيرة والنائمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى