
شطرنج المفاوضات النووية: ما التحولات التي طالت أوراق الضغط الإيرانية والغربية مؤخرًا؟ (2)
بعد استعراض أبرز التحولات التي طرأت خلال السنوات الماضية على أوراق الضغط الإيرانية فيما يتعلق بالمفاوضات النووية مع الغرب خلال الجزء الأول من هذه الورقة البحثية، نتطرق فيما يلي للتحولات الأخرى التي استجدت ولكن هذه المرة فيما يخص أوراق الضغط الأمريكية والأوروبية.
الجزء الثاني
تتعدد أوراق الضغط الأمريكية والأوروبية فيما يتعلق بالقدرة على التأثير في مسار المفاوضات النووية. وعلى الرغم من انحصارها خلال مفاوضات (2013-2015) في عددٍ غير كبير من الأوراق تمحور آنذاك حول العقوبات الاقتصادية والوضع المالي الإيراني في الخارج، إلا أن هناك تحوّلاتٍ أخرى جديدة أيضًا فيما يتعلق بمفاتيح التحركات الغربية خلال جولات المفاوضات العام الجاري، والتي من المقرر استئنافها بعد حوالي أسبوع من الآن.
المحور الأول- هل لا تزال العقوبات الاقتصادية أداة فعالة في التعامل مع إيران؟
لا شك أن عملية فرض العقوبات الاقتصادية والمالية على إيران والعديد من مسؤوليها خلال فترة ما قبل 2015 وأيضًا ما بعدها قد أثّرت بشكل كبير على مختلف جوانب العملية السياسية الإيرانية في الداخل والخارج، فضلًا عما تركته من آثار واضحة عند الحديث عن أبعاد الوضع الاقتصادي الحالي في طهران.
وكانت العقوبات قد لعبت خلال فترة ما قبل التوصل إلى الاتفاق النووي في 2015 الدور الأبرز والرئيس الذي قاد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في النهاية إلى التوقيع على اتفاق لوزان (2015). وقد استفاد الاقتصاد الإيراني لاحقًا من الانفتاح المالي والتجاري مع دول العالم، فتحسنت المؤشرات وارتفعت معدلات النمو على أرض الواقع بعد دخول الاتفاق حيّز التنفيذ في يناير 2016، كما فاقت احتمالات حدوث المزيد من التحسن الإيجابي التوقعات، ما بدا وقته أن إيران تنتظر انتعاشًا اقتصاديًا واسعًا.
ولكن هذا الانتعاش بنفس هذا القدر من التوقع لم يحدث على أرض الواقع، بل شهد الاقتصاد تدريجيًا المزيد من التدهور خاصة بعدما أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في مايو 2018. وهنا، دأب ترامب على توظيف العقوبات كأداة ضاغطة على إيران؛ رفضًا منه آنذاك لـ”صيغة” الاتفاق النووي. وجدير بالذكر أن ترامب لم يكن يعارض بالأساس التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ولكنه لم راضيًا عن الصيغة التي أجري عليها في 2015.
وأصبحت عقوبات ترامب فعّالة حقًا وهو ما أكدته المؤشرات الاقتصادية لاحقًا حينما تحدثت حول ما وصفته بعض التقارير بـ”الانهيار” الاقتصادي الذي تواجهه إيران، وكان من أبرز دلالاته الركود غير المسبوق في العملة الإيرانية (الريال) الذي وصل إلى أكثر من 280 ألف وحدة مقابل الدولار الأمريكي. وكان منع إيران من تصدير النفط والغاز، أو ما أعلنت عنه إدارة ترامب السابقة من “تصفير صادرات النفط الإيراني” أكثر الأدوات فعالية في عملية فرض العقوبات.
وإجمالًا، نجحت العقوبات الاقتصادية- ولا تزال- في الضغط على إيران، بل إن بعض المعارك العسكرية البحرية والبرية أو الجوية بين طهران وإسرائيل أو الولايات المتحدة ما هي إلا انعكاس ميداني لحجم وكم الضغوط التي تتعايش معها إيران محليًا. ولعل التصريحات والتأكيدات المتكررة من جانب المسؤولين الإيرانيين مؤخرًا، بدءً من المرشد الأعلى علي خامنئي وحتى نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية علي باقري كني، على أن هدف طهران من استئناف المفاوضات التي انطلقت أولى جولاتها في أبريل 2021 بالعاصمة النمساوية فيينا والرامية إلى إعادة الاتفاق النووي لما كان عليه، هو الرفع الكامل للعقوبات المفروضة على إيران لا يدع أي مجال للشك في حجم تأثير هذه العقوبات على الداخل الإيراني واقتصاد طهران في الخارج خلال السنوات الجارية. وعليه، فإن هذا يؤكد أن سياسة العقوبات الاقتصادية لا تزال فعّالة لدى القوى المتفاوضة مع طهران.
ولكن، هل لا تزال- وستظل- هذه العقوبات فعّالة بذلك القدر الذي كانت عليه قبل 2015؟
لنتحدث أولًا عن الواقع الحالي! فعلى الرغم من أن العقوبات، كما قيل، لا تزال مؤثرة كثيرًا، إلا أن هناك عدة عوامل قد تحد من آثار وفعالية هذه العقوبات على إيران لاحقًا، لعل على رأسها:
– سياسة حكومة الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي المعلن عنها:
أعلن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منذ الفوز بمنصب الرئاسة أواخر يونيو الماضي عن أنه سيطبق سياسة اقتصادية داخلية لا تجبر إيران كثيرًا على التعامل مع الخارج. وأكد “رئيسي” أنه لن يربط اقتصاد إيران بالاتفاق النووي، فضلًا عن أنه سوف يعتمد بشكل أكبر على سياسة الانفتاح الإقليمي تجاريًا وسياسيًا، بمعنى فتح آفاق جديدة للتعاون التجاري مع دول الشرق بدءً من الصين وحتى العراق.
ومع أن هذه السياسة الاقتصادية لا تختلف كثيرًا عما يُطلق عليه الإيرانيون “الاقتصاد المقاوم”، إلا أن التوجه نحو الشرق قد يقلل من آثار العقوبات، حسب رؤية الحكومة الجديدة في طهران.
– الاتفاقية الإيرانية الصينية لمدة 25 عامًا:
التي وقّع عليها البلدان في العاصمة طهران في مارس 2021، وهي التي تتضمن تعاونًا كبيرًا للغاية في مجالات عدة على رأسها الاقتصاد والتجارة، فضلًا عن النواحي الأخرى العسكرية والأمنية. وحسب البنود التي يتضمنها الاتفاق، التي لا تزال نظرية حتى الآن ولم يُعلن عن بعضها أو كثيرٍ منها، سوف تستثمر الصين 280 مليار دولار في صناعة النفط والغاز و120 مليار دولار في صناعة النقل الإيرانية، أي أن الصين سوف تكون المستثمر الأول في صناعة النفط الإيرانية. وبالإضافة إلى هذا، ترغب دول أخرى، مثل فنزويلا، في استيراد النفط الإيراني والتعاون معها مقابل المال. غير أن مثل هذه النقطة الأخيرة لا تبدو أكثر جدية أو فعالية.
وعليه، فإن كان الأثر الأكبر للعقوبات ينعكس على نفط إيران، فإن مثل هذه الاتفاقية الصينية الإيرانية يُحْتَمَل أن تحد – بشكل ما وبقدر ما- من آثار هذه العقوبات مستقبلًا. ومع هذا، فإن أصبح للاتفاقية الصينية الإيرانية تأثيرٌ كبير مستقبلًا على مسألة العقوبات، إلا أن طهران سوف تظل بحاجة كبرى إلى التعامل الاقتصادي والمالي مع الخارج، وهو ما لا تمنحه إياها الاتفاقية الصينية بشكل واضح. وتُعد هذه ورقة ضغط إضافية للمفاوض الأمريكي والأوروبي أمام إيران.
المحور الثاني- خلل خطير في النظام الأمني الإقليمي المحيط بإيران:
تمت الإشارة في الجزء الأول من هذا الملف إلى أن النفوذ الإقليمي الإيراني قد تراجع نسبيًا خلال فترة ما بعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي في 2018، مع التأكيد على أن التحركات الإيرانية في الإقليم لا تزال تمثل ورقة ضغط على أي حال.
ولكن خلال العام الجاري على وجه التحديد، استجدت على الساحة الأمنية الإقليمية المحيطة بإيران ملفات أمنية جديدة قد تقيد إمكانية ممارسة إيران ضغوطًا بوجه عام، خاصة عند الحديث عن نفوذها في إقليم الشرق الأوسط.
– التهديد القادم من الحدود الأفغانية:
على الرغم من أن صعود حركة “طالبان” الأفغانية مرة أخرى إلى الحكم في كابل في 15 أغسطس 2021 لم يكن بالمفاجئ لدى المراقبين من الدول أو المنظمات أو الأفراد، إلا أن هذا الحدث قد أوجد متسعًا كبيرًا من الفراغ الأمني لدى إيران تحديدًا على حدودها الشرقية. إذ يتطلب الأمر ولأشهر مقبلة أن تنتشر عناصر الحرس الثوري والجيش الإيراني على طول الحدود الشرقية للبلاد، ما يعني استهلاكًا كبيرًا لقدرات هذه القوات، خاصة الحرس، وتوجه أنظارها صوب حدود أخرى غير تلك الغربية المعتادة. وبعد توسع تنظيم “داعش-خراسان” الإرهابي على الأراضي الأفغانية بعد سقوط كابل، ازداد حجم التهديد وضرورة مواجهة جميع هذه المخاطر القادمة من الحدود الأفغانية.
إن هذه التهديدات المُشار إليها تؤثر بدون شك، ولو بقدر ضئيل، على قدرة وفعالية انتشار قوات الحرس الثوري إلى الغرب من الحدود الإيرانية. وإذا أضفنا إليها التأثيرات التي نتجت عن فرض العقوبات الأمريكية على دائرة الانتشار الإقليمي لإيران، سنجد أن الحرس الثوري والجيش الإيراني باتا منشغلين بالتحركات “النشطة” على أصعدة عدة في الشرق والغرب، وهو ما يجعل قدرة الانتشار الإيراني إلى الغرب من الحدود على وجه الخصوص، أي في بعض دول المنطقة العربية كالعراق، مقيدًا بعوامل جديدة طارئة مؤثرة، كما قيل، ولو بقدر ما غير كبير. وهو ما يعني أن استمرارية فعالية النفوذ الإيراني غربًا مهدد على أي حال.
-القوقاز ورقة ضغط جديدة في يد إسرائيل، وليس إيران:
أضحت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة أحد أهم اللاعبين في منطقة القوقاز الواقعة إلى الشمال الغربي من إيران. إذ تملك إسرائيل علاقاتٍ تجارية واقتصادية وعسكرية مع دولة أذربيجان، هذه الدولة التي تستحوذ على أهمية كبرى في مجال السياسة الخارجية الإيرانية على الأقل لانتماء حوالي 20% من سكان إيران إلى هذه العرقية. وتختلف بوجه عام العديدُ من المصادر في هذا الصدد حول ما يتعلق بنسبة الأذريين في إيران. ولكن على أي حال، فإن هذه العلاقات تُقلق وبشدة إيرانَ. ولا تتمتع إسرائيل بعلاقات جيدة فقط مع أذربيجان، بل ومع جورجيا وأرمينيا أيضًا، ما يجعل إيران شبه محاصرة بتواجد إسرائيلي على حدودها الشمالية.
ولعل أحد أهم المؤشرات الدالة على حجم التواجد الإسرائيلي في القوقاز، كان تزويد إسرائيل لأذربيجان بأسلحة متطورة حديثة خلال الحرب الأخيرة على إقليم “ناجورني قرة باخ” العام الماضي، إلى الحد الذي أرجعت معه بعضُ التقارير هزيمة باكو للقوات الأرمينية في تلك المعارك إلى توظيف أذربيجان لمثل هذه الأسلحة في الحرب. كما تعترف إيران نفسها بمدى ونطاق وتأثير هذه العلاقات حينما تشير في موضع آخر، إلى أن العناصر التي سرقت وثائق سرية إيرانية من قلب طهران عام 2018 عبرت الأراضي الأذرية وتوجهت نحو العاصمة طهران للقيام بالعملية. واستخدمت إسرائيل عن طريق تواجدها في القوقاز نفس استراتيجية الحصار الإيرانية لإسرائيل في سوريا ولبنان، ما يعني أن الحضور الإيراني في الشام بات يواجهه حضورًا إسرائيليًا موازيًا في القوقاز.
ولذا، فإن العاملين سالفي الذكر، أفغانستان والقوقاز، لا يدعان مجالًا للشك بأن هناك خللًا في النظام الأمني الإقليمي المحيط بإيران لا يصب في صالحها في النهاية، عند الحديث عن أمنها الإقليمي أو نفوذها في الإقليم أو أية مساومة سياسية مستقبلية قريبة مع الدول الغربية، بمعنى أن هذه التحولات تمنح المفاوض المقابل لإيران وبشكل مجاني قدرة أكبر على المناورة لصالحه.
المحور الثالث- القدرة السيبرانية:
على الرغم من أن إيران قد حققت، كما سبق القول في الجزء الأول من هذه الورقة، تقدمًا في مجال الحرب السيبرانية، إلا أنها ليست بأي حالٍ من الأحوال بالقدر والتقدم نفسه الذي تتمتع به القوى الغربية، وحتى إسرائيل، فيما يتعلق بهذه القدرة الإلكترونية الفعّالة. ومن جانب آخر، لا تستطيع إيران مواجهة معارك سيبرانية من جانب جميع هذه الجهات مرة واحدة.
ولذا، فإن اجتماع هذه القدرات السيبرانية للدول التي تُعد في حالة مواجهة مع إيران يشير إلى اختلال في توازن القوى لصالح المفاوض الغربي وليس لصالح إيران، ما يجعلها ورقة مساومة تفاوضية لصالحهم. هذا في الوقت الذي لا يخفى فيه أن تطور هذه القدرات لدى إيران يجعلها مصدر تهديد على أي حال، ولكن توازن القوى في هذه الحالة لا يذهب لصالحها.
الاستنتاج العام
بمقارنة التحولات التي طالت أوراق الضغط الإيرانية والأوروبية خلال هذه الورقة البحثية في جزأيها، نجد أن العوامل التي ستكون الأكثر تأثيرًا على طاولة المفاوضات المستقبلية بالنسبة للطرف الإيراني:
- تخصيب اليورانيوم عالي المستوى إلى 60%.
- مخاطر الصواريخ الإيرانية.
وعلى الجانب الموازي، تتبلور أبرز أوراق الضغط الغربية في المفاوضات في:
- العقوبات الاقتصادية والمالية.
- إتاحة وصول إيران إلى الأسواق الدولية المالية والاقتصادية.
بالنظر إلى هذه التحولات التي طرأت على هذه العوامل خلال السنوات الماضية، سنجد أن التغيرات قد طالت أوراقَ الضغط الإيرانية بشكل أكثر تهديدًا عما كانت عليه في فترة المفاوضات الممتدة من (2013-2015) والتي قادت إلى التوصل للاتفاق النووي الأصلي.
لذا، فإن القوى الأوروبية المتفاوِضة ستحاول بدءً من 29 نوفمبر الجاري حين استئناف المفاوضات في فيينا إيجاد حلول لتضخم مستويات التهديد الإيرانية الممثلة في هذين العاملين، سواء عن طريق إلزام إيران بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% أو بوضع الملف الصاروخي لأي شكل من أشكال التقييد، في ظل رفض إيراني بطرحه للتفاوض بالأساس.
باحث بالمرصد المصري