
لبنان.. أفول الزعامات السنية
مع بدء الاستعداد للانتخابات العامة اللبنانية المقرر عقدها عام 2022، وعلى ضوء نظام المحاصصة الطائفية الذي يعطى الرئاسات الثلاث للطوائف السنية والشيعية والمارونية، تبدو طائفة المسلمين السنة في لبنان في أشد الحاجة إلى الزعامات السنية اللبنانية التاريخية.
وكانت المناصب الكبرى في لبنان حكرًا على المسيحيين –سواء الموارنة أو الأرثوذكس أو الإنجيليين، وليس الموارنة فحسب– وذلك حينما تأسست الدولة اللبنانية الحديثة عام 1920. ويعود ذلك إلى أن الطبقة البرجوازية المسلمة في عموم لبنان كانت ترى في الحدود المعلنة وقتذاك وضعًا مؤقتًا، وأنه سوف يتم ضم لبنان أو بعض أجزائه إلى جمهورية سورية كبرى، وساد هذا الظن في طرابلس وعكار شمالًا، وحتى بين نسبة كبير من الطبقة البرجوازية المسلمة في بيروت.
بل أن نسبة كبيرة من ساسة الطبقة الرأسمالية البرجوازية اللبنانية وقتذاك كانت تشارك في المؤتمرات السياسية السورية والوفود السورية التي تفاوض فرنسا من أجل الاستقلال، وعلى رأسهم –وللمفارقة– رياض الصلح الذي أدرك بحلول الأربعينات أن لبنان أمر واقع ووطن يستحق أن ينتمي إليه.
وهكذا ودع الصلح انتماءه السوري، وعاد إلى وطنه لبنانيًا، وتولي رئاسة الوزارة اللبنانية في مرحلة إعلان الاستقلال والجلاء، وسنّ مع الرئيس بشارة الخوري الميثاق الوطني عام 1943 الذي نص على حصر منصب رئيس الجمهورية بين المسيحيين الموارنة مقابل حصر منصب رئيس الوزراء بين المسلمين السنة.
لم يكن رياض الصلح هو أول من تنبّه إلى أن المعركة الأصلية في لبنان وليس في سوريا، ففي منتصف الثلاثينات بدأت العائلات السياسية السنية المسلمة في عموم لبنان الانخراط في الشأن اللبناني وترك الشأن السوري، وأولهم الصحفي خير الدين الأحدب القادم من طرابلس، إذ قرر الرئيس اللبناني أميل إده تعيينه رئيسًا للوزراء ما بين 5 يناير 1937 و18 مارس 1938 ليصبح أول مسلم يتولى منصب رئيس الوزراء، وتلاه عبد الله اليافي الذي شكل الوزارة اللبنانية سبع مرات أولها في زمن إده ما بين عامي 1938 و1939.
وعقب سن الميثاق الوطني عام 1943، تناوب على رئاسة الحكومة اللبنانية آل الصلح وآل كرامي، وحتى الشخصيات التي أتت من خارج العائلات السياسية الكبرى كانت قادمة من عائلات اقتصادية وتجارية كبري أو يجمعها مصاهرات مع أسر سياسية، فعبد الله اليافي الذي شكل الوزارة سبع مرات كان متزوجًا من السيدة هند العظم التي تنتمي إلى أسرة شامية عريقة في العمل السياسي.
حرب إلغاء الزعامات السنية
إن صعود الزعامات السنية في لبنان كان أمرًا غير مرغوب فيه في أكثر من دولة؛ ففي تركيا كانت هناك مخاوف من تصاعد الصوت السني في سوريا ولبنان، وبدء المطالبة بالأقاليم السورية الشمالية ولواء الإسكندرون التابعة لسوريا التاريخية. هذا بجانب أن النظام السوري بكل نسخه سواء البعثية أو ما قبل البعثية كان يحبذ أن يظل هو صاحب الصوت السني الحصري في إقليم الشام التاريخي، رغم أن النظام البعثي ليس علويًا كما تدعي الدعاية المضادة لسوريا، إذ إن أغلب قادة حزب البعث ووزرائه من المسلمين السنة أو المسيحيين، ولكن دمشق كانت تتخوف من تحمس بعض أهل السنة داخل سوريا لفكرة استيراد زعيم سني من لبنان من أجل مشاريع انفصالية.
وبحلول أوائل السبعينات بدأت فكرة إلغاء الزعامات السنية التقليدية العتيدة في لبنان لصالح زعامات بديلة ضعيفة تصبح جزءًا من سياسة حزب البعث الاشتراكي العربي السوري. وقد اتفق النظام الإمبراطوري في إيران مع دمشق على نفس الهدف، وكانت فكرة حكومة شاه إيران في هذا المضمار أن لطهران نفوذ تاريخي بين شيعة الجنوب، وأن وجود “السنية السياسية” قوية في وسط وشمال لبنان يضعف شوكة “الشيعية السياسية” في الوسط والجنوب.
ومثل النظام البعثي، لم يكن النظام الإيراني الإمبراطوري ولاحقًا الإسلامي يفكر لأسباب طائفية، بل سياسية، فالنظامان الامبراطوري والإسلامي تعاملا مع حكومات وحركات إسلامية سنية، ولكن كانت الديموغرافية الشيعية اللبنانية هي استثمار إيران بكل طباعتها في لبنان.
ومع أواخر السبعينات واستيلاء الإسلاميين على الثورة الشعبية الإيرانية وتسميتها الثورة الإسلامية الإيرانية، وبدء التحالف بين النظام البعثي العروبي في سوريا والنظام الإسلامي المحافظ في إيران، أصبح هدف إضعاف الزعامات السنية في لبنان هدفًا موحدًا للتحالف بين دمشق وطهران، وبدأت شخصيات جديدة تظهر على مسرح رئاسة الوزارة اللبنانية، كل إرثها السياسي هو دعم رجالات دمشق وطهران في لبنان لهذه الشخصية عبر الانتخابات أو تصويت مجلس النواب.
ومع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) كانت أسرتا الصلح وكرامي قد وصلتا إلى أضعف نفوذ سياسي لهما على الساحة السياسية السنية، ولولا ظهور رفيق الحريري وتوليه رئاسة الوزارة اللبنانية عقب اضطرابات 1992 لانهار نفوذ الزعامات السنية على ضوء انهيار الليرة اللبنانية قبل تولي الحريري، وذلك أثناء وزارتي عمر كرامي الأولى ورشيد الصلح الثانية عام 1992.
وعقب اغتيال رفيق الحريري عام 2005، أعاد معسكر 8 آذار الموالي لسوريا وإيران تموضع لعبة إضعاف الزعامات السنية عبر افتعال الفراغ وتعطيل الحكومة، كما جرى مع وزارة فؤاد السنيورة، أو التعاون مع رئيس الوزراء بغية بث الشقاق بينه وبين معسكر 14 آذار كما جرى مع وزارتي سعد الحريري.
وقد أدت سياسة الوفاق بين تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري والتيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون ولاحقًا جبران باسيل إلى خسائر جمة في الرصيد السياسي لآل الحريري، حتى أن بعض الأصوات قد طالبت الرئيس سعد الحريري بتكرار سيناريو رياض وسامي الصلح، أي تبادل زعامة الأسرة مع أخيه بهاء الدين الحريري أو أبناء عمومتهم أحمد الحريري (نجل مصطفي وبهية الحريري شقيقة رفيق الحريري) أمين عام تيار المستقبل وأخيه نادر الحريري مستشار ومدير مكتب سعد الحريري.
ورغم أن 8 آذار تضم سياسيًا عتيدًا بثقل فيصل كرامي، إلا أن عدم ترشيح دمشق وطهران للسياسي الأبرز من آل كرامي لرئاسة الوزراء يحمل علامة استفهام، وإن كانت أوساط 8 آذار قد تنفست الصعداء حينما رحل عن عالمنا عام 2020 الوزير أحمد مصطفي كرامي المحسوب على 14 آذار، وكان السياسي الوحيد من آل كرامي الذي خرج عن دائرة 8 آذار لصالح 14 آذار.
إرث آل كرامي وآل الصلح
تعد أسرة كرامي من أهم الزعامات السياسية في طرابلس شمال لبنان. تولى عبد الحميد كرامي (1890 – 1950) منصب حاكم طرابلس في زمن المملكة السورية العربية السورية عام 1918. وعقب تفكيك المملكة السورية، أصبح نائبًا عن طرابلس في مجلس النواب اللبناني.
شكل عبد الحميد كرامي الوزارة ما بين يناير وأغسطس 1945، ومثّل لبنان في قمة تأسيس جامعة الدول العربية. وأنجب عبد الحميد ابنين عمل كلاهما رئيسًا للوزراء، الأول الشهيد رشيد كرامي (1921 – 1987) الذي شكل الوزارة 8 مرات أولها في الخمسينات وآخرها في الثمانينات، والثاني عمر كرامي (1934 – 2015) الذي شكل الوزارة مرتين، وحفيده فيصل عمر كرامي هو القيادي البارز بتيار 8 آذار. أما مصطفي كرامي، شقيق عبد الحميد كرامي، فقد أسس حزب الشباب الوطني عام 1936.
أما اسرة الصلح فهي ذات تاريخ عريق في العمل السياسي في سوريا العثمانية وسوريا الهاشمية قبل تأسيس الدولة اللبنانية عام 1920، أحمد باشا الصلح متصرف اللاذقية العثمانية أنجب رضا الصلح وزير داخلية المملكة العربية السورية، وحفيده رياض الصلح الذي شكل الوزارة اللبنانية مرتين وكان من قادة الاستقلال. وأسس رياض الصلح سلالة سياسية عريقة، فابنته منى الصلح تزوجت الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز وهي أم الأمير الوليد بن طلال، وابنته الثانية لمياء تزوجت الأمير المغربي عبد الله بن محمد الخامس، وعلياء الصلح السياسية التي كادت أن تصبح اول سيدة تتولي الرئاسة حينما بدأ الرئيس المنتخب بشير الجميل في مفاوضتها على المنصب.
الابن الثاني لأحمد الصلح، منح الصلح، عمل مستشارًا لأبيه، وأنجب كاظم الصلح مؤسس ورئيس حزب النداء القومي وعادل الصلح رئيس مجلس بلدية بيروت، وتقي الدين الصلح الذي شكل الوزارة اللبنانية مرتين، الأمين العام المساعد بجامعة الدول العربية.
ومن الأسرة نجد الشهيد وحيد الصلح الذي اغتيل عام 1958، وسامي عبد الرحيم الصلح الذي شكل الوزارة اللبنانية أربع مرات وهو متزوج من السيدة بلقيس رضا الصلح شقيقة رياض الصلح، بينما شكل رشيد الصلح الوزارة مرتين، ولا يوجد اليوم على الساحة اللبنانية سياسي من آل الصلح بعد انتهاء الحرب الاهلية اللبنانية.
مستقبل الزعامة السنية في لبنان
لم تعلن بعد الأحزاب اللبنانية قوائم مرشحيها لانتخابات 2022، ولكن الأوساط السنية اللبنانية تفتقد إلى الزعامة القوية مثل رياض الصلح ورشيد كرامي ورفيق الحريري، فهل النسخة الثالثة من سعد الحريري سوف تكون كافية؟ أم تقدم أسرة الحريري زعيمًا جديدًا؟ وهل حان دور فيصل كرامي أم ان التحالف الإيراني السوري سوف يظل يستبعد فكرة احياء زعامة آل كرامي للطائفة السنية؟
باحث سياسي