
لماذا كانت ثورة يوليو 1952 حتمية تاريخية؟
تفرض مناهج البحث العلمي المتعلقة بعلم التاريخ قواعد صارمة حيال عملية تناول الأحداث التاريخية، ومع ذلك فإن أغلب الأطروحات التي ظهرت في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بكتابة التاريخ عمومًا وحول ثورة 23 يوليو 1952 تحديدًا لم تكن سوى عقد مقارنات سطحية ما بين مزايا النظامين الملكي والجمهوري في مصر، أو الظن بأن تلخيص الكتب القديمة في كتاب جديد هو إعادة كتابة للتاريخ.
بينما تنص مناهج البحث العلمي لعلوم التاريخ على أنه لا يمكن تقييم حدث سياسي بأثر رجعي، وإنما عبر فهم البيئة السياسية والعامة المحيطة بالظروف التي أفرزت هذا الحدث حتى يمكن تقييمه في ميزان التاريخ.
ومع كل إيجابيات النظام الملكي المصري، ولكن فات على كل الأقلام التي حاولت ممارسة الكتابة السياسية والتاريخية أن النظام الملكي المصري قد انتهت صلاحيته عقب الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، وذلك بشهادة الملك فاروق نفسه، الذي راهن على انتصار المحور بقيادة المستشار الألماني أدولف هتلر على الحلفاء. وعقب استسلام ألمانيا في 7 مايو 1945 -وبحسب المؤرخ المصري محمد عودة في كتابه “كيف سقطت الملكية في مصر؟ فاروق بداية ونهاية”- فإن ما منع فاروق من التنحي مستشاروه الذين أخبروه صراحة أن الاسرة الملكية المصرية لا توجد بها شخصية أخرى تقدر على ملء العرش العلوي، وأن رحيله من السلطة يعني عمليًا انتهاء حكم أسرته.
هذا الحديث الذي جرى في قصر عابدين عام 1945 يوضح بجلاء أن أسرة محمد علي قد انتهت منذ منتصف الأربعينات؛ إذ سقطت كافة رهانات الملك الشاب، وحتى حينما رأى في القضية الفلسطينية مساحة للعب دور إقليمي، أتت هزيمة فلسطين 1948 لكي يفهم الشعب المصري أن التغيير لن يبدأ في فلسطين، ولكن في القاهرة.
وفى 25 يناير 1952 وقعت حادثة الإسماعيلية حينما استبسل أبطال الشرطة المصرية رفضًا لتسليم مقرات الشرطة لقوات الاحتلال، وفى اليوم التالي انتفض الشعب المصري في ثورة شعبية هادرة، واستغل أعداء الوطن هذا الحراك الشعبي ونشروا الفوضى عبر حريق القاهرة في 26 يناير 1952.
أُعلنت الأحكام العرفية وتعليق الدراسة بالمدارس والجامعات لأجل غير مسمى، وخرجت الصحف العالمية تتحدث عن حقيقة أن مصر على شفا حرب أهلية. بينما كتب المراقبون أن النظام المصري قد سقط، وأن مصر أمام أمرين لا ثالث لهما: نظام شيوعي موالٍ للاتحاد السوفيتي، أو نظام إخواني موالٍ للولايات المتحدة الأمريكية.
استقالت وزارة مصطفى النحاس الخامسة يوم 27 يناير 1952، وأفلس زعيم الأمة في تقديم الجديد بعد خمس وزارات. وعقب سقوط وزارة النحاس الخامسة، سقطت وزارة على ماهر الثالثة (27 يناير 1952 – 2 مارس 1952) بعد 35 يومًا فحسب. ثم سقطت وزارة أحمد نجيب الهلالي (2 مارس 1952 – 2 يوليو 1952) بعد 122 يومًا. وسقطت وزارة حسين سري الثالثة (2/22 يوليو 1952) بعد 22 يومًا فحسب.
أفلست النخبة المصرية في تقديم رجل دولة في هذا التوقيت الصعب، ولم يكن انهيار النخبة المصرية مفاجئًا، بل يعود إلى انهيار الأحزاب المصرية بدورها؛ إذ إن النخبة المصرية التي تشكلت على يد قادة وثوار ثورتي 1881 و1919 قد فشلت في إنتاج جيل ثانٍ داخل أحزابهم.
تفكك حزب الوفد عقب قبول مصطفي النحاس بفكرة تسميته رئيسًا للوزراء بطلب من الاحتلال البريطاني في واقعة 4 فبراير 1942، وهي الحادثة التي هزت شعبية النحاس بين المصريين، حتى أن السيدة صفية زغلول أرملة الزعيم سعد زغلول قد أغلقت دار زوجها بوجه النحاس وقالت إن زعيم الأمة لم يعد النحاس باشا ولاحقًا فتح “بيت الأمة” لصالح أحمد ماهر، الذي انشق مع زميله محمود فهمي النقراشي عن حزب الوفد وأسسا حزب الهيئة السعدية.
وفى وزارة النحاس الرابعة جرى الخلاف الشهير بينه وبين مكرم عبيد، فانشق الأخير مؤسسًا حزب الكتلة الوفدية، ورد النحاس باعتقال رفيق عمره، بينما الشعب المصري يراقب في دهشة صراع الأقطاب الوفدية بينما مصر تكافح للخروج من براثين الاحتلال البريطاني ومقاومة آثار الحرب العالمية الثانية.
وأتت رصاصات تنظيم الإخوان لكي تسقط أهم شباب ثورة 1919، رئيس الوزراء احمد ماهر ثم رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، وتقاعد مكرم عبيد عقب انتخابات 1950، وتفكك حزب الشعب وحزب الاتحاد بوفاة زعيم اليمين المصري إسماعيل صدقي، ووضع الاحتلال البريطاني خطًا أحمر أمام تولي الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين منصب رئيس الوزراء، واكتفى الزعيم التنويري بمنصب رئيس مجلس الشيوخ.
عمليًا، لم يكن هنالك سياسي مصري واحد قادر على تشكيل الوزارة المصرية عشية ثورة يوليو، ولم يكن هنالك فرد واحد في الأسرة الملكية قادر على تولي العرش عشية ثورة يوليو، ولم يكن هنالك حزب واحد في مصر قادر على الحصول على الأغلبية البرلمانية أو تشكيل الوزارة عشية ثورة يوليو.
ضجر الشعب المصري من النخبة التي تقاسمت منصب رئيس الوزراء طيلة ثلاثة عقود من الزمان، فلم يكن مطلوبًا أن يشكل النحاس وزارته السادسة، أو يشكل ماهر وزارته الرابعة، وعقب انتفاضة 26 يناير 1952 الشعبية تطلع المصريون إلى الجيش كما فعلوا في سنوات الزعيم أحمد عرابي.
إن هذا الاستدعاء التاريخي للقوات المسلحة ليس بالأمر الجديد بين الشعب المصري وجيشه، وجرى مرارًا قبل وبعد ثورة 23 يوليو 1952، وحينما تقدمت القوات المسلحة صفوف الحركة الوطنية ليلة 22 يوليو 1952، فإن الحتمية التاريخية والدور التاريخي للمؤسسة الوطنية الأم هي التي تحركت، حيث قدم الجيش المصري نخبة جديدة من شبابه للعمل الوطني بعد احتراق كافة أوراق النخبة المصرية والأسرة الملكية الحاكمة، وأيضًا الأحزاب المصرية والنظام الملكي البرلماني.
وبالتالي فإن ثورة 23 يوليو 1952 كانت حتمية تاريخية، ليس لعيوب في النظام الملكي، بل لأن النظام الملكي قد انهار عمليًا. ومصر لم تكن ذاهبة إلى حرب أهلية فحسب، بل إلى أمرين لا ثالث لهما: إما نظام شيوعي أو نظام إخواني، وكلاهما لم يكن يمت للحركة الوطنية والقومية المصرية بصلة في ذلك الوقت.
ان هذه الحقائق البسيطة تغيب بكل أسف عن العقول التي تصر كل سنة في ذكرى ثورة يوليو أو ذكرى ميلاد أو وفاة الزعيمين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات، في عقد مقارنات مطولة بين النظامين الملكي والجمهوري، وقد فات على كل هؤلاء أنه مهما رأوا في سنوات العصر الملكي من مزايا، فهي بدأت في الانهيار والأفول منذ عام 1945 وصولًا إلى بطولات الإسماعيلية في 25 يناير 1952 وانتفاضة 26 يناير 1952 التي انحاز لها الجيش المصري بثورة 23 يوليو 1952.
الحقيقة التاريخية بعيدًا عن الأهواء الشخصية والفردية أن النظام الملكي في مصر قد سقط من قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وأن الثورة لم تستبدل النظام الملكي بالنظام الجمهوري بل أنقذت مصر بالنظام الجمهوري. أم أن المروجين لإيجابيات التجربة الملكية كانوا يريدون للنظام الملكي أن يستمر، بدون ملك، بدون رئيس للوزراء، بدون دستور أو برلمان وفى ظل الأحكام الملكية، إلى حين تولي التطرف الشيوعي أو التطرف الإخواني لحكم مصر؟
باحث سياسي