
مشروع الجينوم المرجعي المصري… لتعزيز الطب الشخصي
في مارس 2021، أعطى الرئيس عبد الفتاح السيسي إشارة البدء لتنفيذ مشروع الجينوم المرجعي للمصريين، والذي يمكن من خلاله أن تدخل مصر عصر الطب الشخصي، والتنبؤ بالامراض المستقبلية وطرق علاجها، بما في ذلك الأمراض الوبائية وكذلك لتقليل الامراض الوراثية. وتعود فكرة مشروع الجينوم إلى عام 1984 في اجتماع مشترك بين وزارة الطاقة الأمريكية واللجنة الدولية للوقاية من المسرطنات البيئية، والذي طرح خلالها للنقاش تساؤل حول هل من الممكن الحصول على نسخة دقيقة للمخطوطة الوراثية الكاملة للإنسان؟
أول مشروع جينوم مرجعي
وانطلاقًا من هذا السؤال، تم عقد العديد من الاجتماعات بين المؤسسات الأمريكية العلمية المعنية بالأمر على مدار عدة سنوات. وبناء على ذلك قررت لجنة خاصة من الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم عام 1988بوضع الأسس لمشروع الجينوم البشرى، والذي يستهدف الوصول إلى معرفة وفك شفرة الجينوم البشري بأكمله.
لكن ما هو الجينوم البشري؟ هو كل الصفات الموجودة في الإنسان ومحمولة على صورة شفرة “DNA” ولفترة طويلة كانت غير مكتشفة. وهنا بدأت المبادرة للعمل على المشروع بشكل رسمي في عام 1990. وبالرغم من إنه كان مخططًا له أن يستغرق 15 عامًا، لكن التطورات التكنولوجية قد سرعت من العمل به، فأعلنت النتيجة النهائية للمشروع عام 2003، وبدأ العمل الرسمي على المشروع من خلال التعاون بين وزارة الطاقة الأمريكية والمعاهد الوطنية للصحة، والتي كانت تهدف في البداية إلى التعرف على الجينات التي يحتوي عليها الـ “DNA” البشري.
وقد توصلت في حينها إلى أن عددها )100.000(جين تقريبًا. ولكن مع التقدم العلمي فقد تم التوصل الآن إلى كونها (22.000) جين فقط، مع تحديد متوالية تتابعات القواعد الكيميائية التي تكون الـ “DNA” البشري وعـددها 3.3 مليارات زوج قاعدة وراثي، مع الاحتفاظ بهذه المعلومات على قواعد البيانات، وتطوير الأدوات اللازمة لتحليلها.
تجارب دولية سابقة
- مشروع الجينوم السعودى
تعاني المملكة العربية السعودية من تزايد نسب الأمراض الوراثية، مثل مرض السكري والذي يصيب أكثر من 27 % من السكان، وهذه الامراض تزيد الأعباء على نظام الرعاية الصحية من حيث التكلفة؛ إذ يصل الإنفاق السنوي عليها تقريبًا إلى 100 مليار ريال سعودي، بالإضافة إلى زيادة عدد الأطفال الذين يولدون بإعاقات وراثية.
وبناء على ذلك، تم إطلاق مشروع الجينوم السعودى عام 2013، الا أنه تم تدشين أول مختبر مركزي في عام 2018، وكانت المملكة قد اتخذت بعض الخطوات السابقة لهذا المشروع والتي كانت تهدف إلى الوقاية من الأمراض الوراثية: البرنامج الأول وهو برنامج فحص ما قبل الزواج، في عام 2004، ويشمل مرضى الأنيميا المنجلية، وأنيميا البحر الأبيض المتوسط، حيث تم مواجهة ارتفاع هذين المرضين والحد من زيادة حالاتهم، والبرنامج الثاني هو البرنامج الوطني للكشف والتدخل المبكر لأمراض التمثيل الغذائي والغدد عند المواليد، وقد أُطلق في عام 2005، وتضمن فحص 17 مرضًا وراثيًا.
وتم البدء في المشروع بالتعاون بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية مع وزارة الصحة وعدد من المستشفيات ومراكز الأبحاث والجامعات في السعودية. ويهدف إلى جمع وتحليل 100 ألف عينة من مختلف المناطق في المملكة لبناء قاعدة بيانات جينية وطنية، واكتشاف المتغيرات الجينية في الصحة والمرض، واستغلالها لتطوير أدوات التشخيص والوقاية من الأمراض الوراثية والجينية.
وخلال المرحلة الأولى، تم تحليل أكثر من 56 ألف عينة، وتطوير تقنيات الفحوصات الجينية الخاصة بالمجتمع، وإنشاء 25 حزمة جينية تستخدم في التحاليل الطبية التشخيصية، وتكوين قاعدة بيانات جينية عن الصحة والأمراض لتعزيز ممارسة الطب الشخصي، وأسهم المشروع بدور كبير في مجال مواجهة الأمراض بين المواطنين. وهو ما ظهر خلال جائحة “كوفيد-19”.
وقد نجح المشروع في توثيق 7500 متغير مسبب للأمراض الوراثية والجينية بالمملكة، بالإضافة إلى أن المشروع يدعم العديد من البرامج مثل: الفحص الطبي قبل الزواج، وفحص الأجنة، وفحص حديثي الولادة. وقد بدأت نتائج المشروع تظهر من خلال المساهمة في الحد من خلال تقليل المواليد المصابين بإعاقات شديدة.
- مشروع الجينوم الإماراتي
أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة مشروع الجينوم الإماراتي في عام 2019، ويعد أحد البرامج الاستراتيجية المهمة للمواطنين، وقد بلغ عدد مراكز جمع العينات الخاصة بالجينوم 27 مركزًا، ويتم سحب العينات من كل الفئات، وتم العمل على المشروع بالتعاون بين دائرة الصحة في أبو ظبي، ووزارة الصحة ووقاية المجتمع، ومجموعة “جي 42” للرعاية الصحية.
وقد وضعت الإمارات أهدافًا للبرنامج تتمثل في رسم الخارطة الجينية المرجعية للمواطنين، والتعرف إلى الأمراض الوراثية والطفرات الجينية، كذلك الاستفادة من القوة التحليلية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتوقع قابلية الإصابة ببعض الأمراض من خلال تحليل الجينوم الكامل ووضع خطة علاجية ووقائية للمجتمع بناء على نتائج التحليل الجيني للمواطنين، ووضع خطط تشخيصية وعلاجية ووقائية بناء على نتائج تحليل الجينوم الكامل من أجل مجتمع خالٍ من الأمراض، بالإضافة إلى تقديم الخطط العلاجية لمزودي الرعاية الصحية بناء على نتائج تحليل الجينوم، وتأهيل الكوادر الوطنية للريادة في مجال الجينوم.
وقد قامت شركة “جي 42 للرعاية الصحية”، بعمل دراسة موسعة لمواجهة انتشار فيروس كورونا، والتي ستساهم في تحليل أنماط العدوى على مستوى الدولة، وتم إجراء دراسة على 1067 عينة مسحة أنفية جمعت في أبو ظبي في عام 2020، وكشف التحليل عن اختلافات جينية تميز سلالات الفيروس وأنماطه في دولة الإمارات.
إطلاق الجينوم البشري المصري
نتيجة ما حدث خلال جائحة كوفيد-19 من ارتفاع الإصابات في بعض الدول المتقدمة بالرغم من توفير الرعاية الصحية وكذلك ارتفاع نسب الوفيات بها، وعلى العكس كان هناك بعض الدول بها عدد قليل من الإصابات وكذلك في الوفيات، وهو ما كان مؤشرًا على اختلاف استجابات الجسم البشرى.
وبالنظر إلى الوضع داخل مصر نجد وجود تباين في استجابات المصريين وإصاباتهم بالمرض ومقاومته، وهنا بدأت الدولة أن تتجه صوب الدخول في مجال الطب الشخصي والذي نتمكن من خلاله من التنبؤ بالأمراض المستقبلية، وطرق علاجها بما في ذلك الامراض الوبائية.
- إنشاء قاعدة بيانات جينية مرجعية
يهدف مشروع الجينوم المصري إلى إنشاء قاعدة بيانات جينية مرجعية، نتمكن من خلالها من دراسة وتحليل عدد من العينات، لاستكشاف علاقات الدلالات الجينية والشفرة الوراثية أو الجينومية مع مظاهر الصحة والمرض في الإنسان، والذي يساعد في وضع خارطة للتشخيص المبكر، والتنبؤ بالأمراض الأكثر شيوعًا بين المصريين؛ مثل أمراض السكر والقلب والأورام والأمراض الوراثية، وتحديد أسباب المرض ومدى استجابة الجسم للعلاج، وتوفير التدخل الطبي المبكر، وتحديد العلاج الأمثل الذي يتناسب مع العوامل الجينية للمرضي المصريين بشكل خاص. وسيساعد أيضًا على التنبؤ بالأمراض الوبائية المستقبلية وتحديد طرق مواجهتها، ورسم خريطة بكافة طرق المواجهة والعلاج.
- البداية
نُشرت دراسة في دورية “نيتشر كومينيكيشن” على تحليل عينات من الحمض النووي ل 110 مصريين بهدف تحديد الجينات المميزة للمصريين، وبفحص البيانات ومقارنتها بنظائرها الأفريقية والأوروبية، تمكن القائمون على هذه الدراسة من إثبات أن المصريين لديهم بعض الاختلافات في القواعد الوراثية.
تكون المشروع من مجموعتين بحثيتين، الأولى من خلال البروفيسور المصري صالح إبراهيم من جامعة لوبيك بألمانيا، وكان الهدف دراسة بعض الجينات المصرية المسببة للأمراض الجلدية، والثانية محمد سلامة، مدير مركز البحوث الطبية التجريبية بجامعة المنصورة، وكان هدفها دراسة الجينات المسببة للأمراض العصبية. وتوصلت المجموعتان إلى أن بعض الجينات المسببة لبعض الأمراض في مصر تختلف عن الجينات المتعارف عليها المسببة للأمراض ذاتها في مناطق أخرى من العالم.
وتوصل المجموعتان في النهاية إلى إنشاء خريطة جينية للأصحاء في مصر، لمعرفة الفروق التي تميزهم عن نظرائهم من المصابين بالأمراض الوراثية. وللوصول إلى نتائج الدراسة، تم سحب عينات دم من 110 مصريين متطوعين أصحاء، من منطقة الدلتا والقاهرة والجزء الشمالي من صعيد مصر، وفصل منها الحمض النووي الريبوزي الذي يُعرف اختصارًا بالـ(DNA)، بمركز البحوث في جامعة المنصورة، ثم تم إرسال تلك العينات إلى معمل خاص بجامعة لوبيك بألمانيا لتحليلها.
- إطلاق المشروع
في مارس 2021، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي، إشارة البدء في مشروع الجينوم المصري المرجعي، والذي يعد من المشروعات الاستراتيجية للدولة المصرية ومن أكبر المشاريع العلمية في تاريخ مصر.
وتتضمن الخطة التنفيذية للمشروع مرحلتين، الأولى تتضمن دراسة عينات جينية لأفراد أصحاء خلال خمس سنوات، فيما تتضمن المرحلة الثانية دراسة عينات جينية لأفراد يعانون من الأمراض الشائعة، لتحديد التتابع الجيني والمتغيرات الجينية المصرية التي تحدد قابلية الإصابة بالأمراض، وتوفير طرق علاج.
ويساهم هذا المشروع في وضع خارطة جينية للمصريين، والتي ستساعد بشكل كبير في تحسين الرعاية الصحية للمواطن من خلال تقليل الأمراض الوراثية، والأمراض المستعصية، بالإضافة إلى المساهمة في دخول مصر لمجال الطب الشخصي والذي يساعد في تحديد الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الفرد وطرق علاجها. ويساهم أيضًا في رسم خريطة وقائية لمواجهة الأوبئة غير المتوقعة.
المصادر
باحثة بالمرصد المصري