
احتجاجات المياه في إيران قد تدفع بالبلاد إلى نفق الصراع بين القوميات وقبضة الحرس الثوري
في الوقت الحالي بدا أن البرنامج النووي الإيراني ليس المعضلة الوحيدة التي تؤرق القائمين على الحكم في طهران وعلى قمة هرمهم الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي”؛ فبعد احتجاجات شح المياه التي اجتاحت “خوزستان” في يوليو الماضي وهي المقاطعة التي تسكنها أغلبية “عربية”، تجددت الاحتجاجات مرة أخرى بنفس الدافع ولكن هذه المرة في أصفهان وكذلك في مدينة “شهر كرد” ومدينتي “جهار محال” و”بختياري” يوم الإثنين الماضي، وهي المدن الواقعة جنوب غرب إيران – إذ أثار حفيظة المتظاهرين مشاريع تحويل المياه من المدينة إلى مدن أخرى.
صراع القوميات
يبدو أن أسباب الاحتجاجات مختلفة في المقاطعات الإيرانية، ففي الوقت الذي اجتاحت التظاهرات أصفهان بسبب أن المياه التي تم نقلها للمحافظة تستخدم لأغراض الزراعة وليس لأغراض الشرب، فإن الاحتجاجات في “جهار محال” و”بختياري” كانت بسبب أن المياه يتم نقلها من المدينة إلى محافظات صحراوية مثل أصفهان، والخطير في الأمر أن الاحتجاجات قد ينجم عنها وجود صراع بين القوميات المختلفة نتيجة نقل المياه بشكل عشوائي من منطقة إلى أخرى. حتى أن مزارعي “جهار محال” و “بختياري” هددوا بمنع فتح السدود والإضرار بالموسم الزراعي في أصفهان علنًا وهي المقاطعة التي تضم أغلبية من الفرس، ولذلك تذهب لها معظم المشاريع في الوقت الذي تعاني فيه المناطق التي يقطنها أغلبية من العرب من شح المشاريع المائية.
وهو ما دفع البعض إلى القول بأن الأجهزة الأمنية هي من أقدمت على تدبير تلك الاحتجاجات، لتجبر الرئيس “الأصولي” إبراهيم رئيسي على التعاون معها باعتبارها الوحيدة القادرة على ضبط الحالة الأمنية في المحافظات لقمع الاحتجاجات؛ وقد بدأت بشائر هذا عندما قام رئيسي بتعيين القائد السابق لـ “الحرس الثوري” في محافظة أصفهان، غلامعلي حدادي، محافظًا على جهار محال وبختياري، بعد أن امتدت إليها مظاهرات العطشى- كما عين مسعود فلاحي”، أحد قادة الحرس الثوري، حاكمًا على مديرية الأحواز في محافظة خوزستان.
وهو ما يشير إلى انقلاب حدث في سياسات رئيسي انعكست في الارتماء على عتبات الحرس الثوري الإيراني، بعد أن كان قد وعد بإعادة النظر في حكام الأقاليم والمقاطعات وأنه لم يعد من الضروري أن يكونوا من مرتدي الزي العسكري، لتنحسر اختياراته مرة أخرى ما بين العسكريين والأصوليين من خريجي المدارس الدينية.
الانحناء للعاصفة
وفقًا للتقارير التي نشرتها مصادر إعلامية إيرانية، فإنه مع حدوث تغيرات في المناخ تتعلق بمعدل هطول الأمطار فإن الكثير من المناطق الإيرانية تعاني من حالة شح في المياه منها محافظتي أصفهان وخوزستان، وقد زاد الأمر سوءًا مع قيام الحكومة الإيرانية بالعمل على مشاريع لتحويل المياه من هذه المدن إلى مناطق أخرى في إيران- وبشكل عام فإن هناك ما لا يقل عن 200 بلدة وقرية في محافظة جهار محال وبختياري، يتم إمدادها بالناقلات المحملة بالمياه.
وعلى الرغم أن أصفهان من المحافظات الصحراوية التي يتم تزويدها بالمياه المنقولة، إلا أن المياه تستخدم لأغراض خاصة بالزراعة مما يترك أزمة العطش دون حل ولذلك طالب المتظاهرون بأن المياه التي يتم نقلها يجب أن تخصص لأغراض الشرب فقط، خصوصًا أن نهر “الحياة” أو “زايندة” وفي راوية أخرى “زايندة رود” وتعني باللغة الفارسية “النهر الولود”، من الواضح أنه لم يعد كذلك والذي يمر في المقاطعة قد جف تقريبًا بسبب استمرار نقل المياه منه عبر قناة صناعية إلى محافظة “يزد”.
وفي هذا السياق تثير المظاهرات في أصفهان قلق السلطات الإيرانية، من ناحية لأنها مستمرة منذ ما يقرب من أسبوعين حيث نصب المتظاهرون الخيام واعتصموا بها، ومن ناحية أخرى لأن المدينة تعد واحدة من المقاطعات المهمة اقتصاديًا وزراعيًا، ومن ثم فإن انتشار الاحتجاجات بها مع استمراريتها قد يؤدي إلى تردي الوضع الاقتصادي الذي هو متردٍ بالأساس، بفعل العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على إيران والمتعلقة بممارسات إيران النووية.
ولم يخرج الرد الحكومي عن إطار إلقاء اللوم على التغير المناخي وموجات الجفاف التي تضرب البلاد، في حين أن السبب الأساسي وراء كارثة شح المياه في إيران يرجع إلى سوء الإدارة والنقل العشوائي التعسفي للمياه من منطقة لأخرى، دون وجود دراسات حقيقية توضح التأثيرات وهو ما نجم عنه تراجع حصيلة الإنتاج في إيران، حيث قامت طهران في السنوات الأخيرة باستيراد كميات ضخمة من القمح على خلفية تراجع انتاجيتها، ولن يحل الأمر في وقت قريب إلا إذا انحنت الحكومة الإيرانية للعاصفة وغيرت من سياساتها المائية التعسفية التي أضرت بالبلاد.
ليست الأزمة الوحيدة
إضافة إلى الاحتجاجات التي اجتاحت المدن الإيرانية على خلفية شح المياه، كانت هناك موجة أخرى من الاحتجاجات منذ أسابيع بسبب عدم قدرة المواطنين الحصول على احتياجاتهم من البنزين، مما خلف حالة من الشلل في قطاع النقل وقطاعات أخرى عديدة مرتبطة به، وأرجع المسؤولون السبب إلى عطل تقني أثر على نظام الدفع بالبطاقات المدعومة وسط انتشار لقوات الأمن في بعض هذه المحطات، وهو الأمر الذي فسره البعض بوجود هجوم سيبراني.
وحسب وكالة أنباء إيرانية فقد خرجت حوالي 4300 محطة وقود من نطاق الخدمة، قبل أن تتمكن الحكومة من إعادة تشغيل 700 منها فقط، حيث ترتبط محطات الوقود بنظام تشغيل ذكي يعتمد على البطاقات الإلكترونية للحصول على الحصص المقررة، والجدير بالذكر أن أصفهان كانت من المدن التي اجتاحتها تظاهرات البنزين أيضًا.
قطاع الكهرباء
في الوقت الذي شهدت فيه إيران أزمة شح المياه كانت هناك بعض الأسباب الطبيعية المتسببة في الأزمة بالفعل، ومنها تراجع معدلات هطول الأمطار بنسبة 40% ولكن يعزى السبب الأهم إلى سوء الإدارة الحكومية للأزمة الذي خلق مشكلة أيضًا في قطاع الكهرباء، بعد أن خرجت محطات كهربائية مهمة عن العمل منها محطة “بوشهر” بسبب نقص مستوى المياه الموجودة في السدود، مما أدى لغياب العامل الأساسي لإمكانية توليد الطاقة الكهرومائية.
ولذلك فقد حذر المسؤولون عن قطاع الطاقة في إيران من أزمة كهرباء مزمنة مع اقتراب الشتاء، خاصة مع استمرار الجفاف ونقص مخزون الغاز وتهالك البنية التحتية، إضافة لصناعة عملة “بتكوين” التي يستحوذ عليها الحرس الثوري الإيراني؛ حيث تستهلك حجما كبيرًا من إنتاج الكهرباء. فيما بدا أن الحرس الثوري مسؤول عن العديد من الأزمات في الداخل الإيراني، إذ أنه وعلى الرغم من أن طهران تمتلك ثاني أكبر موارد الغاز في العالم، وواحدة من أغنى موارد النفط إلا أنها تعاني من تردي كبير في قطاع توليد الكهرباء.
في أفضل السيناريوهات إذًا فإن مشكلة الجفاف في المقاطعات الإيرانية ممتدة على مدى عقود؛ إذ أن ما يقدر بنحو 97% من البلاد يواجه الآن مستوى معينًا من الجفاف. ولكن ما يزيد من حدتها الآن، معاناة الشعب الإيراني من أزمات أخرى كان آخرها تفشي وباء كورونا، ويضاف إلى ذلك تردي الوضع الاقتصادي جراء تصفير صادرات الدولة المقلقة نوويًا من النفط، ولذلك فإنه قبيل استئناف مفاوضات فيينا لا ينبغي للغرب أن يفهم هذه الاحتجاجات باعتبارها تعبير عن الضجر من أزمة شح المياه فحسب، ولكنها علامة استفهام على شرعية النظام الثيوقراطي للملالي ككل، والدليل أن المتظاهرين هذه المرة رفعوا شعار على رجال الدين أن يرحلوا.
باحث أول بالمرصد المصري