مقالات رأي

فائض المخزون السياسي في السودان

لم تعد مشكلات الدول في قلة الوعي العام لدى المواطنين لتصبح الديمقراطية صعبة، بل أيضًا في فائض المخزون السياسي؛ فبعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير توقع كثيرون أن يعبر السودان المرحلة الانتقالية بسلاسة اعتمادًا على وجود أحزاب نشطة ونخبة سياسية واعية لأهمية أن تكون السلطة في يد المجتمع المدني.

استغرق السودان نحو عامين ليكتشف المتابعون لتطوراته أن انخراط غالبية المواطنين في حقل السياسة والسباحة في بحورها الوعرة عملية خطرة، فالاستقالة التي قدمها عبد الله حمدوك من رئاسة الوزراء الأحد الماضي حوت الكثير من التفسيرات، انصب معظمها حول انسداد أفق الحوار وعدم القدرة على التوافق بين المكونات السياسية التي دخلت في شد وجذب أسهم في تعكير أجواء التوافق المطلوب.

هناك أسباب ودوافع تتعلق بمشكلات الشراكة مع المكون العسكري وتحتاج إلى تذليلها، غير أن عدم التفاهم بين القوى السياسية لعب دورًا مهما في إجبار حمدوك على التخلي عن منصبه بعد أن هدد بالاستقالة أكثر من مرة، والتي جاءت في توقيت بالغ الحساسية يصعب فيه معرفة خريطة التحالفات بدقة، ومن يتصارع مع من، ومن يقف ضد من، ومن يمكنه حسم المعركة السياسية لصالحه في النهاية.

فجرت الاستقالة أسئلة كثيرة بشأن مستقبل الحكم المدني في البلاد، ومصير الشراكة مع المؤسسة العسكرية خلال المرحلة الانتقالية التي لم يتبق لها سوى 18 شهرًا، بعد أن عرج الرجل سريعًا إلى أبعاد تاريخية تفسر جانبًا من الحالة القاتمة التي يدخلها السودان في كل مرة تتاح له الفرصة لبناء دولة مدنية. ما يعني أن هناك أزمة هيكلية في العصب الرئيس للنخبة، ومنهجية التفكير السياسي، والطريقة التي يتعامل بها هؤلاء مع التطورات، والتي أجبرت السودان على خسارة معركة الديمقراطية سابقًا.

أصبحت تصورات النخبة في السودان وإصرارها على تغليب رؤى ضيقة أشبه بمرض مزمن يحتاج إلى علاج حاسم، لأنها تتجاهل المعطيات على الأرض، وقد لا تلتفت كثيرًا إلى شكل المخاطر الداخلية والتحديات الخارجية التي تحيط بالدولة، ولا يجب أن يمنح ذلك البعض اختزال أزمة السودان في نخبته والسعي إلى التضييق عليها وتحميلها نتائج الأخطاء التي تراكمت بفعل تصرفات سلبية من قبل آخرين.

لقد تاه الحديث عن التدهور الاقتصادي في خضم الانشغال بالهموم السياسية، ويتجاهل كثيرون التناحر المتواصل في إقليم دارفور والخطر الكامن في الشرق والاشتباكات المتقطعة في الجنوب، وأزمات الترتيبات الأمنية، وكأنها تهديدات مؤقتة، ناهيك عن مناورات يقوم بها مجلس السيادة يرى فيها المدنيون تحايلًا للقفز على السلطة.

تُركت الكثير من الأزمات تتدحرج بما يشكل تهديدًا للدولة، وجرى التركيز على موقف حمدوك من جرأته في توقيع إعلان سياسي مع المكون العسكري، ويتم التشدد في تنفيذ شعار: لا شراكة، لا تفاوض، لا مساومة، كعنوان عريض يعبر التمسك به عن طبيعة المرحلة المقبلة التي يمكن أن تخسر فيها القوى المدنية ما حققته من تقدم سياسي الفترة الماضية، وتفقد تعاطف جهات خارجية مثلت دعمًا لها، وتوفر مبررات كبيرة للمؤسسة العسكرية لتثبيت أقدامها في السلطة بحجة منع الانزلاق للعنف.

تختلف النخبة في السودان عن غيرها من الدول العربية، بحكم التباين الحاصل في التركيبة الاجتماعية والعرقية والطائفية والمكونات التاريخية التي أسهمت بدور معتبر في تسييس شريحة كبيرة من المواطنين، بصرف النظر عن مستوى التعليم والثقافة والصحة والفقر، فالسياسة عند غالبية المواطنين في السودان تعادل المأكل والملبس والمشرب، وربما لها أولوية عنهم في بعض الأحيان.

أتذكر حديثًا جرى منذ سنوات مع المفكر حيدر إبراهيم عندما كان يدير مركز الدراسات السودانية من القاهرة، وتندره الدائم على حال السودانيين وعشقهم للسياسة، وحديثه عن غرام المواطن البسيط الذي يعيش في جنوب كردفان أو شمال دارفور أو في أي منطقة نائية ولا يفارقه الراديو تقريبًا إلا خلال ساعات النوم ليتسنى له متابعة الأخبار من الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية، وهي إشارة اجتماعية كاشفة لهذا التزاحم السياسي، وتكفي لتفسير التضارب في رؤى النخبة، والتباعد بينها وبين شريحة كبيرة من المواطنين لا يقلون وعيًا عنها.

في عصر الإنترنت والقدرة الفائقة على الاتصال والمتابعة بات تأثر الناس في السودان وغيره بالتطورات كبيرًا، ومتابعتهم للأحداث السياسية أكثر سرعة، لذلك لم تتمكن القوى الأمنية من إخماد احتجاجات الشوارع، ويؤدي تعاملها بخشونة إلى نتائج أخطر.  

تساعد حكاية حيدر إبراهيم وتفسيره لها في فك شفرة الكثير من الأحداث في السودان والتي أدت إلى تعقيد المشهد بالصورة التي يصعب توقع المصير الذي ينتظر البلاد بعد استقالة حمدوك وعدم وجود قيادة موحدة في الشارع، فضلًا عن التباين داخل قوى الحرية والتغيير كجسم سياسي كبير قاد الثورة على نظام البشير.

كانت خلافات النخبة سببًا رئيسًا في الدفع نحو استقالة رئيس الوزراء الذي لم يتمكن من الحفاظ على ظهيره السياسي متمثلًا في تحالف قوى الحرية والتغيير بعد أن عصفت به تغيرات أدت إلى انقسامه إلى شطرين كليهما لا يقف وراء حمدوك.

ضغط أحدهما عليه من خلال استمرار الحشد في الشارع لإجباره على التنصل من اتفاقه السياسي مع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ثم البحث عن وسيلة لعبور النفق المظلم، ووقف الآخر في صف المكون العسكري؛ للعمل على تعرية حمدوك سياسيًا، والضغط عليه للابتعاد عن جناح المجلس المركزي بالحرية والتغيير.

لجأ رئيس الوزراء إلى الاستقالة كحل لإشكاليات سياسية أزلية تعاني منها النخبة السودانية، فلم يجد أداة يحل بها ألغازها أو يهدي إلى سبيل يساعده على الخروج من مطباتها سوى الاستئذان في الانصراف، وبدلًا من أن يصبح فائض المخزون السياسي داعمًا له أصبح عبئًا حال دون تمكينه من الحركة لضبط العلاقة مع المكون العسكري.

فرضت النخبة قيودًا على توجهات حمدوك، ولم تمنحه شبكة الأمان التي تساعده على تخطي مصاعب المرحلة الانتقالية. والنتيجة أن البلاد إما أن تدخل دوامة من العنف، أو يفرض الجيش قبضته على الحياة السياسية. وفي الحالتين تخسر النخبة فرصة كان من الممكن أن تغير وجه السودان، وتجعله ساحة للديمقراطية في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى