
في المشهد العراقي.. هل ينجح “مقتدى الصدر” في تشكيل حكومة أغلبية؟
كتبت المحكمة الاتحادية العراقية الفصل الأخير في نتائج الانتخابات العراقية التي عقدت في أكتوبر الماضي وأثارت من اللغط الكثير- المحكمة العراقية ردت دعوى إلغاء نتائج الانتخابات، ورفضت كل الطعون التي تم تقديمها. وفي خطوة أخرى، صدّقت المحكمة على نتائج الانتخابات النيابية لتكون الخطوة الأخيرة قبل تشكيل الحكومة العراقية التي صدرت توقعات حول إمكانية خروجها للنور في الربع الأول من 2022 نظرًا لتباين التركيبة السكانية والسياسية في العراق. وهو ما مثّل ضربة قوية للفصائل السياسية المسلحة التي عقدت الأمل على قبول الطعون وإعادة الفرز يدويًا، ويمثل كذلك زعزعة للتوازن التقليدي للقوى الشيعية الموالية لإيران، مما يهدد بتقويض نفوذ طهران في البرلمان العراقي.
وعقب تصديق المحكمة الاتحادية على النتائج تدخل البلاد وفقًا للدستور العراقي في بعض الإجراءات القانونية تمهيدًا لانعقاد مجلس النواب، إذ يطلب رئيس الجمهورية “برهم صالح” انعقاد أولى الجلسات البرلمانية برئاسة أكبر الأعضاء سنًا لانتخاب رئيس البرلمان الجديد، ثم ينتخب البرلمان رئيس الجمهورية الجديد بثلثي أعضائه. ويلي ذلك اختيار مرشح لتشكيل الحكومة والذي يكلف من قبل رئيس الجمهورية.
وبعد أن يقوم رئيس الحكومة المكلف بتشكيل حكومته تعرض على البرلمان لنيل الثقة، فتكون أولى مهام البرلمان الجديد انتخاب رئيس الجمهورية ومنح الثقة للحكومة الجديدة. ورغم أنه لا يوجد نص دستوري في العراق يقسم هذه السلطات طائفيًا إلا أن العرف السياسي قد جرى منذ الغزو الأمريكي في 2003 أن يكون رئيس الحكومة “شيعيًا” ورئيس البرلمان “سنيًا” أما رئيس الجمهورية فيكون انتماؤه “كرديًا”.
وعلى ضوء تصديق المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات، يبقى تيار مقتدى الصدر في المقدمة بإجمالي 73 مقعدًا، بينما جاء في المرتبة الثانية تحالف تقدم بحوالي 37 مقعدًا بزعامة رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، ليحل تحالف نور الدين المالكي في المرتبة الثالثة بـ 33 مقعدًا. ولكن يبقى التحالف مع مقتدى الصدر بعيدًا، خصوصًا أن الأخير كان قد طالب بسرعة تشكيل حكومة الأغلبية. مع الوضع في الاعتبار أن المرشحين المستقلين حصدوا 30 مقعدًا، مما يعد مؤشرًا جيدًا في ظل الاستقطاب السياسي في البلاد.
أما الفصائل المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي والممثل في تحالف الفتح فقد أعلنت مرارًا تشكيكها في نتائج الانتخابات، مطالبة بإعادة الفرز، ووصل الأمر إلى اشتباكات مسلحة مع قوات الأمن في محيط المنطقة الخضراء، وكذلك التلويح بما هو أبعد من ذلك.
الوزارات السيادية
سبقت الإشارة إلى أن التقليد السياسي في العراق قائم على الطائفية في توزيع سلطات رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء، إلا أن العرف السياسي لا يتوقف عند ذلك فقط، وإنما يمتد إلى الحقائب الوزارية- وعلى وجه التحديد توزيع الحقائب الوزارية السيادية؛ فوزارتا الدفاع والداخلية يتم توزيعهما بالتبادل بحيث إذا ذهبت الدفاع للشيعة تكون الداخلية للسنة والعكس بالعكس.
وهو ما يمتد أيضًا إلى وزارات المالية والخارجية والطاقة، ويلقي بظلاله على تشكيل الحكومة العراقية ككل. ومن هنا يأتي التعقيد الذي يكتنف أمر تشكيل الحكومة العراقية، حالها حال باقي الدول التي تعتمد على التقسيم الطائفي في نظامها السياسي.
ولكن مقتدى الصدر الذي حاربت قواته ذات يوم الاحتلال الأمريكي أصبح اليوم حليفًا لها بوصفه الأكثر عدائية لنفوذ طهران، وهو ما دفعه إلى أن يتجه برسالة شكر في تغريدة عقب صدور قرار المحكمة الاتحادية بالتصديق على انتخابات العاشر من أكتوبر 2021، ودعا إلى سرعة تشكيل الحكومة، وحذر من قيام الميليشيات بإفساد العملية الديمقراطية في العراق، موجهًا دعوة إلى قادة الجماعات المسلحة بحل جماعاتهم وتسليم الأسلحة للجيش.
ووفقًا للخريطة الحالية، فقد تم فتح الأبواب أمام الفصائل التي تمثل الأقليات الكردية والسنية في العراق أن تكون جزءًا من الحكومة الجديدة بعيدًا عن التهميش. وفي هذا الإطار فقد استطاع التيار الصدري تحقيق نجاح كبير عبر دراسة الخريطة الانتخابية عن كثب، والتقدم بمرشحين لا ينتهي بهم الأمر في مواجهة مع بعضهم البعض.
حكومة أغلبية
يتجه السيناريو الحالي إلى تشكيل حكومة أغلبية، خصوصًا أن التيار الذي حصد أكبر عدد من المقاعد لا يعاني من ضعف عسكري أو سياسي، وبالتالي فإنه ليس مضطرًا لمجاراة أي تيار آخر لكسب التأييد. فضلًا عن أن التيار الصدري يقف موقفًا عدائيًا من الميليشيات المسلحة التي تدين بالولاء لإيران في ظل خطاب عراقي قومي للمرة الأولى منذ عام 2003.
وهو ما وعد به مقتدى الصدر الناخبين قبيل ترشحه حيث أشار إلى أن التيار بزعامته لن يخضع لتبعية لأي دولة أخرى، وبالتالي فإنه لن يتعاون مع القوى التابعة. علاوة على ذلك فقد تشكل لدى مقتدى الصدر قدر كبير من الوعي السياسي أتاح له أن يتأكد من أن المضي قدمًا والإصرار على المحاصصة الطائفية أصبح أمرًا مرفوضًا شعبيًا في العراق، والمغامرة هنا لا يحمد عقباها.
ومما يستدل به على ذلك، أن البرلمان العراقي كان قد أقر في عام 2020 وتحت ضغط شعبي قانون يهمش القوى الأقل شعبية، ويسمح للمستقلين بالترشح. وربما كان ذلك السبب الأساسي في أن الجماعات المسلحة التي أصبحت مكروهة في الشارع العراقي أن تخسر المقاعد التي كانت مضمونة لها في أوقات سابقة.
ومن ثم، فإن الكتل الكردية والسنية إضافة إلى المستقلين يمكن أن تندمج مع التيار الصدري في تشكيل الحكومة وترفع عنه الذهاب إلى خيار الحكومة التوافقية والتعاون مع قوى سبق وأن وعد بالإحجام عنها. خصوصًا وأن الحكومات التوافقية لها تاريخ من الفشل في العراق، ولا تجتذب أي أرضية شعبية، وتلقى المسؤولية فيها على الآخرين فيما يتعلق بالفشل أو الفساد الذي ضرب مفاصل الدولة العراقية.
من يرأس الحكومة القادمة؟
يعد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي هو المرشح الأكثر تفضيلًا بالنسبة لزعيم الكتلة الصدرية، إلا أنه متعارض مع رغبات الإطار التنسيقي الذي يضم التيارات الشيعية الرافضة لنتائج الانتخابات، وهو ما أعاد الرونق إلى الوجود السياسي لنوري المالكي وجعله حاضرًا مرة أخرى على الساحة. حتى وإن لم ينجح في الوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء فإنه بتحالفه مع الكتل الشيعية الموالية لإيران يمكن أن يعرقل تشكيل حكومة الأغلبية ولو لبعض الوقت.
وإلى جانب اسم نوري المالكي الذي لا يرحب به من التيار الصدري، فإن هناك أسماء أخرى مطروحة وإن لم يكن بشكل رسمي منها “حيدر العبادي” الذي التقى في وقت سابق مع مقتدى الصدر وزعيم عصائب أهل الحق شديد الولاء لإيران “قيس الخزعلي”. وفي هذا الإطار يٌحفظ للعبادي أنه كان قادرًا على تحرير أراضٍ كانت خاضعة لتنظيم داعش، وأدار العراق في ظروف حالكة السواد في الفترة من 2014-2018. ولكن وصوله إلى كرسي رئاسة الحكومة يعتمد على التوافق الداخلي في البيت الشيعي، وهو ما يبدو مستحيلًا حتى الآن. وعلى الرغم من أن مقتدى الصدر لا يرفض حيدر العبادي على وجه التحديد، إلا أن كون العبادي محسوبًا على الإطار التنسيقي يجعل التيار الصدري ينأى عنه.
وفي هذا السياق يمكن أن يلجأ العبادي إلى عقد صفقة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في حال مهد له الطريق للوصول إلى كرسي رئاسة الجمهورية. وبناءً على ما تقدم يبدو الكاظمي الأوفر حظًا حتى الآن لأنه يحظى بدعم أمريكي، ولكن يمكننا أن نقول إنه الأوفر حظًا بين الأسماء المطروحة لأنه قد يظهر مرشح تسوية في نهاية المطاف ويطيح بكل الأسماء المطروحة.
سيناريوهات ثلاثة
- يعد السيناريو الأكثر ترجيحًا في تشكيل الحكومة العراقية بعد التصديق على نتائج الانتخابات هو تشكيل تحالف بين التيار الصدري والحلبوسي والبرزاني وإن كان اجتماعهم سيخرج بعدد مقاعد أقل من المطلوب لتشكيل الحكومة فإن التيار الصدري بالاشتراك مع الحبلوسي والبرزاني سيشكلون تحالفًا بانضمامهم إلى المستقلين وتحالف عزم. وإذا نجح هذا السيناريو يكون قد أقر أول حكومة أغلبية في العراق منذ 2005 ضامنًا استمرار الانقلاب على نفوذ طهران والتوافق مع رغبة المجال العام.
- أما السيناريو الثاني فيضمن للمالكي صدارة المشهد مكونًا حكومة ميليشيات موالية لإيران عن طريق التحالف مع خصوم مقتدى الصدر، ولكن حتى في هذه الحالة يحتاج المالكي إلى التحالف مع كل القوى الشيعية المناوئة للتيار الصدري وكذلك المستقلين، وهو أمر مستبعد الحدوث لأن أكثر المستقلين محسوبون على الحراك الشعبي الرافض لنفوذ طهران وللحكومات التوافقية. وبالنسبة لهذا الطرح فإنه يضمن استعادة نفوذ الإيرانيين في العراق إلا أنه يهدد باندلاع الاحتجاجات من جديد.
- ويبقى السيناريو الثالث والأخير والذي يتضمن التوصل إلى صيغة توافقية تضم كافة القوى الشيعية من الإطار التنسيقي إلى جانب التيار الصدري وهذا السيناريو يتضمن العودة بالبلاد إلى ما قبل حراك تشرين، ويسحب من الصدر جميع الأوراق التي حصل عليها عندما تبنى خطابًا عراقيًا قوميًا عندما أكد أنه لا يتلقى أوامر من وراء الحدود.
يبقى مقتدى الصدر إذًا صاحب النفوذ السياسي والعسكري بين أمرين – إما أن يصر على تشكيل حكومة الأغلبية، وفي هذا السياق فإن البلاد يمكن أن تتعرض لموجات عنف من الميليشيات الموالية لإيران وقد يضطر إلى الرضوخ في النهاية، أو أن يذهب إلى خيار الحكومة التوافقية منذ البداية لتفويت الفرص على ميليشيات إيران في إثارة الفوضى.
باحث أول بالمرصد المصري