
أسعار النفط إلى أين؟
اتفق المنتجون على خفض الاستثمار في الوقود الأحفوري لمجابهة التغيرات التي حدثت في المناخ عالميًا والسيطرة عليها، لكن يبدو أن أحدًا لم يقم بإخبار المستهلك. تلك هي الطريقة التي يمكن بها وصف المشهد العالمي في أسعار الطاقة، والذي يشهد ارتفاعات كبيرة عالميًا؛ بسبب النقص في المعروض وتشديد منظمة أوبك بخطتها للزيادة الشهرية، وشراهة شرائية لدى المستهلكين الذين أفاقوا من جائحة كورونا على نهم شرائي كبير لذلك الذهب الأسود، وهو ما يزيد احتمالات إمكانية أن نرى أسعار النفط مكونه من ثلاث خانات قريبًا.
ماذا حدث؟
في مارس 2020 وفور إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد وباءً عالميًا تسبب ذلك في انتشار حالات الإغلاق الجزئي أو الكلي بين دول العالم، وبالطبع توقفت المصانع عن الإنتاج، وهو ما حسن من جودة الهواء في مدن العالم خلال العام الماضي؛ إذ إن إغلاق المصانع ساعد الدول على الإقلاع عن إدمان النفط ولو لعام واحد، وهو ما جعل العالم يفكر في حقيقة أن الحكومات تمتلك الفرصة لإعادة بناء العالم بشكل أفضل، والتوجه على نطاق أوسع نحو الاقتصاد الأخضر النظيف منخفض الكربون، والإسراع في الخطوات التي يمكن أن تساهم في إيقاف تغير المناخ.
لكن يبدو أن تلك الفكرة المغرية لم تدم طويلًا -على الأقل في جانب الطلب- فقد عاد فتح الاقتصادات، واتخذت بلدان العالم سياسات توسعية وتحفيزية في محاولة لتقليل الآثار السلبية للانكماش الاقتصادي الناجم عن حائجة كورونا، فضلا عن ان أسعار النفط قد عاشت شهورًا بأسعار رخيصة خلال الانهيار الوبائي، وما أن بدأ اللقاح في الانتشار وبدأت دول العالم في فتح اقتصاداتها مرة أخرى وعودة الطلب مرة أخري، شهد ذلك أيضا عودة في الطلب على الاستهلاك العالمي للنفط ليرتفع إلى مستوى 12 مليون برميل يوميا “وفقا لوكالة الطاقة الدولية” وهي زيادة غير مسبوقة تاريخيًا في الطلب على أسعار النفط.
أشارت تقارير شركة بريتش بتروليوم إلى أن الطلب العالمي على النفط عاد إلى مستويات ما قبل جائحة الكورونا “عام 2019” وهو ما يعني أن الطلب عاد إلى مستوى 100 مليون برميل يوميًا. ولحسن الحظ توجد أزمة عالمية في سلاسل التوريد، وما زالت حركة الملاحة الجوية عالميًا لم تعد إلى مستويات ما قبل الجائحة. لكن حل مشكلة سلاسل التوريد وعودة الطائرات إلى التحليق مرة أخرى قد يتسبب في نمو آخر في استهلاك النفط في المستقبل.
أمريكا تعاكس أوبك
عندما تحدث الرئيس الأمريكي خلال انتخابات العام الماضي حول اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى التخلي عن النفط، لم يكن يتوقع أن يكون الشخص نفسه وبعد مرور عام تقريبًا هو من يسأل منتجي النفط في العالم لزيادة إنتاجهم من النفط. بذلت الولايات المتحدة الأمريكية جهودا كبيرة في إقناع منتجي النفط لزيادة الإنتاج، حيث تم الإعلان في الأول من أكتوبر عن عزم الولايات المتحدة زيادة عرض النفط في السوق لخفض الأسعار من خلال مخزوناتها، هذا فضلًا عن سؤالها لمنتجي النفط عن الإمكانية التي يمكنهم زيادة أسعار النفط بها بشكل سريع.
خطوة أخرى اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال مطالبتها لمنظمة أوبك لزيادة إنتاجها، وقد بات ذلك واضحًا من خلال رحلة جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى الرياض، والتي طالب فيها المملكة العربية السعودية بزيادة الإنتاج.
تصريح آخر كان خلال قمة جلاسكو للمناخ COP26 عندما هدد بايدن بالانتقام من روسيا والسعودية في حال لم يتوصلوا لاتفاق برفع أسعار النفط. لكن يبدو أن ذلك التهديد لم يقنع مجموعة أوبك+ المصدرة للنفط للحياد عن خطتها وتعديل الإنتاج في اجتماعها خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، حيث رفض الأعضاء مناشدات بايدن وتمسكوا بالخطة الموضوعة من ذي قبل والتي تستهدف زيادة إنتاج النفط بمقدار 400 ألف برميل يوميًا من إمدادات كل شهر.
آراء محللين
إن المدى المتوسط وطويل الأجل لأسعار البترول هو بحدود 50 دولارًا للبرميل، لكن السعر الحالي للبرميل هو أكبر بمقدار 30 دولارًا. ومن المفترض أن يدفع ذلك السعر المرتفع الاستهلاك العالمي إلى الانخفاض، لكن حقيقة الأمر أن الوضع الحالي لا يشير إلى أي انخفاض في الطلب العالمي، ولا يمكن التكهن بالسعر الذي سيتسبب في انخفاض الطلب على أسعار النفط.
لكن من الواضح أن سلوك المستهلكين في الوقت الحالي لم يعد مثل ما قبل الجائحة، ولا نعلم السعر الذي سينخفض الطلب عنده لتعود الأسعار إلى حالة التوازن، لكن على الأقل نحن نعلم أن عودة تحليق الطائرات بعودة حركة السياحة سيتسبب في رفع آخر لأسعار النفط؛ إذ إنه من غير المتوقع أن يلغي أحد من السائحين ورجال الأعمال مواعيدهم وتأجيل مواعيد طائراتهم لأن سعر النفط أكثر من 100 دولار مثلًا.
تتعدد وجهات نظر محللي النفط وأسواق الطاقة؛ يذهب البعض منهم للقول إن السياسات واللوائح الحكومية التي تبنت سياسات تشجع على تقليل الانبعاثات الكربونية للتوصل إلى عالم منخفض الكربون في المدى الطويل أوقفت الاستثمار بقطاع النفط أو على الأقل خفضت من تلك الاستثمارات. فعلى سبيل المثال كان العام 2014 عام ذروة للاستثمارات بقطاع النفط والطاقة حيث بلغت الاستثمارات حوالي تريليون دولار، وهو مبلغ أكبر بحوالي 600 مليار دولار عن المبلغ الذي تم استثماره في عام 2020، ومن غير المتوقع أن تعود الاستثمارات إلى سابق عهدها مثل تلك التي شهدها عام 2014.
وفقا لتوقعات شركة “Wood Mackenzie” يمكن أن يتراوح حجم المبالغ التي سيتم تخصيصها للاستثمار في قطاع النفط حوالي 500 مليار دولار سنويا خلال الفترة من عام 2021 – 2025، يمكن أن يتم تفسير الانخفاض في المبلغ بالانخفاض في تكاليف التطوير والاستثمار. لكن حتى ولو كان الافتراض قائمًا فإن الاتجاه العام لخفض الاستثمارات بات واضحًا.
ويمكن التأكيد على تلك الحجج من خلال النظر إلى سلوك شركات قطاع الطاقة مثل شركات شل وإكسون موبيل الأمريكية والتي أصبحت تتجنب إعادة استثمار الأرباح المتولدة، وبدلًا من ذلك تقوم بإعادة شراء الأسهم وليس تعزيز الإنتاج، وهي سياسات تأتي استجابة لرسائل المحاكم والمستثمرين النشطاء. وهو ما يدفع بعض المحللين إلى تبني احتمال أن تحدث فجوة كبيرة في العرض تشابه تلك الظروف التي حدثت خلال الفترة من 2005 – 2008 والتي تسببت في ارتفاع أسعار النفط ليصل إلى سعر قياسي بلغ 147 دولار للبرميل.
وهو نفس الرأي الذي يتبناه محللون آخرون ينظرون إلى ارتفاع الأسعار الحالية بأنه واقع حالي وصحي لصناعة النفط، لأن تلك الارتفاعات تحفز على تغيير السلوك الاستهلاكي للنفط، ومن ثم يتجه العالم إلى المسار السليم. لكن بالطبع توجد آراء أخرى معاكسة؛ فعلى سبيل المثال يتبنى باسم فتوح رئيس معهد أكسفورد لدراسات الطاقة أن المخاوف من قلة الاستثمار في قطاع النفط والتي ربما قد تكون تسببت في نقص الإمدادات هو أمر ليس بالجديد، بل هو موجود منذ سنوات دون أن يحدث أي تأثير على الإطلاق، وهو ما يجعل رأيه أن ارتفاع الأسعار الحالي في النفط سيتبدد في وقت مبكر من العام القادم.
في الإجمال، يبدو أنه لا يوجد اتفاق عالمي على اتجاه أسعار النفط، لكن توجد عوامل كثيرة تساهم في زيادة أسعار النفط ليتخطى حاجز الثلاث أرقام (أكبر من 100 دولار للبرميل) خاصة مع عودة السياحة وزيادة الطلب على وقود السيارات. لكن توجد عوامل أخرى يمكنها أن تساهم في التحكم في تلك الزيادات في الأسعار وهي أن تلك الزيادة في الأسعار تغري المنتجين لإعادة الاستثمار في ذلك القطاع ومن ثم زيادة الإنتاج مرة أخرى للوفاء بالطلب الحالي، هذا بالإضافة إلى تسارع جهود توليد الطاقة المتجددة، وتحويل الطلب عالميًا من الوقود الأحفوري إلى الاقتصاد الأخضر، وهو ما سيقلل الطلب عالميًا على الوقود الأحفوري بشكل كبير.
باحث ببرنامج السياسات العامة