دول المشرق العربي

لبنان الكبير ما بين الأيديولوجيات العربية والصهيونية والسورية

ظلت فكرة قيام جمهورية لبنان الكبير عام 1920 بمثابة صدمة في الوعي الجمعي لأيديولوجيات دول الجوار اللبناني، خصوصًا أن الفكرة ظلت ناجحة حتى أصابها فيروس الحرب الأهلية عام 1975، بل وحتى فكرة أن مشاكل لبنان قادمة من الخارج بما في ذلك أسباب قيام الحرب الأهلية هي فكرة تصبح في نهاية المطاف لصالح أن لبنان الكبير مشروع دولة ناجح شريطة أن يبتعد عنه التدخل الأجنبي.

ولقد حاولت الأيديولوجيات  المتصارعة على لبنان، سواء الصهيونية اليهودية أو القومية العربية وسوريا الكبرى أن يتم تلطيخ فكرة قيام لبنان الكبير بفكرة الطائفية، وأن لبنان الكبير ما هو إلا وطن قومي للموارنة، تلك الطائفة المسيحية الكاثوليكية، ورغم أن نسبة كبيرة من التحركات اللبنانية وحتى الفرنسية كانت تسعى بالفعل إلى فكرة أن لبنان هو وطن قومي للموارنة، إلا أن القراءة المتأنية للتاريخ خاصة مرحلة تأسيس لبنان يتضح أن الأمر كان أكبر وأبعد من فكرة أن كنيسة الموارنة قد أسست هذا البلد عبر وساطة فرنسية.

ما هو لبنان؟

لبنان هو اسم الجبل الذى يتكون منه محافظة “جبل لبنان”، ويطلق على جبل لبنان في أدبيات السياسية اللبنانية لقب “دولة لبنان الصغير”، أما حدود الجمهورية اللبنانية الحالية فيطلق عليها “دولة لبنان الكبير”، وتحاول بعض الأيدولوجيات  المتصارعة علي لبنان اليوم نسب فكرة لبنان الكبير إلى الانتداب الفرنسي وهذا غير صحيح، إذ عبر تاريخ جبل لبنان فإنه متى ظهر حاكم قوي في الجبل، كان ينزل بجيوشه إلى السهول المجاورة لكي يؤسس دولة لبنانية من طرابلس شمالاً إلى شمال فلسطين جنوبًا، بل وفى بعض الحالات كان لبنان الكبير يتوسع في أقاليم ما يعرف بالجمهورية العربية السورية اليوم.

وبالتالي فإن لبنان الكبير هو التاريخ، بينما لبنان الصغير هو الجغرافيا، لبنان الكبير هو السياسة والدولة، بينما لبنان الصغير هو الجبل، وذلك جرى منذ القرن السادس عشر على الأقل، وفى تاريخ حضارات الشام القديمة فإن هنالك إرهاصات تاريخية لفكرة لبنان الكبير أو الموسع أو الذى يتعدى حدود جبل لبنان، إذ أن تلك المنطقة من جنوب الأناضول – تركيا اليوم – مرورًا بسواحل سوريا وكامل لبنان وصولاً إلى سواحل شمال فلسطين كانت تسمى إمارات الفينيقيين التي وقعت تحت حماية الحضارة المصرية القديمة لسنوات طويلة.

هل أسس الموارنة إمارة جبل لبنان؟

المارونية هي كنيسة كاثوليكية شرقية سريانية، اسمها الرسمي هو “الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية”، وظهرت المارونية السياسية في القرن السادس الميلادي، والمارونية ليست جنسية كما الحال مع أي كنيسة في العالم، ونشأت في أرض ما يعرف اليوم بسوريا قبل الصعود إلى الجبال هروبًا من التوسع الإسلامي في القرن السابع ببلاد الشام، ولكن قبيل الحقبة الإسلامية كان الموارنة لهم وجود مجتمعي في حمص وحماة وسط سوريا وأنطاكية شمالًا وصولًا إلى منبج.

وعلى ضوء المشاحنات الطائفية، هاجر المسيحيون الشوام سواء المنتسبين إلى فلسطين أو سوريا أو لبنان إلى القارة الأمريكية عقب اكتشافها، خاصة مع مذابح 1860 ثم الحرب الأهلية عام 1975، ولنا أن نتخيل أن ثاني تجمع للموارنة بعد لبنان لا يقع في سوريا أو الأردن أو فلسطين بل في الأرجنتين بما لا يقل عن 750 ألف مواطن من أصول لبنانية، ثم البرازيل بــ 550 ألف نسمة ورابعهم الولايات المتحدة الأمريكية بــ 215 ألف نسمة، علمًا بأن هذه أرقام اللبنانيين الموارنة فحسب وليس عموم المواطنين ذوي الأصول اللبنانية فالأرقام أكبر من ذلك بكثير وكان السبب في هذه الهجرات دائمًا هو التوترات الطائفية والعرقية في الشام.

ومع ذلك فإن أول من أقام دولة في جبل لبنان لم يكن الموارنة بل سلاسة درزية، وبالطبع لم تكن دولة للدروز فحسب ولكن لسائر سكان جبل لبنان، ويعد الأمير الدرزي “فخر الدين المعني الثاني” هو مؤسس دولة لبنان الحديثة عام 1516 تحت الحماية العثمانية، وعقب تلك السلالة الدرزية تولت سلالة مارونية حكم الجبل. وفى الحالتين، لم ينظر للسلالة الحاكمة بوصفها تؤسس دولة طائفية بل دولة متعددة الطوائف، فالغرض كان دولة جبل لبنان وليس دولة دروز لبنان أو دولة موارنة لبنان. 

وهكذا فإن من أخرج فكرة دولة جبل لبنان أو لبنان الصغير إلى النور في العصر الحديث لم يكن الموارنة بل الدروز، ويمكن القول بعيدًا عن التصنيف الطائفي أن لبنان الصغير كان نتاج عموم جبل لبنان ذي الديناميكية التجارية والاقتصادية التي يصعب وضعها “تابعاً” لـ ولاية/إيالة عثمانية.

هل أسست فرنسا دولة لبنان؟

يجادل المعارضون لفكرة دولة لبنان الكبير بالقول إن دولة لبنان لم تكن موجود قبل الانتداب الفرنسي وهذا غير صحيح؛ إذ في سنوات الدولة العثمانية كان إقليم جبل لبنان هو ولاية منفصلة تحت عنوان “قائم مقاميتي جبل لبنان”، وحينما جرت مذابح عام 1860 قامت الدولة العثمانية بتأسيس “متصرفية جبل لبنان” وهى أشبه بجمهورية داخلية حتى أن بعض الأطراف الدولية اقترحت أن يكون اسمها جمهورية جبل لبنان لولا أن المسمى كان غير مستحب لدى حكام الأستانة.

الترتيبات التي جرت عام 1860 كانت في واقع الأمر إعلانًا لدولة لبنان، أو لبنان الصغير، وبالتالي فإن فكرة قيام دولة لبنانية قد أصبح أمرًا واقعًا منذ عام 1860 وليس عام 1920، وفكرة “لبنان الماروني” على وجه التحديد كانت فكرة عثمانية عام 1860 وليست فكرة فرنسية عام 1920، وجرى اتفاق على أن يتولى حكم متصرفية جبل لبنان سياسي عثماني مسيحي شريطة ألا يكون لبنانيًا أو من العرق التركي، وهكذا تناوب على حكم لبنان ساسة عثمانيون تعود أصولهم إلى حلب (سوريا) وإيطاليا وأرمينيا وألبانيا، إلى أن قررت الدولة العثمانية عام 1915 احتلال الجبل أثناء معارك الحرب العالمية الأولى.

وشارك العديد من أبناء لبنان من أغلب طوائفه في الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، وانتهى الوجود العثماني في سوريا ولبنان عام 1918، وقام الأمير الحجازي فيصل بن الحسين بتعيين السوري شكري الأيوبي حاكمًا على دمشق وبيروت والساحل اللبناني في أكتوبر 1918 ولكن ما هي إلا بضعة أيام ووصل الفرنسيون إلى لبنان وقاموا بخلع الأيوبي.

لم يدم حكم شكري الأيوبي للبنان إلا بضعة أيام ما بين 7/19 أكتوبر 1918 باسم المملكة العربية السورية، وقام خلالها بتعيين حبيب السعد رئيسًا للحكومة التي أسقطها الفرنسيون، وللمفارقة فإن السعد أصبح لاحقًا ثاني رئيس للجمهورية اللبنانية.

هكذا كان لبنان دولة موجودة ذات شكل جمهوري مستقل، في زمن الدولة العثمانية ثم المملكة العربية السورية إلى حين مجيء الانتداب الفرنسي عام 1918، وما جرى في سنوات الانتداب الفرنسي لم يكن تأسيس دولة بل رسم حدودها. ولكن لماذا طالب وجهاء لبنان من الانتداب الفرنسي الانحياز لجغرافيا لبنان الكبير وليس الصغير؟

مفاتيح فهم السياسة اللبنانية

تقوم مفاتيح فهم لبنان منذ فجر التاريخ على أمرين لا ثالث لهما، الأول، التخوف من هيمنة الجوار، والثاني، أن كل ما يجري في لبنان باسم الدين والطائفة هو في واقع الأمر مصالح اقتصادية ومجتمع إقطاعي يرتدي العباءة الطائفية ويتدثر بالعباءة الدينية.

وفى حالة قيام لبنان الكبير عام 1920، فإنه يجب أن نفهم مخاوف الموارنة وكافة المسيحيين في عموم الولايات العثمانية من إرث الاضطهاد الضخم الذى جرى للمسيحيين، خصوصًا أن دماء الأرمن والسريان والأشوريين لم تكن قد جفت بعد حينما جرت المذابح العثمانية بحقهم خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، بل إن كافة موارنة لبنان وقتذاك كانوا يتذكرون مذابح 1860 ولا توجد أسرة مارونية وقتذاك إلا وكان لها شهيد أو مصاب في هذه المذابح البشعة. وبالتالي فإن مسيحيي الشرق عمومًا والموارنة على وجه التحديد كانت لديهم فوبيا مرعبة اسمها قيام خلافة إسلامية أو مملكة عربية أو دولة سورية تقوم بحكمهم تحت مسميات الأغلبية الإسلامية.

إن هذه المخاوف المشروعة كانت دائمًا سبب رعب موارنة لبنان من الهيمنة الإسلامية أو العربية أو السورية على لبنان، لأن تاريخ الجبل مليء بدماء الموارنة على يد ما عرف باسم الخلافة الإسلامية، وعلى ضوء اتصال المسلمين والدروز في الجبل وعموم الشام ببعض الحكومات العربية والإسلامية ومن قبلها الدولة العثمانية فإن هذا الاتصال فتح الباب أمام الموارنة لفعل المثل والاتصال بالحكومات الغربية خاصة فرنسا.

بل إن الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين قد تواصلوا مع إنجلترا، وكذا أهل السنة في الحجاز والشام سواء سوريا ولبنان، ومن قبل تلك المرحلة فإن كافة طوائف وقوميات تلك المناطق كانت على اتصال بألمانيا، وبالتالي فإن فكرة إدانة فصيل واحد على اتصالاته الدولية واعتبار باقي الفصائل لم تتخذ الإجراء ذاته أو اتخذت الإجراء ذاته لأسباب وطنية بينما يتم تخوين الموارنة على نفس الإجراء فهو قراءة مخلة لتاريخ لبنان. وتقرر توسيع متصرفية جبل لبنان لتضم ولاية بيروت، وطرابلس، والبقاع وعكار، والجنوب، فأُعلن قيام دولة لبنان الكبير في 1 سبتمبر 1960 ثم اعلان قيام الجمهورية في 23 مايو 1926.

ولكن لماذا تم التوسع وضم مناطق بها أغلبية مسلمة؟ الإجابة عن ذلك تعود إلى بطريرك الموارنة الثاني والسبعين، مار إلياس بطرس الحويك (1843 – 1931)، إلياس الحويك تعرض للإذلال على يد السلطان العثماني، كما عاصر شابًا مذابح العام 1860، وإلى جانب المجاعة والأوبئة التي ضربت الجبل في سنوات الحرب العالمية الأولى، فإن الحويك رأى أنه يجب تأسيس دولة ذات اكتفاء ذاتي من الموارد، إضافة إلى أمجاد حلم الإمارة القديمة بحدودها الكبرى، وأن لبنان بحاجة إلى ميناء حيوي مثل طرابلس بجانب بيروت، وإلى حدود آمنة في الجنوب أبعد من حدود الجبل.

هنا نجد أن البطريرك الحويك لم يفكر كرجل دين، بل رجل دولة، يؤسس دولة المواطنة وليس دولة الطائفة؛ إذ أن دولة الطائفة لم تكن لتفكر إلا في متصرفية جبل لبنان وولاية بيروت فحسب، ولكن الرجل رسم حدود دولة لبنان الكبير وفقًا لتاريخ هذا المصطلح من جهة ومن جهة أخرى وفقًا لاحتياجات دولة مدنية قابلة للبقاء وليس دولة صغيرة مثل متصرفية لبنان مضافًا إليها ولاية بيروت كما رغب الفرنسيون.

للمفارقة فإن العديد من الأصوات المارونية عارضت البطريرك، إذ كانت الأعين على الدولة الدينية وليست الدولة المدنية، بينما أراد البطريرك لبنان الكبير وليس لبنان الماروني. وللمفارقة أيضًا فإن سلطات الانتداب الفرنسي ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو بدوره رأى أن هذا الاقتراح سوف ينتج دولة غير قابلة للحياة، وذهبت أصوات بعض ساسة باريس أن جمهورية لبنان سوف تتعرض لتقسيم ثان مستقبلًا.

هل كانت فرنسا عنصرية في إعلان لبنان الكبير؟

بعض الأصوات تذهب إلى أن باريس وقفت بجانب الموارنة لأسباب دينية وعنصرية على أساس الوحدة الدينية بين الموارنة ذو المذهب الكاثوليكي وكذا فرنسا ذات الكنيسة الكاثوليكية، وهذه القراءة تتجاهل كيفية معالجة فرنسا للملف السوري.

ففرنسا حينما قامت بإعلان دولة لبنان الكبير، قد قامت أيضًا بإعلان “جمهورية حلب” و”جمهورية دمشق” و”جمهورية العلويين” و”جمهورية الدروز” إضافة إلى “جمهورية الإسكندرونة”، وبالتالي فإن فرنسا لم تنحز للموارنة لأسباب دينية ولكن كانت المعالجة الفرنسية لسوريا ولبنان قائمة على لعبة فرق تسد، إذ لم تقسم سوريا إلى سنة ودروز وعلويين بل يلاحظ أنها قسمت مناطق السنة إلى دولتين هما دمشق وحلب، ما يعني أن اللعبة كانت سياسية خالصة وإن كانت تحاول انتحال هوية الدين والعرق.

كانت رؤية فرنسا أن تقسيم الشام سوف يسهل ممارسة لعبة فرق تسد وتبادل الأدوار وتوزيع المهام، وكان لبنان الكبير بالنسبة لفرنسا مجرد منطقة عازلة بين فلسطين البريطانية وسوريا الفرنسية حتى لا يسهل على البريطانيين أو من والاهم في فلسطين أن يتدخل في الشام الفرنسي.

وللمفارقة فإن فلسطين اليهودية أو الصهيونية وقتها –خلال عشرينات القرن العشرين– لم تكن بالنسبة لبريطانيا أكثر من منطقة عازلة بين الشام الفرنسي وإقليم قناة السويس المصري وفقا للمصطلحات البريطانية – الفرنسية، إذ كانت لندن تدرك أن باريس تود الوصول إلى مياه الشركة الفرنسية في السويس، وبالتالي فإن الوجه الحقيقي لدعم بريطانيا لفكرة صناعة وطن قومي لليهود في فلسطين وإسداء وعد بلفور كان إقامة دولة عازلة بين الشام الفرنسي والسيطرة البريطانية على مصر. وكان الدين مجرد خطاب إعلامي ودعائي مسيس بينما كانت الأجندات استعمارية وسياسية وعسكرية واقتصادية خالصة.

وللمفارقة فإن الحركة الصهيونية خلال الفترة ما بين عامي 1918 حينما خرجت الدولة العثمانية من الشام وعام 1920 حينما قدم آرثر بلفور وعده التاريخي، قد حاولوا إدراج جنوب لبنان في شمال فلسطين واعتبار جنوب لبنان جزءًا من فلسطين حيث نظر قادة الحركة الصهيونية إلى نهر الليطاني باعتباره الحل الأمثل لندرة المياه في فلسطين، وهو الاقتراح الذي رفضته كل من فرنسا وبريطانيا، لأنه يخل باللعبة الجيوسياسية الخاصة بالدول العازلة ما بين الشام الفرنسي ووادي النيل البريطاني وفقًا للمصطلحات الفرنسية – البريطانية وقتذاك.

وكان مؤتمر السلام في باريس 1919 حاسمًا حيث خسرت الحركة الصهيونية إقليم جنوب لبنان لصالح فرنسا، علمًا بأن جنوب لبنان الحالي وشمال فلسطين الحالية كانا عبر قرون بمثابة إقليم موحد بلا حدود جغرافية فاصلة.

بدء الصراع الإقليمي حول لبنان

يمكن القول إن براعة وجهاء لبنان من المسلمين والمسيحيين في تشكيل هذا البلد والضغط على فرنسا لإقامة لبنان الكبير قد جعلت لبنان مطمعًا للدول الناشئة حديثًا من حوله، إذ قامت الثورة السورية الكبرى عام 1925 وقامت بتوحيد الجمهوريات السورية إلى ما نعرفه اليوم بالجمهورية السورية، وتساءلت بعض الأصوات في خفوت: اذا كنا قد نجحنا في توحيد جمهوريات حلب ودمشق والعلويين والدروز فلما لا نضم جمهورية لبنان أيضًا؟

وهكذا بدأت أيدولوجيا “سوريا الكبرى” تطل على المشهد الشامي خاصة بين زعماء طرابلس، بينما كانت فكرة القومية العربية حاضرة في فكر المملكة العراقية الهاشمية وإمارة شرق الأردن، وكان المفكر الفلسطيني الماروني بطرس البستاني من أبرز منظري فكرة القومية العربية في هذه الحقبة، في إشارة إلى انخراط الموارنة في أفكار الدولة المدنية بعيدًا عن فكرة الدولة الدينية أو “المارونية السياسية”.

بل وللمفارقة فإن وجهاء لبنان ورغم الانفتاح على الحركة الصهيونية واليهود اللاجئين في فلسطين إلا أنهم تخوفوا أيضًا من المطامع اليهودية والصهيونية، وهكذا فإن المخاوف التاريخية للشعب اللبناني خاصة الموارنة قد تجددت على ضوء محاولات إقامة سوريا الكبرى أو المملكة العربية وأخيرًا الخطر أو الوافد الجديد .. يهود الحركة الصهيونية في فلسطين.

لماذا اهتمت الحركة الصهيونية بلبنان؟

كان مفهومًا لماذا يسعى أتباع أيديولوجيا سوريا الكبرى، التي تحولت لاحقًا إلى القومية السورية ثم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، إلى السيطرة على لبنان، أو لماذا حاول تيار القومية العربية فرض هذه الأيديولوجيا على لبنان في أوج انتشار هذا التيار في الفترة ما بين الأربعينات إلى سبعينات القرن العشرين، فإن اهتمام الحركة الصهيونية بلبنان كان له بنك أهداف أكثر تعقيدًا.

والحاصل أن تحركات الحركة الصهيونية من أجل إقامة ما أسمته وطنًا قوميًا لليهود في فلسطين لم تكن بالسهولة واليسر التي يظنها أبناء العالم العربي أو الإسلامي، إذ لم تكن كافة دوائر الغرب وحكوماته راضية عن هذا المشروع الذى نُظر إليه بوصفه مشروعًا بريطانيًا في المقام الأول.

لذا وجدت الحركة الصهيونية أن التحرك بشكل منفرد يكشف أهدافها، لذا سعت إلى تزكية فكرة أن الشرق الأوسط بحاجة إلى دولة للدروز وثانية للكرد وثالثة للموارنة ورابعة للسريان وخامسة للأقباط لو أمكن، وإن فسيفساء الأقليات كما أطلق عليه الاستعمار الغربي وقتذاك بحاجة إلى دويلات تحميه.

وذهبت الديباجات الصهيونية بالقول إن الشام يجب أن يقسم إلى سوريا المسلمة ولبنان المسيحي وفلسطين اليهودية، وهكذا فإن نجاح فكرة “لبنان الماروني” كان في واقع الأمر يتفق مع رؤية الصهاينة في الترويج إلى أن الشرق الأوسط بحاجة إلى دولة للمسيحيين ودولة ثانية لليهود.

وفى مطلع القرن العشرين، كانت فكرة “الوطن القومي لليهود” و”الحركة الصهيونية” أفكارًا مبهمة للعالم العربي، فلم يكن هنالك تقدير لخطورة هذه الأفكار وأنها قادرة فعلًا على سلخ فلسطين من المحيط العربي، وكان ينظر إلى قادة الحركات الصهيونية بوصفهم تيارًا سياسيًا في الشرق الأوسط من الممكن الجلوس معه والاتفاق معه على بعض الأهداف السياسية، خاصة في ظل استيطان هؤلاء الأجانب لفلسطين. وقد تحركوا في بادئ الأمر باعتبارهم يحملون الجنسية الفلسطينية وأنهم من يهود فلسطين، ونظرًا لأن الشعوب والجالية العثمانية لم تكن عربية بدورها وكانت السلطات العثمانية وقتذاك تسمح للأوروبيين بالإقامة في الدول العثمانية والتجنس بالجنسية العثمانية فإن فكرة وجود أجانب في فلسطين يتجنسون بالجنسية الفلسطينية لم يكن إجراءً غريبًا أو خارجًا عن المألوف في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولي وتفكيك الدولة العثمانية.

ولقد استقبل حكام وملوك وأمراء مصر وسوريا والعراق ولبنان في سنوات ما قبل حرب فلسطين 1948 قادة وممثلين الحركات الصهيونية بشكل علني من أجل التباحث في قضايا الشرق الأوسط بشكل يتعارض كليًا مع التحريم الرهيب الذى جرى جراء تلك اللقاءات بعد حرب 1948 إلى أن كسر الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات هذا الحاجز عام 1977.

هذا بجانب أن تعريف مصطلح فلسطين جغرافيًا أيضًا كان مبهمًا، ولعل جغرافيا فلسطين الحالية، كما الحال مع جغرافيا كافة دول الشام والخليج العربي هي من منتجات مؤتمرات الصلح عقب الحرب العالمية الأولي، ففي هذه المؤتمرات تم رسم الحدود التي كان يمكن أن تجعل جنوب لبنان كاملًا تحت علم فلسطين لولا رفض فرنسا وبريطانيا لهذا المقترح الصهيوني.

والخلط بين “اليهود” و”الصهيونية” كان موجودًا في هذه الأزمنة بشدة، فكان هنالك امتنان لدى موارنة جبل لبنان لجهود الإغاثة التي قام بها يهود فرنسا وبريطانيا أثناء مذابح عام 1860، وتحديدًا السير البريطاني اليهودي موسى مونتفيوري، ورجل الأعمال الفرنسي اليهودي أدولف كريمو، وكيف أنهم كانوا من مهندسي التدخل الفرنسي في الجبل من أجل وقف هذه المذابح وتاليًا المشاركة في جهود الاعمار.

ورغم أن كلًا من كريمو ومونتفيوري قد تحركا لأسباب سياسية وليس دينية في زمن لم تكن الحركة الصهيونية قد ظهرت بعد، إلا أن ذلك الأثر الطيب الذى تركاه في نفوس النخب المارونية في الجبل وبيروت قد ظل باقيًا حتى إعلان الدولة عام 1920، وبدأت فكرة التطلع إلى مخاطبة “الجيران” في فلسطين لمزيد من التعاون أمرًا عاديًا دون إدانة من أي طرف مسلم أو مسيحي أو غير ذلك سواء داخل لبنان أو خارجها.

التيارات السياسية المارونية عشية التأسيس

في ضوء مخاوف الموارنة التاريخية من المذابح المتتالية، خرج من النخب المارونية تيار يرى أن هنالك أجندة مشتركة بين لبنان وإسرائيل، كان ذلك في عشرينات القرن العشرين، حيث ينظر هؤلاء إلى أن الشتات اليهودي يقابله شتات ماروني، وأن مذابح اليهود في أوروبا يقابلها مذابح الأرمن والموارنة والسريان والآشوريين في الشرق الأوسط.

التخوف الماروني أنتج فكرًا يمينيًا لا يعبر عن عموم الموارنة ولكنه فكر من تيارات فكرية عديدة ظهرت ما بين “المارونية السياسية” داخل لبنان وقتذاك، هذا الفكر يرى أن الموارنة جزء من الثقافة الغربية وليس الشرقية، وأن للموارنة تفوق حضاري عن محيطهم العربي والإسلامي.

هذا اليمين الماروني أول من صدح به سياسيًا كان إميل أده، السياسي اللبناني الذى كان يتحدث الفرنسية بطلاقة ونادرًا ما كان يتحدث باللغة العربية سواء في العمل السياسي أو حياته الخاصة، وفى المقابل ظهر يمين ماروني آخر بقيادة بيير الجميل مؤسس حزب الكتائب يرفض فكرة العمل مع الحركات الصهيونية وفرنسا، وتاليًا ظهر تيار ماروني ثالث مؤسسه بشارة الخوري يرى أن القومية اللبنانية تحت مسمى القومية العربية هي الأفضل من أجل لبنان لا يتم توظيفه في الاستراتيجيات الاستعمارية الفرنسية واليهودية الصهيونية.

فتش عن الاقتصاد

رغم هذه الأوعية الأيديولوجية البراقة، إلا أن مفتاح فهم تاريخ لبنان يكمن في الاقتصاد ومصالح الطبقة البرجوازية والإقطاع العائلي؛ إذ إن العثمانيين انسحبوا من لبنان مدمرًا اقتصاديًا، وعقب الحرب العالمية الأولى قام شيعة جنوب لبنان بطرد الموارنة من بيوتهم ومطاردتهم، ولكن التبرعات الصهيونية القادمة من الحركات الصهيونية في فلسطين هي التي أعادت الموارنة إلى بيوتهم في الجنوب اللبناني المتاخم لفلسطين.

وكان منطقيًا بعد ذلك أنه حينما قامت الثورة السورية عام 1925، أن تقوم السلطات الفرنسية بتسليح موارنة الجنوب ضد أي تطور يقوم به شيعة الجنوب للتضامن مع الثورة السورية، حيث رحب الموارنة بهذا التطور على ضوء ما لاقوه من معاناة واضطهاد على يد شيعة الجنوب عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى. 

وهكذا فإن المال الصهيوني الوفير في وقت الأزمة الاقتصادية اللبنانية ثم العالمية أواخر عشرينات القرن العشرين قد فتح بابًا أمام استثمارات صهيونية رسمية وعلنية في لبنان منذ اليوم الأول لإعلام قيام لبنان الكبير وحتى الأربعينات حينما بدأ الوعي الجمعي العربي يقاطع الحركات الصهيونية سياسيًا واقتصاديًا بعد تفهم مقاصد هذه الحركة.

على سبيل المثال فإن إميل إدة مؤسس ورئيس حزب الكتلة الوطنية، رئيس لبنان (1936 – 1941) و11 يومًا فحسب عام 1943، رئيس الوزراء (1929 – 1930) ورئيس مجلس النواب (1924 – 1925) كان يرى أن فكرة لبنان الكبير خطأ كبير أضر بالموارنة، وأن الجنوب الشيعي كان فقيرًا للغاية ويجب التخلص منه، بل واتفق مع المندوب السامي الفرنسي عام 1926 أنه يجب تسليم عكار وطرابلس إلى أقرب جمهورية سورية يتم الاتفاق عليها، وأن لبنان يجب ألا يكون “جبل لبنان” وولاية “بيروت” فحسب، وأن القومية اللبنانية هي القومية الفينيقية فحسب.

المال الوفير في المستعمرات الصهيونية في فلسطين جعل المندوب السامي الفرنسي إلى سوريا ولبنان هنري دو جوفنيل يقترح تأسيس مستوطنات يهودية في حمص وحلب ودمشق عام 1926، من أجل تقوية اقتصاد الولايات السورية الثلاث، وأيضًا بهدف فرق تسد، إذ كانت الثورة السورية مشتعلة وكانت فكرة زرع نواة دولة يهودية في سوريا بجانب جمهوريات الدروز والعلويين ودمشق هي فكرة تلاقي استجابة في باريس، ولكن الحركات الصهيونية كانت ترى أن التوسع خارج فلسطين يمثل فخًا وإنه يجب التمكين أولاً في فلسطين قبل التفكير في تأسيس مستوطنات خارج ما اسموه “ارض الميعاد”.

وأمام هذا المال الصهيوني الوفير ظهرت شبكات من المحتالين والنصابين، سواء بشكل تجاري خالص أو ممن دمج السياسة بالاحتيال، مثل شارل قرم ونجيب صفير الذين روجوا لتحالف اقتصادي ماروني صهيوني يحكم لبنان وفلسطين، بل إن صفير تجرأ ووقّع اتفاقًا مع الحركة الصهيونية عام 1920 مدعيًا أنه ممثل من الكنيسة المارونية، ووقع أن الكنيسة تقبل بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود مقابل اعتراف الحركة الصهيونية باعتبار لبنان وطن قومي للموارنة!

إن وثائق الانتداب الفرنسي والحركة الصهيونية على حد سواء تمتلئ بالاستخفاف والإهانة لكلا الشخصيتين، وكيف أنهم كانوا نصابين يختفون كل فترة ثم يعودون بمشاريع فاشلة من أجل حصد أموال الحركة الصهيونية، وكيف وظف الصهاينة تلك الرغبات الجشعة لخدمة مشروع إقامة دولة إسرائيل.

ولم يقتصر الأمر على كرم وصفير، إذ إن سماسرة لبنان، مسلمين ومسيحيين، قد تسابقوا على عرض بيوتهم للبيع بأسعار مغرية إلى سماسرة الوكالة اليهودية في فلسطين، وحينما ظهرت مقاومة من أهل فلسطين لبيع البيوت والأراضي إلى الوكالة اليهودية، أنشأ سماسرة لبنان حركة تجارية كاملة قائمة على الوساطة والسمسرة، أي شراء الأراضي والبيوت من أهل فلسطين بوصفهم عربًا ولبنانيين، ثم بيعها إلى المستوطنات الصهيونية.

ويتضح هنا أن الكثير من الأفعال التي يحاول البعض نسبها إلى الموارنة أو أرثوذكس لبنان كانت في واقع الأمر “طقسًا لبنانيًا” بعيدًا عن الدين ولكن كان طقسًا تجاريًا واقتصاديًا خالصًا، مفاده عدم تقدير أغلب شعوب الشرق الأوسط لمدى خطورة ما تقوم به الحركة الصهيونية في فلسطين ومدى انعكاسات ذلك على الأمن القومي بعد ذلك.

وفى المقابل أنعش الصهاينة الاقتصاد اللبناني بحركة سياحية لا تهدأ، انطلاقًا من القدس وتل أبيب وحيفا إلى المنتجعات الفاخرة في عموم لبنان، حيث كانت حركة سيارات الأجرة ذهابًا وعودة لا تهدأ، حتى أن فنادق لبنان ومنتجعاتها قد عينت طهاة لديهم خبرة بالطعام اللائق بالشريعة والصيام اليهودي، وراحت الوفود العلمية تتبادل بين الجامعة العبرية في القدس والجامعة الأمريكية في بيروت، وتزاحمت المؤتمرات العلمية والزراعية والطبية في لبنان طيلة الثلاثينات بالوفود الصهيونية.

وحينما نجحت تجارة السمسرة اللبنانية في الأراضي الفلسطينية، انتشرت تجارة بيع البيوت في عموم سوريا ولبنان إلى الوكالات اليهودية والصهيونية في فلسطين، وذلك من أجل الانتقال إلى بيوت فاخرة في بيروت ودمشق، أو تأمين المبالغ اللازمة للهجرة إلى القارة الأمريكية.

وقد استدعي الأمر أن تعقد المنظمات الصهيونية في فلسطين اجتماع وصف بالتاريخي، من أجل اصدار قرار بوقف شراء المنازل في سوريا ولبنان والتركيز على شراء العقارات والأصول والأراضي في فلسطين فحسب.

ومع ذلك فإن البرجوازية المارونية في لبنان كانت تنظر إلى الرأسمالية الصهيونية المتدفقة على لبنان بوصفها خطرًا اقتصاديًا وسياسيًا، وأن الحركة الصهيونية خطر على لبنان بنفس خطورة أفكار القومية العربية ووحدة سوريا الكبرى، وهكذا وبينما هنالك تعاون لبناني صهيوني ضخم في الملف الاقتصادي فإن هنالك تيار آخر لبناني عماده الموارنة والارثوذكس تخوفوا من فكرة الهيمنة اليهودية على اقتصاد لبنان ومقدراته وسعوا إلى فرملة هذه الاستثمارات.

لبنان في زمن الصعود النازي

ربما تجهل الأجيال الجديدة أن تخوف اليهود من صعود حزب العمال الاشتراكي في ألمانيا بقيادة أدولف هتلر قد بدأ منذ اليوم الأول لانتخابه مستشارًا للدولة الألمانية عام 1933؛ إذ إن خطاباته والتطرف النازي في أفعال رجالات حزبه كانت واضحة قبيل الانتخابات، ولقد سارعت الحركات الصهيونية إلى التباحث مع قوى دولية من أجل فكرة تهجير يهود ألمانيا إلى الشرق الأوسط لاستباق الإرهاب النازي المحتمل.

ولقد تحمست البرجوازيات الفلسطينية واللبنانية والسورية لهذه الفكرة فور طرحها في الصالونات السياسية والثقافية، وعرضت منازل وفيلات ساحل المتوسط بطول فلسطين ولبنان وسوريا للبيع بأسعار باهظة، وكان مقصد ذلك أن يهود ألمانيا ينتمون إلى الطبقات الرأسمالية الكبرى وأن الرأسمالية الألمانية سوف توفد إلى الساحل الشامي أعتى رجالاتها. وبالمثل نظرت الحركة الصهيونية إلى الرساميل اليهودية الألمانية بوصفها كنزًا يلوح في الأفق، وأن يهود ألمانيا المثقفين والمتحضرين سوف يصبحون دفعة كبرى للدولة اليهودية المزمع إقامتها.

وسارع إميل إدة بتقديم اقتراح للوكالة اليهودية بتوطين 100 ألف يهودي ألماني في صور وصيدا، من أجل التخلص من الأغلبية الديموجرافية المسلمة في هذه المناطق، فكانت فكرة إدة هي استدعاء الديموجرافية اليهودية لهزيمة التفوق الديموجرافي المسلم.

شارل قرم ونجيب صفير عرضوا فيلات على طول الساحل اللبناني للإيجار بأسعار أثارت دهشة الوكالة اليهودية في فلسطين، وجرت مقترحات من البرجوازية اللبنانية بأن يتم توطين يهود ألمانيا في سهل البقاع وتحويلها إلى منطقة صناعية وزراعية كبرى للبنان.

ولكن الثورة الفلسطينية الكبرى قامت عام 1936، وسارع التجار والبرجوازيون اللبنانيون إلى التوقف عن تقديم عروضهم، خوفًا من فكرة نجاح الثورة الفلسطينية في إلغاء مشروع قيام دولة اليهود في فلسطين وأن يؤدى وجود اليهود في لبنان إلى انتقال مشروع الوطن القومي لليهود من فلسطين إلى لبنان، كما أن السلطات الفرنسية تخوفت من انتشار جواسيس بريطانيا من يهود ألمانيا حال توطينهم ونشرهم في الداخل السوري واللبناني.

الحركة الصهيونية ويهود لبنان

الملاحظ هنا أن الحركات الصهيونية في فلسطين لم تفكر في التواصل مع يهود لبنان، أو استغلالهم؛ إذ كان الغرض من التعامل مع لبنان هو إنتاج دولة مسيحية بلا يهود أو مسلمين، رغم أن يهود لبنان قد استقبلوا الهاربين من جحيم أوروبا وروسيا وهربوهم إلى فلسطين في السنوات الأولى من القرن العشرين وقبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى، بل وتبرع يهود لبنان بالمال مرارًا إلى الدوائر الصهيونية في فلسطين، ولكن ما إن استقرت الوكالة اليهودية في فلسطين حتى تم تجاهل يهود لبنان.

وأثناء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939) تخوفت بعض الدوائر اللبنانية من بطش المتطرفين بالحي اليهودي في بيروت، ولم تفكر الدوائر الصهيونية في فلسطين في التحرك، ولكن الزعيم الماروني بيير الجميل رئيس حزب الكتائب هو الذى نشر كتائبه حول الحي بل وقبل بانخراط يهود لبنان في كتائب حزبه من أجل حماية يهود لبنان من أي تطاول يمكن أن يقوم به الشباب الفلسطيني الموجود في لبنان.

لبنان في زمن الشام النازي

مع تصاعد معارك الثورة الفلسطينية (1936 – 1939) تم نفي مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني إلى لبنان، حيث تحول المنفى اللبناني للمفتي إلى مقر قيادة الثورة، وللمفارقة فإن اللبنانيين مسيحيين ومسلمين تعاطفوا مع الثورة الفلسطينية وكانت الحدود الجنوبية ممرات مفتوحة على مدار الساعة لتهريب المساعدات والمال بل والسلاح أيضًا، في مشهد ضرب محاولات الأيدولوجيات  الصهيونية والغربية لتحييد لبنان في مقتل، وأوضح بجلاء أن أي تعاون لبناني مع التواجد الصهيوني في فلسطين هو تعاون اقتصادي وتجاري بحت لمجتمع ذو طبيعة تجارية ولكنه ليس تعاون مبني على أسس عقائدية أو أيدولوجية على الاطلاق.

وبحلول صيف عام 1938 بدأت دعوات مقاطعة السياحة الصهيونية ترج لبنان وصحافته، وكان البديل هو السياحة القادمة من مصر والعراق، وللمفارقة فإن الرئيس إميل إدة الذى أبدى تعاطفًا حثيثًا مع الحركة الصهيونية كان أول المرحبين بالسياحة المصرية والعراقية بل وأقام المآدب الرئاسية لكبار ضيوف بيروت من مصر والعراق، ما يوضح بجلاء أنه حتى الرئيس اللبناني العتيد الذي أبدى تجاوبًا مع الأفكار الصهيونية كان لديه استعداد لنبذها إذا ما توفر عامل تجاري لصالح اقتصاد لبنان، ما يعضد ما ذهبنا إليه أن الأصل في لبنان هو الاقتصاد والتجارة وليس الدين أو السياسة.

عوضت السياحة العربية غياب السياحة الصهيونية، ومع بدء الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 أعلنت فرنسا حالة الطوارئ وحلت البرلمان اللبناني وقلصت صلاحيات الرئيس إدة لدرجة أن رئيس الجمهورية اللبنانية كان يعمل من المنزل. ومع الاحتلال الألماني لفرنسا في 14 يونيو 1940، قامت حكومة فيشي ببسط سيطرة ألمانيا النازية على سوريا ولبنان، وأصبح الانتداب الفرنسي في واقع الأمر احتلالًا ألمانيًا، فقدم الرئيس إدة استقالته وقامت برلين بتعيين الفريد نقاش رئيسًا للبنان.

تخوفت بريطانيا من قيام ألمانيا بإنزال عسكري عبر سواحل لبنان المطلة على البحر المتوسط، ومن ثم يبدأ الجيش الألماني في الزحف على فلسطين البريطانية وصولًا إلى قناة السويس المصرية، كما سرت حالة من التعاطف مع المحور في لبنان، خصوصًا حينما استخدمت روما العامل الديني الكاثوليكي بين مسيحيو لبنان.

وفى 8 يونيو 1941 بدأت عملية الحلفاء بقيادة بريطانيا من أجل تحرير لبنان وسوريا من النفوذ الألماني وإعادة احتلال الشام، وبعد 34 يومًا تحقق الأمر، ووصل الجنرال شارل ديجول والجنرال جورج كاترو إلى بيروت، ولكن الحقيقة أن بريطانيا وليس فرنسا هي التي سيطرت على الشام عقب جلاء الألمان.

الميثاق الوطني ينتج لبنان الذى يستحقه أهله

في أوائل الاربعينات، ومع معارك الحرب العالمية الثانية، جرت مراجعات فكرية في العالم العربي، كل دولة ومجتمع على حدة، لإعادة تعريف كل شيء تقريبًا، الهوية والقومية والدولة الوطنية والمصير المشترك.

وفى تلك الفترة فإن فكرة “لبنان الماروني” أو “لبنان المسيحي” بدأت تتراجع في نفوس أغلب المتحمسين للفكرة في لبنان، إذ إن الحقيقة أن لبنان لم يكن يومًا الوطن القومي للموارنة أو مسيحيي الشام، بل كان دائمًا فسيفساء متحضرة، بكل المشاحنات التي جرت، ولكن ظل لبنان للجميع، يعيش فيه الجميع في سلام ويتبادلون التجارة والحياة والعلاقات الاجتماعية.

في هذه اللحظة التاريخية برزت أفكار الزعيم بشارة الخوري، الذي كان ينظر إلى فكرة القومية العربية بوصفها مرادفًا للقومية اللبنانية، بل يمكن القول إن عروبة بشارة الخوري في واقع الأمر هي تعريف مبسط لفكرة القومية اللبنانية، وإنها كانت عروبة مختلفة عن فكر القومية العربية الذي ظهر في القرن التاسع عشر، والموجة التالية على يد الثورة العربية الكبرى، والموجة اللاحقة التي ظهرت في الخمسينات على يد الزعيم جمال عبد الناصر، إذ كانت فكرة العروبة في أدبيات بشارة الخوري هي ذاتها فكرة القومية اللبنانية.

وتلاقت أفكار بشارة الخوري مع الزعيم رياض الصلح، والحاصل أن لبنان عقب تأسيسه عام 1920 لم يكن يعطي للمسلمين أو المسلمين السنة منصب رئيس الوزراء كما يجرى حاليًا، بل كان منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وحتى رئيس مجلس النواب بدون محاصصة طائفية علنية ولكن الرئاسات الثلاث كانت بيد المسيحيين عمومًا والموارنة على وجه التحديد، وحينما تولى رياض الصلح رئاسة وزراء لبنان بدأ ينسج مع بشارة الخوري فكرة الميثاق الوطني لتحديد هوية لبنان بشكل نهائي بعيدًا عن الصراع الأيديولوجي على لبنان بين أفكار الوحدة العربية أو السورية أو الصهيونية.

والحاصل أن أول انتخابات رئاسية عقدت عقب دخول بريطانيا وفرنسا إلى بيروت كانت توضح بجلاء التيارات التي تتصارع على لبنان، إذ ترشح للانتخابات إميل إدة ممثلًا لفرنسا، وكميل شمعون ممثلًا لبريطانيا، وكان الجنرال إدوارد سبيرز ممثل بريطانيا هو الحاكم الفعلي للشام وقتذاك، بينما ترشح بشارة الخوري عن الحركة الوطنية اللبنانية.

لم يكن الخوري أقل تشددًا للمارونية السياسية عن إميل إدة، ولكنه كان محبوبًا بين المسلمين والمسيحين والدروز، متحدثًا لبقًا باللغة العربية عكس “فرنكوفونية” إدة و”أنجلوسكسونية” شمعون، وبينما يرى إدة وشمعون أن لبنان هو أمة غربية بها بعض الدخلاء من المسلمين، فإن الخوري كان يرى أن لبنان أمة لها تاريخ في المشرق ولا يجوز تجريد مسيحيي لبنان من أصولهم الشرقية لأن هؤلاء هم مؤسسو حضارة عريقة في بلاد فينقيا، وأن المسيحيين في لبنان هم الأولى بدور مقاومة الاحتلال الفرنسي والبريطاني وأن المسلمين هم شركاء في الوطن والدولة اللبنانية وليسوا طابورًا خامسًا عربيًا أو مسلمًا أو سوريًا، وأن القضية الفلسطينية قضية لبنان المركزية وأن سيطرة إسرائيل على فلسطين سوف تؤدى لاحقًا إلى تصدير المشاكل إلى الداخل اللبناني.

كان مسيحيو لبنان وأولهم الموارنة يبحثون عن زعيم بثقل وأفكار بشارة الخوري منذ تأسيس لبنان الكبير، ورغم وجود الخوري على الساحة اللبنانية منذ التأسيس ولكن الأقدار رتبت صدوح أفكاره في توقيت مل فيه اللبنانيون من أفكار “المارونية السياسية” و”المسيحية السياسية” وسعوا إلى فكرة دولة المواطنة، وهكذا أتى بشارة الخوري واضعًا يده بيد رئيس الوزراء المسلم رياض الصلح وأنتجا لبنان الذى يستحقه أهله.

للمفارقة فإن رياض الصلح عاش حياته كلها سوريًا وليس لبنانيًا، يشارك في المؤتمرات السورية سعيًا لاستقلال سوريا وقيام سوريا الكبرى، وفى عام 1935 بدأ الرجل يراجع أفكاره ويعود إلى صيدا مسقط رأسه، ويفكر في “الاختيار اللبناني” المتاح أمام أهل السنة في صيدا وطرابلس.

لم يكن المسلمون في لبنان ينتظرون أكثر من وصول زعيم بثقل رياض الصلح ممثل آل الصلح العريقة، وأن يصل إلى منصب رئيس الوزراء حتى يقلعوا عن فكرة “سوريا الكبرى” وإلى الأبد، حيث أصبحت الفكرة منذ عام 1943 وحتى اليوم فعل ماضٍ في الأبجديات اللبنانية.

ثارت فرنسا على انتخاب الخوري والصلح، وقامت باعتقالهم 11 يومًا وعينت إميل إدة رئيسًا مؤقتًا للبنان، وهنا انتفض اللبنانيون في ثورة لبنانية، لا إسلامية ولا مسيحية ولا درزية بل لبنانية خالصة، وصدحت شوارع لبنان الكبير بإرثه الحضاري وروعة ثقافته، حتى تم تحرير الشيخ بشارة الخوري والشيخ رياض الصلح كما كان يطلق عليهم في أوساط أهل لبنان.

حصد لبنان الاستقلال ثم الجلاء، وتم تفكيك الطبقة السياسية الموالية للانتداب الفرنسي أو التي تعاونت مع الحركات الصهيونية في فلسطين، وكان الجيش اللبناني بقيادة الزعيم التاريخي فؤاد شهاب هو أول من دخل الأراضي الفلسطينية في حرب فلسطين عام 1948، بينما راح الخوري بذكاء شديد يعين المسيحيين خاصة الموارنة الرافضين للفكر الصهيوني في أهم مناصب الدولة، وهكذا أسقط الخوري فكرة تحالف الأقليات وفسيفساء الأقليات ومعادلة “لبنان المسيحي مقابل سوريا المسلمة مقابل فلسطين اليهودية”، فكان أهم مكتب لمكافحة الصهيونية في بيروت يقوده شبيبة مارونية من أعتى مؤيدي فكرة القومية الفينيقية.

وبرز يمين ماروني جديد بزعامة بيير الجميل رئيس حزب الكتائب، وإن رفض التوجه العروبي للخوري ولكنه رفض التعاون مع الحركة الصهيونية، وسجل عناصره أسماءهم في مكاتب مكافحة النشاط الصهيوني في لبنان، وصدح صوت يميني ماروني جديد ضد التوجه الفرانكفوني الصهيوني الذى مثله إدة ورفاقه لسنوات في لبنان.

اندماج لبنان في محيطه العربي دمر فكرة الكانتونات الطائفية التي سعى إليها الاستعمار، وحمى وحدة لبنان لثلاثة عقود، فاتفق الخوري مع الصلح على الميثاق الوطني عام 1943، أن تكون رئاسة الجمهورية للمسيحيين ورئاسة الحكومة للمسلمين، وأن يتخلى المسيحيون عن فكرة أن لبنان جزء من الأمة الفرنسية مقابل أن يتخلى المسلمون عن فكرة أن لبنان جزء من الأمة السورية، وهكذا أنتج لبنان الحقيقي التاريخي إلى الوجود.

وخلال عام 1945، في آخر سنوات العنفوان الفرنسي حيال لبنان قبل أن ينتهي كل شيء، ناقشت دوائر مارونية متطرفة مع دوائر فرنسية فكرة العودة إلى لبنان الصغير، وتسليم باقي أقاليم لبنان إلى سوريا وفلسطين، بل وكان اقتراح إميل إدة محددًا بتسليم صور وصيدا إلى إسرائيل، وحصلت الخطة على موافقة الرئيس الفرنسي المؤقت شارل ديجول، ثم لاحقًا حاولت تلك الدوائر المارونية المتطرفة طرح الفكرة على بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتاليًا تم رسم خطة مع الحركات الصهيونية في فلسطين على أن يتم افتعال اقتتال أهلي في لبنان، وتقدم المنظمات الصهيونية على إثره مساعدات للموارنة من أجل خلق رأي عام مؤيد لفكرة “لبنان الصغير”، ولكن كافة تلك الأفكار لم تخرج إلى النور لقوة الميثاق الوطني ووحدة اللبنانيين، ومع حلول حرب فلسطين 1948 انتهت كافة تلك المؤامرات وأصبح لبنان دولة المواطنة لكل أهله.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى