
قطار “القاهرة – موسكو” خلال أحداث الربيع العربي.. على صفحات بوجدانوف
عرض – داليا يسري
“لقد كانوا بموسكو يعرفون مسبقًا، ليس فقط، بأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوف تشهد أحداثًا جسامًا، بل أنهم حذروا منها. ولطالما كان يُشار إلى ذلك في المواقع الرسمية لوزارة الخارجية الروسية من عام إلى آخر. وتمت الإشارة إلى الوضع في المنطقة خلال استعراض النشاط السياسي الخارجي للاتحاد الروسي في عام 2009. وذُكر ضمنًا ما يلي: “بقي الوضع متوترًا للغاية في منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، والمرتبط بسلسلة النزاعات التي تغذيها الخلافات الطائفية وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي. وتميزت بلدان كثيرة بحدوث توترات سياسية داخلية. وأمام هذه الخلفية تواصلت الجهود الدولية بصدد إخراج الشرق الأوسط من مرحلة الأزمة المُزمنة، ومارست روسيا دورًا فاعلاً في هذه الجهود”.
هكذا أورد “ميخائيل بوجدانوف”، نائب وزير الخارجية الروسي، والمبعوث الخاص للرئيس الروسي لدول الشرق الأوسط وإفريقيا ونائب وزير الخارجية. في كتابه بعنوان “موسكو- القاهرة.. سنوات المد والجزر في التعاون“، والذي أصدره المركز القومي للترجمة ترجمته بتاريخ 2020، على يد المُترجم عبد الله حبه. ويتناول بوجدانوف في كتابه فترة الأعوام العشرون من تاريخ العلاقات المصرية- الروسية، ابتداءً من انهيار الاتحاد السوفيتي حتى نهايات أحداث “الربيع العربي” في عام 2011. وأبرز ما يميز الكتاب هو تقديمه لرؤية دبلوماسية روسية وشرح لأحداث الربيع العربي التي عصفت بالعديد من بلدان الشرق الأوسط، وكيفية تأثير هذه الاحداث على العلاقات مع موسكو.
موسكو.. وأحداث “الربيع العربي” في مصر
يقول “بوجدانوف” في كتابه أن أحداث “الربيع العربي”، والتي مست جميع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد أدت إلى إحداث تغييرات عميقة في الصورة السياسية لهذه المنطقة المترامية الأطراف. وقد أدت هذه الأحداث إلى المساس بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمسار العلاقات العربية- الروسية بوجه عام. وقد دخلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العقد الأول من القرن الـ 21، طور الاضطرابات بشكل لا نظير له، والذي ترك بصماته على جميع العمليات الرئيسية في هذه المنطقة الهامة استراتيجيًا في العالم.
ويسرد “بوجدانوف” رؤيته لما حدث في مصر إبان اندلاع أحداث 2011، ويشير إلى أنه قد تم في أواسط العقد الأول من القرن الـ 21 تحسس تنامي التوتر في المجتمع المصري بالتزامن مع اقتراب موعد رحيل الرئيس الراحل حسني مبارك من الساحة السياسية. وازدادت التوقعات باحتدام الوضع نتيجة ازدياد نفوذ المعارضة (تنظيم الإخوان المسلمون الإرهابي- والسلفيين) باعتبارهم الجناح المتشدد الإسلامي للقوى السياسية. ونشأت في مصر ظاهرة يطلق عليها الباحثون الاجتماعيون لفظة، (رابية الشباب)، والتي تعني توافر نسبة عالية جدًا من الشباب في سن ما بين العشرين والثلاثين عامًا. ويعزي ذلك إلى انخفاض الوفيات بين الأطفال مع احتفاظ النساء المصريات بنسبة خصوبة عالية. وترتب على ذلك، أن وجد الشباب نفسه في مصر –قبل أحداث 2011- بلا عمل أو أمل في مستقبل أفضل. لهذا السبب أصبحوا من أنشط المشاركون في الاحتجاجات، علاوة على أنهم كانوا مزودين بأحدث وسائل التعبئة والاتصال، أي الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
كما يشير “بوجدانوف” إلى أنه قد نشأت في مصر، خلال هذه الفترة، قوى وحركات سياسية جديدة معادية للحكومة مثل حركة “كفاية الموالية للغرب، و”النور” الإسلامية وغيرهما من الحركات الراديكالية المتطرفة. كما تطرق “بوجدانوف” إلى تعمق الخلافات بين القاهرة وواشنطن عشية الربيع العربي، حيث اشتدت رغبة القاهرة في عدم السماح بالتدخل الخارجي في السياسة الداخلية المصرية. بينما ولد سعى دؤوب لدى واشنطن لأن تلعب دور المرشد والمربي الرئيسي حيال القاهرة التي كانت ترغب واشنطن في أن تتطور باتجاه تطبيق الديموقراطية، مما ترتب عليه ارتفاع مستوى التوتر بين واشنطن والقاهرة.
ويسرد “بوجدانوف” كذلك، كيف أعربت الدوائر الحاكمة المصرية عن عدم قبولها الوقائع الكثيرة لتدخل الأمريكيين “بوقاحة”، في قضايا السياسة الخارجية والداخلية لمصر. وكان من أحد مظاهر هذا التدخل؛ رد فعل الولايات المتحدة على قرار البرلمان المصري حول تمديد سريان مفعول قانون الطوارئ حتى 2012، والموجه كما أكدوا في القاهرة إلى الحاجة إليه لأجل تشديد مكافحة ظواهر خطرة مثل الإرهاب وتهريب المخدرات. غير أن المصريون قد أبدوا دهشتهم من أقوال “هيلاري كلينتون”، وزير الخارجية الامريكية آنذاك، والسكرتير الصحفي للبيت الأبيض، “روبرت جيبس”، اللذان أعربا عن الأسف لامتناع مصر عن إلغاء حالة الطوارئ وإخفاقها في تأكيد الالتزام بقيم الديموقراطية الراسخة. وردت الخارجية المصرية بأن أصدرت بيان شديد اللهجة، وصفت فيه أقوال المسؤولين الأمريكيين بأنها مسيسة أكثر مما يجب وموجهة أساسًا للاستهلاك الخارجي.
من ثم استعرض “بوجدانوف” مسببات نجاح أحداث الربيع العربي في مصر، وقال أن الأحداث المتلاحقة أثبتت أن القيادة المصرية برئاسة حسني مبارك، لم تقيم بصورة موضوعية وواقعية تكفي لاتخاذ القرارات الصحيحة في التوقيت السلم. ولم يعد في استطاعة المسؤولين في القاهرة منع حدوث “الربيع العربي”. كما كشفت الهزات السياسية التي بدأت في يناير عام 2011، عمق المشكلات الشاخصة أمام مصر، والتي أصبحت مزمنة، وورثها نظام حسني مبارك عن سلفه، ولم يحاول مواجهتها. وبوجه عام، يؤكد “بوجدانوف”، أن موقف الاتحاد الروسي كان يقضي بعدم التدخل بشكل قاطع في الشؤون الداخلية لمصر، طوال هذه الفترة.
مواقف “القاهرة- موسكو” من الدراما الليبية
يحكي “بوجدانوف” عن المشاورات المصرية الروسية المكثفة التي جرت خلال اندلاع الحركات الاحتجاجية التي تصاعدت إلى حرب أهلية في ليبيا، شارك فيها حلف الناتو إلى جانب خصوم النظام، ثم سقوط نظام معمر القذافي، وتمت هذه المشاورات بحكم العلاقات الواسعة التي تربط روسيا ومصر بالجماهيرية الليبية. وفي ختام المناقشات التي جرت في الدورة الـ 135 لمجلس جامعة الدول العربية في مارس 2011، صدر بيان تضمن الإدانة الشديدة “للجرائم المرتكبة في ليبيا بحق السكان المدنيين، علاوة على الرفض القاطع لكل أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد”.
ومن هذا المنطلق، يقول “بوجدانوف”، أنه تمت مراعاة موقف جامعة الدول العربية لدى صياغة رد فعل موسكو والقاهرة على الأحداث الليبية. وتم التركيز في هذه الصياغة على الأمور التالية: (إدانة جرائم السلطات الليبية بحق السكان المدنيين، واستخدام العنف حيال المظاهرات السلمية باستخدام السلاح الحربي والمعدات الثقيلة، وكذلك المرتزقة الأجانب، ودعوة السلطات في طرابلس إلى أن توقف فورًا العنف وتستجيب إلى المطالب المشروعة للسكان، وتضمن حرية التعبير عن الرأي ونشاط وسائل الإعلام).
ويسرد “بوجدانوف” في كتابه ما يشير إلى تطابق مواقف موسكو والقاهرة إزاء الأزمة الليبية في أيامها الأولى. ويشرح كيف رغب كلاهما في وساطة الاتحاد الأفريقي لحل الأزمة الليبية، لولا أن هذه الجهود سرعان ما اتضح بعد ذلك أنها لم تؤتي ثمارها، ولم تحظى بالتفهم اللازم والدعم القاطع. وأدى التدخل العسكري الفاعل من قبل بعض بلدان الناتو، التي أيدت المنتفضين، إلى انتصار القوى المعادية للحكومة. وسرعان ما سقط نظام معمر القذافي، واغتيل زعيم الجماهيرية الليبية نفسه، وحلت مرحلة الفوضى في البلاد.
ويشرح “بوجدانوف”، أن الهزات السياسية في بلدان الشرق الأوسط، بوجه عام. قد أثرت بلا ريب، بل وأخذت في عين الاعتبار لدى صياغة مواقف موسكو والقاهرة من تطور الوضع العام في المنطق، ومنها آفاق التسوية الشرق أوسطية. كما أنه يؤكد أن مواقف موسكو من الأحداث في هذه البلدان من الممكن اعتباره براجماتيًا، بحيث يعكس التغيرات التي نضجت في العالم العربي، بما يشتمل في ذلك على موقف العلاقات الروسية مع مصر. علاوة على ذلك، يشير “بوجدانوف”، إلى أن موسكو لطالما ركزت على أن أحداث الربيع العربي عبارة عن شأن داخلي حصري، يخص كل بلد عربي على حدة.
مراحل تطور العلاقات الروسية المصرية
يرى “بوجدانوف” أن العلاقات المصرية-الروسية مرت –خلال الفترة قيد البحث في كتابه- بعدة مراحل في تطورها. ويشير إلى أن محتوى كل واحدة منها تحدد وفقًا لعدة عوامل موضوعية وذاتية. لكن كانت هذه العوامل تقوم في الأساس على المصالح الوطنية لكل واحد من البلدين، كما كان دور وأهمية العوامل الخارجية –الإقليمية والدولية- كبيرًا وملموسًا للغاية. ففي المرحلة الأولى والتي امتدت إلى أواسط عقد التسعينيات، أثرت العوامل الداخلية والخارجية بصورة متوازنة تقريبًا على محتوى العلاقات المصرية الروسية على صعيد الدولة. والمقصود هو ظواهر الأزمة في الاقتصاد والمجتمع، والإصلاحات الاقتصادية الصعبة بحكم طبيعتها، وانحسار العلاقات وأشكال التعاون السابقة. كما يشرح “بوجدانوف”، أن تأثير العالم الخارجي والائتلافات والتحالفات الدولية قد ازداد وتصاعد في عمليات العولمة.
وفي المرحلة الثانية، التي يُحددها “بوجدانوف” بأنا تمتد إلى أواخر عقد التسعينيات، والتي شهدت ركودًا من وجهة نظره. أما في المرحلة الثالثة، والتي تمتد ما بين الأعوام (2001-2011) ويعد الجزء الأكثر ديناميكية فيها هو الجزء المتعلق بالعام 2005، وتميزت هذه المرحلة –وفقًا لبوجدانوف- بتأثير العوامل الداخلية والخارجية المتشابكة، التي أدت في النهاية للنهوض.
وجاءت المرحلة الرابعة، التي بدأت مع حلول العام 2011، باعتبارها مرحلة الاهتزازات السياسية، والتي تميزت بالتأثير الهداف لعدد من العوامل مثل احتدام الصعوبات الاقتصادية، واشتداد راديكالية الإسلام السياسي، وازدياد التدخل الخارجي، وتفاقم الأمراض الاجتماعية، ومقاومة أنصار التقاليد القديمة. بينما شهدت الفترة التي تلت أحداث يونيو-يوليو 2013 إمكانيات جديدة للشراكة المصرية-الروسية المثمرة.
وبوجه عام، يرى “بوجدانوف”، أن العلاقات الثنائية بين البلدين قد هيمنت عليها روح التعاون والشراكة وإجراء اتصالات استشارية بصورة دائمة، والبحث عن إمكانيات التنسيق لدى حل المشكلات الإقليمية والدولية، مما أثر بدرجة كبيرة على مسار العلاقات بين البلدين. كما يُشير إلى أن مجيء قيادة سياسية جديدة إلى السلطة في مِصر، بعد عام 2013 وعقب الثورة على محمد مرسي المنتمي للتيار الإرهابي المتشدد، بمثابة بداية مرحلة جديدة من تشكيل العلاقات المصرية الروسية.