
تمكنت مصر في جمهوريتها الجديدة من الصمود وإعادة بناء وتقوية مؤسساتها الداخلية ومن ثم إعادة هندسة سياستها الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وتمكنت من أن تتبوأ مركزًا متقدمًا في حفظ الأمن والسلم الإقليمي، فاستطاعت وفقًا لسياساتها القوية أن تجعل من نفسها نموذجًا في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، الأمر الذي جعل من مصر حليفًا استراتيجيًا يعتمد عليه العالم كله؛ نظرًا لقوتها الإقليمية ودورها في التعامل مع الأزمات التي تعرضت لها المنطقة، وخاصة قادة دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة الموجة غير المسبوقة من الهجرة غير الشرعية إليها.
فأوروبا -والتي تسمى قارة المهاجرين- تعاني من الضغوط التي يفرضها تسارع وتيرة الهجرة إليها على نحو غير مسبوق وتزايد موجات اللاجئين التي تصل إلى حدودها، وخاصة بولندا والمجر؛ وذلك بعد موجات الفوضى والعنف الذي أعقب ثورات ما يسمى بالربيع العربي، وحتى وقتنا هذا نتيجة ما يحدث في دول الشرق الأوسط وأفريقيا من انقسامات وموجات عنف وصلت إلى حد الحرب الأهلية ونشاط الجماعات الإرهابية، الأمر الذي دفع معظم قادة دول الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في تحرك استراتيجي يهدف إلى مواجهة الموجات المتلاحقة من الهجرة إليها. فاتجهت أنظار الاتحاد الأوروبي إلى مصر كشريك إقليمي واستراتيجي مهم؛ نظرًا لما تتمتع به من تاريخ طويل من التعاون في مكافحة الهجرة غير الشرعية وإدارة الحدود مع جيرانها.
إحصائيات الهجرة عبر البحر المتوسط
وفقًا لـ “لوران دي بوك” رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في مصر، إن الهجرة غير الشرعية ما زالت تمثل تحديات كبيرة أمام دول العالم، حيث تمكن 55 ألف مهاجر من الوصول إلى أوروبا حتى يوليو 2021 مقارنة بـ 29 ألف مهاجر خلال عام 2020 و128 ألف مهاجر خلال عام 2019.
ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، فقد تم توثيق 896 حالة وفاة حتى يوليو 2021، ممن كانوا يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط، وأشارت المنظمة إلى وفاة ما لا يقل عن 741 شخصًا على طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، بينما فقد 149 شخصًا حياتهم أثناء عبورهم غرب البحر المتوسط، وتوفي ستة أشخاص على طريق شرق البحر المتوسط، من تركيا إلى اليونان.
وارتفع عدد الأشخاص الذين حاولوا العبور إلى أوروبا عبر البحر المتوسط بنسبة 58% بين يناير ويونيو هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام 2020. وتوجد زيادة للعام الثاني على التوالي في العمليات البحرية لدول شمال أفريقيا على طول طريق وسط البحر المتوسط؛ إذ تم اعتراض أو إنقاذ أكثر من 31,500 شخص من قبل سلطات شمال أفريقيا في النصف الأول من عام 2021، مقارنة بـ 23,117 في أول ستة أشهر من 2020.
أما قبالة السواحل التونسية فقد زادت مثل هذه العمليات بنسبة 90% في أول ستة أشهر من 2021 مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. إضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 15,300 شخص أعيدوا إلى ليبيا في أول ستة أشهر هذا العام، وهو أعلى بثلاثة أضعاف تقريبًا من نفس الفترة من العام السابق حيث بلغ عددهم 5,476 شخصًا.
التعاون المصري-الأوروبي في مكافحة الهجرة غير الشرعية
لطالما كانت مصر وجهة ونقطة عبور مهمة لأوروبا منذ أواخر الثمانينيات. إضافة إلى كونها مُصدّرًا للمهاجرين أيضًا. ولطالما كان التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومصر في مجال الهجرة وإدارة الحدود ليس بجديد، ولكن منذ عام 2014 إلى الآن حدثت زيادة كبيرة في الاتصالات والاجتماعات والجلسات التشاورية.
فقد شاركت مصر في إعلان روما بشأن “مبادرة الاتحاد الأوروبي للهجرة في القرن الإفريقي” والتي سميت بـ “عملية الخرطوم” في نوفمبر 2014 لمساعدة دول القرن في مكافحة أسباب الهجرة غير الشرعية، ومناقشة مسارات الهجرة ومكافحة الإتجار في البشر وتهريب المهاجرين، إلى جانب مشاركتها بفاعلية في عملية التحضير والصياغة في “قمة فاليتا” بمالطا حول الهجرة غير الشرعية في نوفمبر 2015. الأمر الذي يبرز أواصر التعاون بين مصر والاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة وإدارة الحدود، ويعطي مؤشرًا قويًا لدور مصر كقائد إقليمي في أفريقيا، والذي اتضح من دورها القيادي في عملية الخرطوم.
ووفقًا للمفوضية الأوروبية، فإن تبني سياسة الجوار الأوروبية المنقحة في عام 2015 قد وفر فرصة “لإحياء” المحادثات المتعلقة بالحوار الرسمي بين الاتحاد الأوروبي ومصر حول الهجرة. وفي أكتوبر 2018 وقعت مصر اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب الأشخاص والإتجار بالبشر، وتضمنت الاتفاقية 7 مشروعات في 15 محافظة بقيمة 60 مليون يورو، لمعالجة الأسباب الرئيسية المسببة لظاهرة الهجرة غير الشرعية.
وأيضًا في فبراير 2019 استضافت مصر أول قمة عربية أوروبية بين الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي لمناقشة قضايا الهجرة. ووقعت مصر وإيطاليا برتوكول مكافحة الجريمة والهجرة غير الشرعية في عام 2018 ليتم تجديده عام 2020، بما يعكس ثقة أجهزة الأمن الإيطالية والأوروبية بخبرات الأجهزة المصرية وإمكاناتها التدريبية. وكذا، تتعاون مصر وإيطاليا في مجال التدريب والتأهيل وتصدير العمالة المصرية لسوق العمل الإيطالي بطريقة شرعية ولائقة، والتصدي لعمليات الهجرة غير الشرعية.
وفي سياق متصل، تم عقد عدد من المشاورات بين مصر والاتحاد الأوروبي لبحث أزمة الهجرة وسبل التصدي لها؛ فكانت جلسة المشاورات الأولى في 17 ديسمبر 2017، وعُقدت الجلسة الثانية في 25 يونيو 2019، أما الجلسة الثالثة فعُقدت في 15 نوفمبر 2021؛ حيث تم الاتفاق على بروتوكولات تعاون مشترك ذات طابع استراتيجي لمكافحة التهريب والإتجار بالبشر، ودعم جهود تعزيز الهجرة الشرعية، والتأكيد على الحاجة لجذب مزيد من الاستثمارات وخلق فرص عمل، بجانب مساهمات الاتحاد الأوروبي في توفير المعدات اللازمة في مجال مكافحة الهجرة.
ووفقًا لسياسة مصر في إدارة الحدود والقضاء على الهجرة غير الشرعية فقد تبنت مصر استراتيجية شاملة للتصدي للهجرة غير الشرعية، وأعلنت الدولة المصرية في فبراير 2018 أنه لم تغادر أي سفينة هجرة “غير شرعية” مياهها الإقليمية منذ نهاية عام 2016. وما بعد عام 2018 تم رصد محاولات قليلة للهجرة غير الشرعية، واستطاعت الدولة المصرية مجابهتها والتصدي لها بالتعاون مع دول الجوار.
هذا بالإضافة إلى التعاون المصري على الصعيد الإقليمي مثل:
• استضافة مصر للمؤتمر الإقليمي الثاني لمبادرة الاتحاد الإفريقي والقرن الإفريقي، بمدينة شرم الشيخ، في سبتمبر 2015؛ حيث تم تقديم مجموعة من المشاريع والأفكار الإفريقية للتنمية، ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير الشرعية.
• ترأست مصر واستضافت بشرم الشيخ الاجتماع الوزاري الثاني لمبادرة الاتحاد الإفريقي والقرن الإفريقي حول الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين في يونيو 2016.
• استضافت مصر بالأقصر، في نوفمبر 2017، المؤتمر الأول من نوعه الذي يضم كافة العمليات التي تتناول مسار الهجرة بين إفريقيا وأوروبا، وركز المؤتمر على مكافحة عمليات تهريب المهاجرين والإتجار في البشر، مع التركيز على الأشخاص القصر بدون مرافقين.
•استضافت مصر المنتدى الإقليمي الأول لهيئات التنسيق الوطنية لمكافحة الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين في إفريقيا في نوفمبر 2019.
• تم إطلاق المكون المصري من مشروع تفكيك شبكات الإتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين في شمال إفريقيا بالتعاون من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في يوليو 2020.
جهود مستمرة على المستوى المحلي
تم تأسيس “اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر” رسميًا في 23 يناير 2017 بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 192 لسنة 2017. وهي لجنة تابعة لمجلس الوزراء، وتضم 29 وزارة وهيئة، بخلاف رئيس اللجنة واثنين من الخبراء، وتختص اللجنة الوطنية بالعمل على رفع مستوى الوعي العام بمخاطر الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر. وتعمل اللجنة أيضًا على تعبئة الموارد اللازمة لدعم جهود مكافحة تلك القضايا، ودعم التنمية كأساس لمكافحة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر، وتوفير البدائل الايجابية لفرص العمل في مصر، ودعم مسارات الهجرة الشرعية، واستطاعت اللجنة وضع مجموعة من القوانين، منها القانون رقم 64 لعام 2010 لمكافحة الإتجار بالبشر.
وتم إصدار القانون رقم 82 لعام 2016، لردع وتعنيف جريمة الهجرة غير الشرعية؛ إذ نص القانون في مادته السادسة على أن “يُعاقب بالسجن وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها أو توسط في ذلك”.
هذا إلى جانب قيام وزارة الهجرة في عام 2019 بتنفيذ المبادرة الرئاسية “مراكب النجاة” للتوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، والتي تهدف إلى توفير فرص عمل مناسبة للشباب بالقرى والمحافظات الأكثر تصديرًا للهجرة غير الشرعية، مع توعيتهم بمخاطر هذه الهجرة. وقد تم تخصيص 250 مليون جنيه بميزانية الدولة لعام 2021 لدعم تنفيذ المبادرة في 70 قرية على مستوى الجمهورية، حيث ساهمت المبادرة في إطلاق مشروعات بقيمة 55 مليون جنيه. إضافةً للعديد من ورش العمل بهدف التوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، وكيفية مكافحة تهريب المهاجرين والإتجار بالبشر. ذلك بالإضافة إلى المجهودات التي تُبذل في إطار المبادرة القومية لتنمية الريف المصري “حياة كريمة” وما لها من نتائج مهمة في توفير سبل العيش الكريم للمواطنين، ومن ثم تقليل النزعة نحو الهجرة غير الشرعية.
وعلاوة على ذلك، عملت الدولة المصرية على خلق مسارات للهجرة الشرعية إلى أوروبا كأحد الحلول لظاهرة الهجرة غير الشرعية في ضوء احتياج السوق الأوروبي للعمالة المصرية الماهرة. ودائمًا ما تطالب الإدارة المصرية دول الاتحاد الأوروبي بضرورة العمل على عودة الاستقرار في الدول التي تعاني من عدم الاستقرار؛ إذ تتمثل أحد أهم أسباب الهجرة غير الشرعية في عدم استقرار بعض الدول، ما أفرز نزوحًا من جانب مواطنيهم في اتجاه أوروبا، إلى جانب مطالبتها للاتحاد الأوروبي بضخ استثمارات كبرى لتوفير مشروعات تنموية كبيرة لإيجاد فرص العمل للشباب في دول مصدر وعبور المهاجرين غير الشرعيين.
إشادات أوروبية بالجهود المصرية
لقد أشادت دول الاتحاد الأوروبي بجهود الدولة المصرية في مكافحة الهجرة غير الشرعية أو كما تسمى الهجرة غير النظامية، ومن هذه الإشادات:
• استعراض مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية الجهود المصرية التي تبذلها مؤسسات الدولة المعنية وأسلوب معالجتها لملف الهجرة غير الشرعية، ونجاحها على مدار السنوات الماضية منذ عام 2016 في إيقاف الهجرة غير الشرعية، وإدارتها المتميزة في استضافة أكثر من 6 ملايين لاجئ من دول المنطقة بالشرق الأوسط وأفريقيا دون أن يكون هناك معسكر واحد للاجئين.
• ما قاله “أنطونيو كوستا” رئيس وزراء البرتغال: يجب أن يتضامن الاتحاد مع الدول التي تتحمل حاليًا عبئًا ثقيلًا للغاية في استقبال اللاجئين، أثقل بكثير من الاتحاد، مثل الأردن وأيضًا مصر التي يجب أن تكون متلقية للدعم من الاتحاد الأوروبي.
• تأكيد “أوليفر فارهيلي” مفوض الاتحاد الأوروبي لسياسة الجوار أن الجانب الأوروبي يعول على مصر كمركز ثقل وشريك استراتيجي في تحقيق التوازن وصون السلم والأمن في جنوب المتوسط، ورغبة الاتحاد في مواصلة دفع وتطوير التعاون مع مصر على مختلف المستويات، في ضوء المصلحة المشتركة في التصدي للتحديات التي تواجه المنطقة، مشيدًا في هذا الإطار بالرؤية المصرية الثاقبة لتحقيق التنمية الشاملة بالبلاد، وبجهودها الحثيثة في مجالي مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف والهجرة غير الشرعية، إلى جانب نشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي وقبول الآخر، وهي القضايا التي تأتي في مقدمة أولويات الاتحاد الأوروبي، مما جعل من مصر نموذجًا إقليميًا يحتذى به ويحظى بدعم شركائها.
• في 15 سبتمبر 2018، خلال اجتماع ثنائي عقد قبل قمة الاتحاد الأوروبي في فيينا، هنأ المستشار النمساوي “كورتز” الرئيس “السيسي” على محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار والأمن، لا سيما مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وشدد على أن النمسا، بصفتها رئيس الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت، ترى مصر شريكًا محوريًا، نظرًا لدورها الفعال في استقرار الشرق الأوسط ونشر السلام في المنطقة.
• في إطار زيارته للقاهرة لبحث مواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أكد مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الهجرة “ديمتريس أفراموبولوس”، تقديره للجهود التي تبذلها مصر لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وأن الاتحاد الأوروبي يدرك الدور التي قامت به القيادة المصرية لحماية البلاد من اضطرابات كثيرة، الأمر الذي أنقذ منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ومن ثم الحفاظ على أمن المتوسط وأوروبا.
• خلال فعاليات قمة “فيشجراد” في العاصمة المجرية بودابست في أكتوبر 2021، قال رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” إن تحقيق أمن مصر في حدودها البحرية والبرية شيء مهم جدًا بالنسبة لمختلف دول أوروبا، موضحًا أن أمن أوروبا لا يبدأ من الحدود الصربية المجرية، وإنما يبدأ من الحدود المصرية؛ فمصر لم تسمح بعبور أي سفينة أو مركب من مراكب الهجرة غير الشرعية، مما يؤكد على أن مصر تمثل لأوروبا نموذجًا ناجحًا في مكافحة خطر الهجرة غير الشرعية، سواء على المستوى الداخلي المصري، أو على مستوى السياسات التي اتبعتها لحماية حدودها البحرية والبرية.
وفي الختام؛ يتضح أن اهتمام الاتحاد الأوروبي بتعميق العلاقات مع مصر والاعتماد عليها في مواجهة الهجرة غير الشرعية يعكس رؤيته للتداعيات الإيجابية التي تفرضها الأدوار التي تقوم بها مصر في مكافحة الهجرة غير الشرعية، وجهود دعم الاستقرار على المستويات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا؛ إذ باتت مصر نموذجًا ناجحًا في حوكمة الهجرة غير الشرعية.