
تعديل المسار الانتقالي السوداني بين استمرار الفوضى وتحقيق الاستقرار
يبقى الوضع في السودان على ما هو عليه، هو شعار مرحلة تعديل المسار الانتقالي الذي فرضه رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021. وقد انطلقت أولى جلسات مجلس السيادة الأحد 14 نوفمبر بحضور كامل أعضائه الذين أعلن عنهم البرهان 11 نوفمبر بتمثيل للولايات السودانية وبعيدًا عن الشكل الحزبي الذي ألغاه بإخراج المكون المدني من المجلس بتعديل بنود الوثيقة الدستورية 2019، وفي انتظار تعيين ممثل للشرق السوداني.
ولكن على الرغم من ذلك، تستمر دعوات الاحتجاج من تجمع المهنيين السودانيين، والتنديد من الولايات المتحدة والعودة للحكومة الانتقالية التي تم عزلها، مع فرض عقوبات في ظل الوضع الاقتصادي الهش في السودان والذي ربما يؤثر على المقدرات العسكرية السودانية؛ إذ تحاول الولايات المتحدة الضغط من أجل العودة لما قبل 25 أكتوبر، وتسليم شركات الجيش السودانية للمدنيين؛ مما يدعونا للتعرف على مدى إمكانية أن تسهم قرارات البرهان في التخلص من تلك الضغوط، وهل يستطيع تحقيق مواءمات داخلية وخارجية خلال المرحلة المقبلة؟
استمرار المظاهرات وتشكيل مجلس السيادة الجديد
أصدر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في الحادي عشر من نوفمبر الحالي مرسومًا دستوريًا لتشكيل مجلس السيادة الانتقالي في البلاد والمكون من 13 شخصًا برئاسته واختيار محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبًا له، وعضوية الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي إبراهيم والفريق الركن ياسر عبدالرحمن حسن العطا والفريق مهندس إبراهيم جابر إبراهيم كريمة ومالك عقار والطاهر أبوبكر حجر والهادي إدريس يحيى ورجاء نيكول ويوسف جاد كريم محمد علي يوسف وأبوالقاسم محمد محمد أحمد وعبدالباقي عبدالقادر الزبير وسلمى عبدالجبار المبارك موسى.
فيما سيتم إرجاء تعيين ممثل لشرق السودان في مجلس السيادة الجديد لمزيد من المشاورات. وأدى الأعضاء الجدد القسم يوم الجمعة الماضي أمام رئيس مجلس السيادة ورئيس القضاء عبد العزيز فتح الرحمن عابدين بالقصر الجمهوري في السودان. ويرجع عدم تحديد ممثل شرق السودان في التشكيل الجديد، لعدم وضوح موقف الشرق والمجلس الانتقالي من مسار الشرق في اتفاق جوبا.
وبالإضافة إلى ذلك، ما زال هناك عدم إجماع في مجلس نظارات البجا المكون من 3 كيانات رئيسة على ترشيح شخصية واحدة، نتيجة وجود تباين في الآراء حول المقاطعة أم المشاركة في المجلس الجديد، مما يتطلب تنسيقًا داخليًا وإلا لن يكون هناك تمثيل شرعي فعلي لهم على ولاية الشرق لعدم شرعيتهم أمام كافة أعضاء البجا، بالرغم من دعمهم السابق لقرارات البرهان. وبالتالي فإن إحداث نوع من التوافق من الشرق قد تعترضه بعض المصالح التي يجب التوافق عليها حتى لا تؤثر على عملية المسار الانتقالي الديمقراطي بوصفه الإقليم الأكثر تأثيرًا حاليًا لوجوده على ممرات الربط السوداني بالميناء الدولي.
وفي الوقت الذي انطلقت فيه أولى جلسات المجلس بحضور كافة أعضائه، بالرغم من الحديث حول رفض ثلاثي قادة حركات الكفاح المسلح الحضور وهم (مالك عقار، الهادي إدريس، الطاهر حجر) والموقعين على اتفاق جوبا للسلام، والتي أعلنت مسبقًا رفضها للقرارات، رافضة قرار تعيين قادتها في المجلس دون استشارتها، اتهم بيان صادر عن حركة الهادي إدريس، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بمحاولة شق الصف الوطني من خلال قرار تشكيل مجلس السيادة، واصفًا القرار بـ “التكتيك الخبيث وغير الموفق زمانيًا”.
وعلى الرغم من تأكيد البرهان على إجراء انتخابات للوصول إلى المسار الانتقالي الديمقراطي خلال 8 أشهر والتعهد بتشكيل حكومة مدنية جديدة خلال أيام؛ إلا أن الدعوات ما زالت مستمرة من تجمع المهنيين السودانيين، للتظاهر برفض تلك القرارات لإحداث نوع من التأثير واستمرار عدم الاستقرار الداخلي.
إلا أن الوضع الحالي قد يكون أقل تأثيرًا من الاحتجاجات السودانية التي أودت بحكم البشير لانحياز الجيش لقرارات الشعب السوداني واعتباره خصمًا حاليًا، فأغلقت 5 جسور من الثمانية التي تربط مدن العاصمة الخرطوم أمام الاحتجاجات التي انطلقت السب الماضي تحت شعار “مليونية الغضب”، وعادت لفتحها الأحد، في ظل تصريحات لجنة أطباء السودان المركزية حول ارتفاع حصيلة قتلى المظاهرات إلى ستة أشخاص. وقد طالب المجلس المركزي لتحالف قوى الحرية والتغيير بالسودان بعودة الحكومة المدنية المعزولة بوصفها الحكومة “الشرعية” لمزاولة مهامها تحت قيادة رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك؛ فيما دعا الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للسودان، فولكر بيرتس، قوات الأمن السودانية لممارسة أقصى درجات ضبط النفس واحترام الحق فى التجمع السلمي وحرية التعبير، ودعا المتظاهرين إلى لحفاظ على مبدأ سلمية الاحتجاج، قبيل التظاهرات.
المواقف الدولية بين القرار الأحادي والعودة للمربع الأول
يبدو أن هناك تحالفًا أوروبيًا أمريكيًا في القضايا الأفريقية بشكل يتسم بالإصرار على العودة للمربع الأول في السودان، ففي بيان نادر وزعته الخارجية الأمريكية أعربت دول الترويكا في موقف مشترك مع دول الاتحاد الأوروبي عن قلقها البالغ من قرار التشكيل للمجلس الجديد، ونددت فرنسا منفردة بالقرار، واعتبرته إجراءً “أحاديًا” ينتهك الوثيقة الدستورية.
وطالبت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بضرورة الغاء حالة الطوارئ والإفراج الفوري عن المسؤولين المدنيين المحتجزين، ومنهم رئيس الحكومة الانتقالية المعزول عبد الله حمدوك لتجنب أي خطوات تصعيدية واتاحة الفرصة أمام اعادة مسار العملية الانتقالية الديمقراطية بإجراء حوار بنّاء.
وأعربت المندوبة البريطانية الدائمة لدى الأمم المتحدة بربارة وودوارد، عقب جلسة مغلقة لمجلس الأمن استمع فيها لإحاطة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس، عن قلقها بما وصفته أيضًا بالإجراءات الأحادية، وأن بيرتس يرى أنه لا مجال للحوار والحل السلمي، وطالبت بعودة الانترنت للبلاد وإنهاء ما أسمته بالعنف.
وأسفرت جلسة مجلس الأمن عن طلب من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والنرويج وأيرلندا وإستونيا بنفس المطالب الثلاثة وهي العودة للمسار الانتقالي تلبيةً لمطالب السودانيين في الشارع، والإفراج عن المعتقلين المدنيين مع إطلاق سراح حمدوك الموضوع تحت الإقامة الجبرية والذي رفضت حكومة البرهان مقابلته لسفراء الاتحاد الأوروبي مرة أخرى، والإعراب عن القلق بشأن الوضع الحالي مع ضرورة التوصل لحل سلمي. ورأى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أن “الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية تجعل القادة العسكريين يعتبرون أن لديهم حصانة كاملة”، داعيًا القوى العظمى إلى “التكاتف من أجل وحدة قرار مجلس الأمن لضمان وجود ردع فعال عقب الانقسامات الجيوسياسية الكبرى”.
فيما ركزت التصريحات الروسية على لسان دميتري بوليانسكي نائب رئيس بعثة روسيا بالأمم المتحدة، على ضرورة وقف العنف، وأبدى استعداده لتقبل العمل على وثيقة جديدة بشروط جديدة حين قال “لنعمل على وثيقة ما، ثم سنرى ما نتفق عليه. نحن جميعا منشغلون بما يحدث في السودان”.
وبدا تعيين عضو البرلمان السوداني السابق، أبو القاسم محمد برطم، عضوًا في مجلس السيادة الانتقالي الجديد، من أهم الإشارات لاستكمال ملف التطبيع مع إسرائيل؛ كونه من قاد التحضيرات لتشكيل وفد يضم شخصيات سودانية لزيارة إسرائيل، وبالرغم من المهمة المعلنة للوفد في العلاقات الثقافية والإنسانية بين السودان وإسرائيل، وليس على العلاقات السياسية أو الاقتصادية؛ إلا أن التقارير أشارت إلى أن الزيارة كانت من أجل تسريع عملية التطبيع.
ووجهت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعوة إلى السلطات السودانية لصون حق التظاهر السلمي، وضمان سلامة المحتجين. وصرح رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي بإرسال مبعوث للسودان في القريب العاجل لحلحلة الأزمة سياسيًا وانخراط الجيش السوداني في العملية السياسية والعودة إلى الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا للسلام، وبدء وفد الجامعة العربية محاولة حلحلة الأزمة بزيارة السودان ولقاء البرهان، ومن المقرر أن يلتقي الوفد مع القيادات السودانية من المكونات المختلفة؛ بهدف دعم الجهود المبذولة لعبور الأزمة السياسية الحالية.
وسبق وأن اتخذ الرباعي الدولي الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات موقفًا بالدعوة إلى عودة الحكومة المدنية الانتقالية ومؤسساتها وإنهاء حالة الطوارئ. وفي وقت سابق جدد سفراء الاتحاد الأوروبي في السودان دعوتهم إلى عودة البلاد للنظام الدستوري والإفراج عن المعتقلين، وجدد السفير السعودي في الخرطوم علي حسن بن جعفر، خلال لقائه مع البرهان التأكيد على موقف المملكة الثابت بوحدة السودان وناقش سبل الخروج بحل للأزمة الراهنة.
وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على السودان بوقف المساعدات المقدرة بنحو 700 مليار دولار، وكذلك فرنسا والاتحاد الأوروبي، مما يضع السودان أمام مأزق اقتصادي في ظل ضغط الديون في محاولة لعزل السودان حتى يخضع للشروط الأوروأمريكية، ومدى تقديمهم لضمانات فقد أعلن صندوق النقد الدولي، أنه “يتابع الأحداث في السودان بعد التطورات التي دفعت بعض المانحين الرئيسيين إلى تعليق مساعداتهم المالية، ومن السابق لأوانه التعليق على تداعيات الأحداث والتأكيد على مراقبة تلك التطورات بعناية”.
سيناريوهات الوضع السوداني
استطاع البرهان أن يقرأ دروس الماضي القريب، من خلال ضم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، واستيعاب المكونات الدينية والعرقية للولايات السودانية في التشكيل الجديد للمجلس الانتقالي بعيدًا عن فكرة التحزب، لإحداث نوع من التكاتف الداخلي. ولكنه في حاجة إلى تقديم تنازلات أمام استئناف مسار الشرق لاستكمال التحالف مع الجماعات المسلحة في شرق السودان.
وقد وعد البرهان بإقامة جيش سوداني وطني موحد، وهو ما تقابله الدعوات والضغوط الداخلية من المكون المدني المنقسم في ظل الاتفاق على هدف واحد، وهو العودة إلى المربع الأول واسترجاع الحكم المدني ورئاسته للمجلس السيادى، مما يدفع البرهان نحو استكمال عملية التشكيل الوزاري للحكومة، مما يضعنا أمام عدم التنسيق مع المكون المدني وتفاقم الخلافات، وفرض سياسة الأمر الواقع.
هذا إلى جانب الضغوط الدولية الاقتصادية، ومحاولة تشجيع العودة للمسار المحتوم دون إبداء مرونة في التعاطي مع القرارات الجديدة، لحلحلة الأمر الحالي في ظل عدم الحوار السياسي، والوصول لصيغة حكم توافقي جديد بين المكونين لضبط العلاقات الداخلية، وخاصة في ظل الرغبة الأمريكية الأوروبية في السيطرة على القرن الأفريقي وفرض السياسة الخارجية الأمريكية، كذريعة للتدخلات ضد العنف ورعاية الانتقال الديمقراطي في حال الحصول على تأييد داخلي وتحقيق المكون المدني تقدمًا على الأرض.
هذا أو تغيير السياسة الغربية في التعامل مع المكون العسكري من خلال التنسيق بشأن مدنية القوات المسلحة، مع الوعد بتقديم مساعدات عسكرية وشراكة شركات القوات المسلحة مع الشركات المدنية، وهو ما يحتاج مرونة من المكون العسكري. وهو أمر بعيد إذا لم يتم تكوين هيئة مشتركة وتحويل منصب وزير الدفاع إلى منصب سياسي بعيدًا عن أركان القوات المسلحة كما الحال في إثيوبيا المجاورة.
أما روسيا واسرائيل فتحكمهما العلاقة مع السودان بشكل برجماتي؛ الأولى من أجل استكمال اتفاقية بناء القاعدة العسكرية والتحالف في بورتسودان والتي تحتاج إلى تهدئة الشمال “وقف العنف” واستكمال المؤسسات السودانية التشريعية، أما الثانية فيحكمها الوصول إلى التطبيع الكامل من خلال وجود شخصيات داعمة، وهو ما يجعلها أكثر ترقبًا من التدخل المباشر.
باحثة بالمرصد المصري