علوم وتكنولوجيا

السهل الممتنع: “المياه الافتراضية” والأمن القومي المائي

لعل عملية ترشيد استخدام المياه هي الطريقة الأكثر شيوعًا منذ القدم عند الحديث عن مفهوم تعزيز الأمن المائي لأي دولةٍ في العالم. وترمي عملية ترشيد استهلاك المياه إلى القيام “في الوقت الحالي” بالحفاظ على الكمية الفعلية الموجودة من المياه على سطح كوكب الأرض، فيما يُعرف بـ”غلاف الأرض المائي”. فعلى سبيل المثال، تدعو المؤسسات المعنية في هذا الصدد إلى الحد من- ومنع- الإسراف في استهلاك المياه عند القيام بالنشاطات اليومية العادية كاستخدام المياه في التنظيف والري أو الصناعة.

ويندرج مفهوم ترشيد استهلاك المياه تحت مصطلح أوسعَ وهو التنمية المستدامة التي تهدف إلى الحفاظ على الموارد من أجل مستقبل الأجيال القادمة. ولذلك، فإن القائمين والداعين إلى التوسع في عملية التنمية المستدامة لطالما يؤكدون فيما يتعلق بهذا الأمر على ضرورة توظيف أفضل التقنيات التكنولوجية في مجال ترشيد استهلاك المياه، مثل:

  •  الاستفادة من الأساليب الحديثة في الزراعة كاستعمال الري بالتنقيط.
  • الحد من زراعة بعض المحاصيل التي تتطلب كمياتٍ كبيرة من المياه؛ إذ إن ري المحاصيل يستهلك حوالي 70% من المياه العذبة في مختلف أنحاء العالم.
  • حماية منابع المياه الجوفية التي تُعد بدورها غير متجددة.
  •  إطلاق حملات توعية عامة بمخاطر الإسراف في استخدام المياه.
  • إعادة تدوير مياه الصرف الصحي المنزلية، كـ”المياه الرمادية” الناتجة عن الاستهلاك المنزلي في تنظيف الأواني.

وتلجأ بعض الدول في سبيل تعزيز الأمن القومي المائي محليًا إلى تحلية مياه البحر؛ لزيادة الكمية المعروضة من المياه كي توازن الطلبَ عليها.  ولكن – وفي معرض الحديث عن الأمن القومي المائي وسبل تعزيزه- نجد مفهومًا آخر جديد “نسبيًا” غير بعيد الصلة عن “ترشيد استهلاك المياه” وقد يُعد غير شائع أو مألوف لدى البعض، وهو ما يُعْرَف بـ”المياه الافتراضية-Virtual Water“. وإذا نظرنا نظرة كلية أكثر شمولًا لعملية ترشيد المياه، سنجد أن هذا المصطلح الأخير يشير إلى ترشيد “مسبق” للمياه، بينما تهدف الطرق الأخرى إلى الترشيد “الحالي” لها. وإن كانت الوسيلتان ترميان إلى نفس الغاية المستقبلية.

ماذا يُقصد بـ”المياه الافتراضية”؟

يشير مصطلح المياه الافتراضية إلى كمية المياه المُستَهلَكة خلال المراحل المتعددة والمختلفة في عملية إنتاج مادة غذائية أو سلعة صناعية أو محصول زراعي أو غيرها؛ أي أنها كمية المياه الكلية والنهائية المستخدَمة في صناعة أو زراعة المنتج حتى الوصول إلى مرحلة تقديمه للمستهلك، أي بداية من زراعته، أو تصنيعه في مراحله الأولى. 

وكان الجغرافي البريطاني “جون آنتوني آلن (1937-2021)” أول من تطرق لهذا المصطلح، ونال على إثر ذلك “جائزة استوكهولم للمياه” عام 2008. لقد صك “آلن” هذا المصطلح الجديد عام 1993 بعد سنواتٍ من العمل كباحث في قضايا المياه، وخاصة ملفات المياه في إقليم الشرق الأوسط. 

Food Hero Series: Tony Allan, Water Policy Innovator – Food Tank

وقد قدّم “آلن” هذا المفهوم بالأساس من أجل حل مشكلة النقص أو الندرة في المياه في المناطق الجافة، موضحًا أنه لكون المياه عنصرًا مهمًا ورئيسًا في إنتاج المحاصيل، فإن مختلف الدول يجب عليها تعيين كمية المياه الضرورية لإنتاج المحاصيل الزراعية والأغذية التي هي بحاجة إليها، قائلًا إنه “حينما يستورد بلدٌ ما طنًا من القمح، فإنه في الحقيقة يستورد مياهًا افتراضية” بصحبته، أي كمية المياه المستخدمة في إنتاج هذه المحصول أو المنتج من البداية. 

واستنتج “آلن” من خلال المصطلح والدراسات السابقة المتعلقة به أن أي دولة في العالم تعاني من ندرة المياه تُعد قادرة على توفير كميات كبيرة منها وترشيد استهلاكها “المسبق” من خلال إعادة النظر في الصادرات والواردات. ووفق مصطلح “آلن”، فإن دول العالم تقوم بالفعل بتصدير المياه واستيرادها من خلال الصادرات والواردات من السلع التي تحتوي على المياه بداخلها. 

ومثال على ذلك، نجد أن إعداد فنجان واحد من القهوة يستهلك حوالي 140 لترًا من المياه كي يُقدّم في صورته النهائية إلى الفرد المستهلِك، وعلى هذا النحو يتطلب إعداد كوب من مشروب الشاي حوالي 34 لترًا، بينما يستلزم إنتاج قميص من القطن كمية أكبر بكثير تصل إلى 4 آلاف لتر من الماء، أما تصنيع السيارة فإنه قد يستهلك 500 ألف لتر من الماء. وقد تصل كمية المياه الافتراضية في كيلو واحد (1000 جرام) من اللحوم إلى أكثر من 15 ألف لتر.

أنواع المياه الافتراضية

ينقسم مصطلح المياه الافتراضية إلى ثلاثة أقسام، وهي: 

  • المياه الزرقاء: التي تشير إلى كمية المياه الجوفية أو السطحية التي تبخرت أثناء القيام بالعملية الإنتاجية، سواء صناعية أو زراعية. فالمياه المتبخرة حين ري الأراضي الزراعية تُعد مياهًا افتراضية. 
  • المياه الخضراء: كمية المياه التي تتبخر من الحقل الزراعي في فترة نمو المحصول.
  • المياه الرمادية: وهي التي تتلوث خلال عملية إنتاج مختلف السلع.

ما العلاقة بين الأمن المائي والمياه الافتراضية؟

الأمن القومي - الأمن المائي ] - الامنيات برس

لقد طرح الكاتب البريطاني “آلن” هذا المصطلح بالأساس في سبيل حل أزمات المياه، خاصة في المناطق الجافة داخل منطقة الشرق الأوسط. وأكد آلن خلال بحثه أن الاهتمام بمسألة المياه الافتراضية سيعني ضمانة ودعامة قوية للأمن القومي المائي، وذلك جنبًا إلى جنب مع الاستراتيجيات المائية الأخرى للحفاظ على المياه. 

ويعني طرح “آلن” أن تستبدل الدول بعض الحبوب والمواد الزراعية والصناعات التي تستهلِك في “مراحلها المختلفة” كمية كبيرة من المياه باستيرادها من الخارج وتوفير حجم المياه الكبيرة المستخدمة بها. وفي هذا الصدد، تستهلك المنتجات والمحاصيل الزراعية الكمية الكبرى من المياه مقارنة بأي نشاط آخر. 

إن مصطلح “المياه الافتراضية”، وعلى هذا الشكل الموضح، يُعد شكلًا من أشكال تعزيز الأمن المائي للدول. فحسب “آلن”، يتم استهلاك كميات كبيرة من المياه في بعض المحاصيل الزراعية (في شكلها النهائي) والصناعات والخدمات الأخرى مقابل نظراء آخرين يستخدمون كميات أقل. 

وينبغي التأكيد هنا على أن مصطلح “آلن” لا يقتصر على المياه المستهلكة في الزراعة فقط، بل يتوسع ليشمل العديد الصناعات والخدمات التي تستهلك كمية كبيرة من المياه لإنتاجها وتقديمها في صورتها النهاية. ولذا، فإن مصطلح “المياه الافتراضية” يُعد مفهومًا أكثر شمولًا وأعمق من مفهوم ترشيد المياه في شكلها المعتاد الذي يرمي إلى الحد من الإسراف في استخدامها في الوقت الراهن، ما يشير إلى أن المصطلح الأول أكثر استباقية. وعليه، فإن المصطلح يُعد وثيق الصلة بالأمن القومي المائي؛ لأنه يهدف إلى الحفاظ على المياه في مراحلها الأولية داخل مختلف الأنشطة.

هل يواجه مصطلح آلن صعوبة في التطبيق على أرض الواقع؟

لعل فكرة “آلن” تصبح قابلة للتطبيق في بعض المنتجات والخدمات، ولكن من الصعوبة بمكان أن تشمل عددًا كبيرًا منها. فعلى سبيل المثال، لا تستطيع مختلف دول العالم الاستغناء عن عدد كبير من المواد والمنتجات والحيوانات والسلع الضرورية التي تستهلك كمية وفيرة من المياه، على الرغم من إمكانها الاستغناء عن بعضها واستيرادها من الخارج، مثل بعض الحبوب.

ولكن عمليًا، لا تستطيع مختلف الدول، على سبيل المثال، عدم تربية الحيوانات التي تؤكل لحومها، أو عدم الإقدام على تصنيع منتجات ملابس تستهلك كمية كبيرة من المياه. إن أي دولة في العالم لا يُعد بمقدورها استيراد عدد هائل من السلع والخدمات التي تستلزم كمية وفيرة من المياه، كالتي أشار إليها “آلن” في طرحه؛ إذ أنها تتطلب أموالًا ومبالغ ضخمة سوف يؤثر إنفاقها -إن وجدت بالأساس بهذا الحجم- على باقي القطاعات المحلية الإنتاجية والخدمية، وحتى المعيشية. 

وعليه، فإن أطروحة آلن تُعد من الناحية النظرية قيّمة ويمكن بالفعل تطبيق بعض أفكارها عمليًا فيما يخص بعض السلع والخدمات، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها في عدد كبير من هذه المنتجات. وبالطبع لا يبدو منطقيًا على الإطلاق تطبيقها على جميع هذه السلع والمنتجات والخدمات التي تستهلك كمية كبيرة من المياه. ولكن وبوجه عام، تستطيع أي دولة الاعتداد بها وتطبيقها فيما يخص بعض المنتجات والسلع والخدمات محليًا.

+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى