
جولة “ماكرون في الخليج” بين الطموحات الاقتصادية والتوازنات الإقليمية
جولة خليجية قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال الأيام الماضية، اختتمها بلقاء مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان باحثًا معه عددًا من الملفات، منها الأزمة اللبنانية والملف النووي الإيراني وغيرها من الأمور ذات الأهمية المشتركة بين البلدين.
المحطة السعودية استُبقت بزيارة للإمارات وقطر. وقد شهدت زيارة ماكرون إلى الإمارات إتمام صفقة بيع مقاتلات “رافال” التي من الممكن تحميلها بالكثير من المعاني التي سنذكرها لاحقًا. إيمانويل ماكرون الذي وصف دول الخليج بـ “أصدقاء فرنسا” أكد على أنه لا تسوية للملف النووي الإيراني دون إشراك العواصم الخليجية، مشرعنًا تخوفاتها من امتلاك طهران لسلاح نووي.
طموحات التمدد
في أعقاب اختتام الجولة الفرنسية في الخليج بل وخلال الجولة انبرت وسائل الإعلام العربية والفرنسية تحاول وضع تفسيرات لأسباب اتجاه باريس إلى العواصم الخليجية في هذه الفترة.
وللإجابة على السؤال يمكننا الإشارة إلى أن التحركات الفرنسية ليست خليجية بالدرجة الأولى -أو ليست خليجية فقط- فباريس كانت قد لعبت دورًا محوريًا في التوسط لحل أزمة تشكيل الحكومة في لبنان في اتصال مهم بين ماكرون ورئيسي خلال سبتمبر الماضي. وللمرة الثانية من يومين حاولت باريس إلقاء طوق النجاة للبنان عندما توسطت لدى السعوديين لتسوية أزمة وزير الإعلام اللبناني المستقيل ” جورج قرداحي” والذي كانت تصريحاته قد زادت الطين بلة بين الرياض وبيروت- والسؤال الأهم هنا هو هل تلتقط بيروت طوق النجاة بالفعل أم ينجح حزب الله كالعادة في تمزيق الطوق وحامله.
من منظور آخر- كانت فرنسا من أوائل الواصلين إلى العراق بشكل أثار تساؤل “ماذا تفعل باريس وماذا تريد؟” خصوصًا أن التقارب بين الإليزيه وبغداد خلق حالة من القلق لدى المهيمنين الإقليميين ” تركيا وإيران”؛ وبالتحديد لأن إيمانويل ماكرون تحدث علنًا لدى وجوده في بغداد عن ضرورة توفيق أوضاع الميليشيات الشيعية المسلحة في العراق، الأمر الذي يضرب مباشرة في عمق الشأن الإيراني في العراق.
على صعيد آخر، فإن حديث الرئيس الفرنسي عن دعم مسيرة السيادة العراقية يشير ضمنًا إلى الضربات العسكرية التي تشنها تركيا على شمال العراق على الأقل من ناحية المكايدة السياسية بسبب تنامي النفوذ التركي في مناطق الهيمنة الفرنسية في أفريقيا.
ماكرون الذي صبغ وجود فرنسا في العراق بصبغة سياسية لم تخل زيارته من الاتجاه القوي للشراكات الاقتصادية. وإن كان الاتجاه قوي فسيلاقي مواجهة أقوى من تركيا وإيران. ويمكننا أن نشير هنا إلى أن باريس أيضًا أكثر وعيًا من أن تلقي بثقلها الاقتصادي في بلد يعاني اضطرابات من وقت لآخر معرضة استثماراتها للخطر – إذا؛ سيغلب على الوجود الفرنسي هناك التعاون الدفاعي والعسكري؛ إذ تستهدف فرنسا -التي تقود مبادرة تفعل دور حلف الناتو في العراق- أن تخفف من الاضطرابات السياسية التي نجمت عن وجود القوات الأمريكية هناك وإكساب الوجود العسكري الأجنبي صبغة الوجود الدولي.
تنافس فرنسي- تركي
من التضييق على تركيا في العراق يمكننا أن ننطلق لنفسر التقارب الفرنسي–الخليجي الحالي؛ فبما أن باريس تأمل في مكايدة أنقرة والتضييق على مناطق نفوذها في العراق لرد اعتبارها في أفريقيا فهي تسير بنفس المنهج في تقاربها مع العواصم الخليجية، خصوصًا وقد بدا أن أنقرة قد سبقت باريس بعدد من الخطوات الواسعة في هذا الإطار انعكست في زيارة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى أنقرة بعد سنوات من القطيعة السياسية.
ولننتقل هنا من الدوافع الباريسية إلى الدوافع الإماراتية التي تظهر بشكل أكثر وضوحًا- فبعد تخفيض الولايات المتحدة لعدد قواتها الموجودة في الشرق الأوسط وسحب بعض القطع العسكرية المهمة بدأت العواصم الخليجية تنظر مرتابة إلى واشنطن وتعيد تقييم الأمور.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن أبو ظبي سعت منذ تغير الإدارة الأمريكية السابقة إلى تحويل شراكتها بشكل يسمح لها بالحركة بقدر أكبر من المرونة. ومما يستدل به على ذلك أنها قامت بإتمام صفقة الرافال مع باريس في الوقت الذي ما زالت فيه تتحين استلام مقاتلات إف-35 من الولايات المتحدة. بجانب أن علاقات أبو ظبي التاريخية وشديدة الخصوصية بالقاهرة لم تمنعها من فتح قنوات تواصل مع أنقرة -التي وإن كانت تبدي رغبة في الوصول إلى الدرجة ذاتها من العلاقات مع القاهرة فإن ملفات خلافية مازالت تعوق ذلك مثل ملف إيواء فلول جماعة الإخوان الإرهابية، وملف شرق المتوسط- دون أن تخل أبو ظبي بالتزاماتها ناحية العلاقات المميزة مع القاهرة.
أما بالنسبة لإيران فقد سارت أبو ظبي في هذا الخط بالتوازي مع الرياض التي فتحت أيضًا قنوات للتفاوض مع طهران، ولكن على طول الخط ربما استطاعت أبو ظبي القفز بشكل أسرع. وانعكس ذلك في الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الإماراتي “طحنون بن زايد” والتقى خلالها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. وهي الزيارة التي استغرقت يومًا واحدًا سلم خلالها طحنون الرئيس الإيراني دعوة رسمية لزيارة أبو ظبي.
وهو ما تلقفته باريس بذكاء وبرجماتية شديدين؛ فمعادلة بسيطة تفترض أنه إذا كانت أبو ظبي أكثر قربًا من طهران، وباريس أكثر قربًا من أبو ظبي، فإن ذلك سيتيح استنتاجًا يشير إلى تقارب بين باريس وطهران مما يؤهل فرنسا لفتح أسواق جديدة في إيران. وقد بدت شهية ماكرون المفتوحة عندما شاركت 425 شركة فرنسية في إكسبو دبي 2020.
أما في الرياض، فقد حملت زيارة ماكرون إليها ولقائه بولي العهد السعودي أبعادًا أخرى تتعلق بالاتجاه الجديد في السياسة الخارجية السعودية الذي يشير إلى وعي بأهمية تنويع الشراكات بعيدًا عن واشنطن. خصوصًا أن الرياض نظمت قمة مجموعة العشرين ولم تقاطع العديد من القوى.
من منظور آخر يمكن فهم زيارة الرئيس الفرنسي لقطر بشكل أكثر بساطة يتضمن التعاون الاقتصادي، وكون فرنسا جزءًا مهمًا من إتمام الملاعب والصالات الرياضية التي ستعتمد عليها الدوحة في المونديال القادم، إضافة للتعاون في المجال العسكري إذ تعد قطر من أبرز المشترين لطائرات الرافال الفرنسية، واضطلعت بدور مهم في إجلاء الرعايا الفرنسيين من كابول.
رد اعتبار
لا نتحدث عن ماضٍ بعيد إذا ما تناولنا صفقة الغواصات النووية التي اختطفتها واشنطن من باريس وما لحق بها من الإعلان عن تحالف أوكوس. وباريس التي وصفت ما حدث من أمريكا وأستراليا بأنه طعنة في الظهر بدت أكثر نشاطًا في التحرك على مستويات مختلفة لتحقيق مكاسب اقتصادية ذات آفاق جديدة عن طريق إتمام صفقات الأسلحة وبناء محطات الطاقة النووية للأغراض السلمية، وظهرت أكثر نشاطًا حتى من بريطانيا التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي محاولة الانفراد بسياسات خارجية غير مقيدة من النادي الأوروبي.
ولكن على قدر الطموح الفرنسي فقد أشارت صحف عربية إلى أن الخليجيين لن يتوانوا عن توقيع صفقات تسلح مع باريس، إلا أنهم في نفس الوقت على بعد أميال كثيرة من الوثوق في فرنسا كحليف أمني واستراتيجي بديل للولايات المتحدة.
وكنتيجة يمكن بناؤها على كل ما تقدم فإن فرنسا في الوقت الذي تحاول فيه تحقيق مكاسب اقتصادية – ترغب أيضًا في تقديم نفسها كحجر زاوية في لعبة التوازنات الإقليمية لأنها مؤهلة على ذلك في تقديراتها؛ خصوصًا أن الفرصة سانحة بعد أن عدلت واشنطن بوصلتها لمنطقة المحيط الهادئ ولمجابهة النفوذ الروسي والصيني.
ولكن في نفس التوقيت فإن باريس لا تبالغ في تقدير الذات، وتعي أنه إن كانت العواصم الخليجية تثق بها كشريك اقتصادي، فإنها لا يمكنها أن تثق بها بشكل مطلق كحليف أمني. وفي هذا الإطار فهي تسعى إلى تحقيق المكاسب الاقتصادية بشكل أكبر علً الاقتصاد بعد ذلك يؤهلها لنوع من الدور السياسي.
وحتى على الصعيد الاقتصادي فباريس التي تتجاوز كورونا وتتعافى من السترات الصفراء ليست مؤهلة بعد لمنافسة الاستثمارات الأمريكية-البريطانية والصينية الضخمة في منطقة الخليج، ومن هنا يسعى الإليزيه للتفرد عن طريق تطوير سوق وتكنولوجيا النقل التي تتميز بها فرنسا عن بقية منافسيها، مثل تطوير القطارات السريعة، وكذلك الاستثمار في الطاقة النظيفة والمشاريع الخضراء.
باحث أول بالمرصد المصري