ليبيا

مؤتمر باريس الثالث.. كيف نفهم الدور المصري في ليبيا؟

من نافلة القول الحديث عن تعاظم الدور المصري في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، من زاوية محاولة إيجاد حلول جذرية وجدية للأزمات المستمرة في هذا البلد منذ العام 2011. في هذا الإطار يمكن قراءة الدعوة التي وجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس عبد الفتاح السيسي، لحضور مؤتمر باريس حول ليبيا، الذي انعقد اليوم على هامش (منتدى باريس للسلام). هذه الدعوة لا تعد فقط تقديرًا من باريس لمصر ودورها في الملف الليبي -أحد أهم الملفات الإقليمية في الوقت الحالي- لكنها أيضًا تعد دليلًا على قناعة باريس بأن مصر حريصة على الحضور بفاعلية ضمن إطار أي جهد دولي يستهدف إيصال السفينة الليبية إلى بر الأمان.

حرص القاهرة على تثبيت دورها في الملف الليبي -الذي يعد من ثوابت أمنها القومي- يرتكز في هذه المرحلة على عدة مرتكزات أساسية تتوافق مع مقتضيات الأمن القومي المصرية والمصالح الوطنية الليبية، ومع مقتضيات القانون الدولي؛ أولها ضرورة خروج كافة أشكال الوجود العسكري الأجنبي من الأراضي الليبية، بما في ذلك المرتزقة والميليشيات والقوات الأجنبية. وكذلك كف اليد الخارجية عن التدخل في الِشأن الليبي، ودعم المسار السياسي والاقتصادي والعسكري الليبي، وفقًا لمخرجات مؤتمري برلين 1 و2، وقراري مجلس الأمن 2570 و2571، بانفتاح كامل على كافة المكونات الليبية، بما يشمل عقد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة في مواعيدها المقررة دون تأخير أو تحايل على القاعدة القانونية التي أقرها مجلس النواب مؤخرًا، وتقديم كافة أشكال الدعم للقطاعات الاقتصادية والأمنية الليبية، واستكمال جهود توحيد المؤسسة العسكرية الليبية.

القاهرة والمسار السياسي الليبي

على المسار السياسي، حاولت القاهرة مبكرًا الدفع بالوضع الداخلي الليبي نحو الهدوء والاستقرار، وذلك عبر مشاركتها الفعالة في تجمع “دول جوار ليبيا”، الذي تأسس عام 2014، أثناء القمة العربية الإفريقية التي تم عقدها في غينيا الاستوائية، وضم في عضويته بجانب مصر كلًا من الجزائر وتونس والسودان وتشاد والنيجر، بالإضافة إلى ليبيا؛ وذلك بهدف بغرض تقديم الدعم السياسي والأمني لليبيا، وقد عقدت هذه المجموعة منذ ذلك التوقيت سلسلة من الاجتماعات، آخرها كان في الجزائر هذا العام.

لم تكتفِ القاهرة بهذا الإجراء، بل انطلقت في عدة اتجاهات من أجل تهدئة الأوضاع في ليبيا، فشكلت “اللجنة المصرية المعنية بليبيا”، لتكون نقطة انطلاق لكل الجهود المصرية الرامية إلى إيجاد حلول للمعضلات المختلفة في ليبيا بدأت القاهرة في ديسمبر 2016، بحث إمكانية التوصل لحل سياسي للأزمة الليبية، حيث استضافت عددًا من الشخصيات الليبية المهتمة بالشأن العام، بحضور رئيس الأركان المصري آنذاك محمود حجازي، ووزير الخارجية سامح شكري. واتفق المجتمعون على أن اتفاق “الصخيرات” يعد أساسًا للحل السياسي في ليبيا، مع إدخال بعض التعديلات عليه.

في فبراير 2017، احتضنت القاهرة عدة اجتماعات ضمّت عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية آنذاك، وعددًا من أعضاء المجلس الرئاسي، والقائد العام للجيش الليبي، وأعضاء من مجلسي النواب والأعلى للدولة، وممثلي أعيان وقبائل ليبيا. وقد تم خلال هذه الاجتماعات الاتفاق على البدء في مراجعة تشكيل وصلاحيات المجلس الرئاسي، ومنصب القائد الأعلى للجيش الليبي، والتجهيز لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في غضون عام.

أدى بدء المعارك العسكرية على تخوم العاصمة الليبية في أبريل 2019، إلى تجميد الجهود المصرية لدفع المسارات السياسية الليبية قدمًا، لكن لم تتوقف المحاولات المصرية لإنهاء المعارك وإيقاف نزيف الدم. ويمكن اعتبار مواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي صرح بها خلال كلمته ضمن فعاليات قمة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، وقمة مجلس السلم والأمن الإفريقي حول ليبيا ومنطقة الساحل، اللتين عُقدتا في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في فبراير 2020، بمثابة المحددات الأساسية لموقف القاهرة من الأزمة الليبية. فقد حذر الرئيس السيسي حينها من الخروقات التركية للتوافق الدولي الذي تم التوصل إليه خلال مؤتمر برلين حول ليبيا في يناير 2020، خاصة ما يتعلق بالخط الجوي والبحري الذي دشنته تركيا، لنقل المرتزقة من الأراضي السورية إلى ليبيا، وأكد أن هذا النهج ستكون له تداعيات خطيرة على الداخل الليبي، وسيتسبب في استمرار المعارك الميدانية، وفي تهديد أمن دول جوار ليبيا، ودول الساحل والصحراء.

تلا هذا الموقف من جانب مصر، سلسلة من المواقف المفصلية الحاسمة، التي فرضت بشكل نهائي وقفًا دائمًا لإطلاق النار، بعد نحو عام من المعارك التي شهدتها التخوم الجنوبية والغربية للعاصمة الليبية. نقطة الانطلاق في هذه المواقف كانت في شهر يونيو 2020، عبر إعلان الرئيس المصري عن فرض القاهرة “خط أحمر” أمام القوات المتقاتلة في غرب ليبيا، يشمل مدينتي سرت والجفرة وسط البلاد؛ وذلك بهدف فرض إيقاف القتال على كافة الأطراف المتحاربة.

وترافق هذا الإعلان مع كشف النقاب عن مبادرة مصرية تحت اسم “إعلان القاهرة”، تم فيها التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي الليبية، واحترام كافة الجهود والمبادرات الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، والدعوة إلى وقف كامل لإطلاق النار في ليبيا، وتضمنت أيضًا بنودًا تتعلق بالمسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، كانت بمثابة خريطة طريق متكاملة للتسوية النهائية للأزمة الليبية، وأساسًا تم البناء عليه في كافة الخطوات اللاحقة لحل الملف الليبي.

في يوليو 2020، أضافت القاهرة إلى خطواتها الساعية للحل في ليبيا، مبادرة غير مسبوقة، استضافت من خلالها ممثلي قبائل وأعيان ليبيا، تحت شعار (مصر وليبيا شعب واحد.. مصير واحد)، وقد أرادت من هذه الخطوة توسيع دائرة تواصلها في ليبيا لتشمل كافة مكونات المجتمع الليبي، وترسيخ عدة قيم ومبادئ مهمة في العلاقات العربية – العربية، منها إعادة الاعتبار لدور القبائل الليبية، كلاعب أساسي ومهم لا غنى عنه في المعادلة الليبية، تعرض للتهميش طيلة السنوات الماضية، من المجتمع الدولي وبعض الدول الإقليمية، وهذا كان سببًا أساسيًا في استفحال الأزمة الليبية طيلة السنوات الماضية.

كذلك أرادت القاهرة التأكيد على أن المحدد الأساسي والوحيد لأي انخراط لها في الميدان الليبي، هو وجود توافرت له الشرعية الكاملة، ممثلة في الثالوث الليبي (البرلمان – القبائل – الجيش الوطني)، وبالتالي يعد تجاوب مصر مع مطالب هذه الأطراف، هو ترسيخ التوجه المصري نحو تفعيل الإرادة الحرة الليبية، التي ترفض الإرهاب والاحتلال، وتدعم العمل العربي المشترك، لإيصال ليبيا إلى بر الأمان.

بعد بدء تطبيق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، سارعت القاهرة إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات للبناء على هذا التطور المهم في الأزمة الليبية، والذي كان إعلان القاهرة وخط سرت – الجفرة الأحمر من أهم أسبابه، فاستضافت في نفس الشهر اجتماعات بحث المسار الدستوري الليبي، وبدأت في نفس التوقيت في خطوات سياسية لبناء الثقة مع بعض المكونات الليبية التي شابت علاقاتها مع القاهرة بعض الشوائب خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا المكونات الموجودة في العاصمة الليبية طرابلس.

فاستضافت مصر في سبتمبر 2020، وفدًا غير مسبوق من الغرب الليبي، يضم في عضويته خمسة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، مضافًا إليهم أربعة من نواب البرلمان عن طرابلس. وقد كانت هذه الاستضافة مفصلية، لأنها أكدت أن القاهرة ترغب في استيعاب كافة المكونات الليبية بلا استثناء أو إقصاء، وقد تم خلال هذه الزيارة، مناقشة عدة ملفات أساسية منها مسألة الانتخابات التشريعية، وإعادة تفعيل مشروع الدستور، وملف إعادة هيكلة المجلس الرئاسي. وطّدت القاهرة بشكل أكبر علاقاتها مع غرب ليبيا، فأرسلت في ديسمبر 2020، وفدًا رفيع المستوى، ترأسه مدير إدارة ليبيا في وزارة الخارجية المصرية، السفير محمد أبو بكر عبد الفتاح، إلى العاصمة الليبية. وعقد هذا الوفد سلسلة من المباحثات مع كبار المسؤولين في حكومة الوفاق آنذاك، على رأسهم وزير الخارجية ووزير الداخلية ونائب رئيس المجلس الرئاسي. وقد كانت هذه الزيارة بمثابة نقطة أساسية في الدفع نحو مزيد من حلحلة القضايا العالقة في ليبيا على كافة المستويات، خاصة وأنها أثبتت للمكونات الليبية في الغرب الليبي أن القاهرة منفتحة على كافة الأطراف الليبية، وأن رعايتها للمساعي الرامية إلى إيجاد حلول شاملة للأزمات الليبية هي رعاية نزيهة وصادقة، لا تقصي أحدًا. خلال هذه الزيارة أيضًا تم بحث آليات إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها بين الجانبين، وبحث إمكانية عودة السفارة المصرية في طرابلس إلى مزاولة نشاطها، ومناقشة سبل تدعيم وقف إطلاق النار.

تفعيل الدور الاقتصادي المصري دعماً لليبيا

منذ استضافة القاهرة لاجتماعات المسار الاقتصادي الليبي أوائل العام الماضي، تعاظم اهتمام مصر بتحسين الواقع الاقتصادي الليبي، وقد بدأت مرحلة جديدة في هذا الصدد، مع تنصيب الحكومة الليبية الجديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والمجلس الرئاسي الجديد برئاسة محمد المنفي. وقد كانت القاهرة هي الوجهة الأولى للمنفي بعد توليه منصبه الجديد، حين زارها في مارس الماضي، وعبر عدة مرات عن امتنانه للدور المصري، الذي ساهم بشكل رئيسي في تشكيل حكومة جديدة ومجلس رئاسي جديد في ليبيا، وطلب المنفي في هذه الزيارة من القاهرة أن توسع من دائرة دعمها لليبيا على كافة المستويات.

عززت القاهرة علاقاتها مع كافة المكونات الليبية منذ ذلك التوقيت، خاصة على الجانب الاقتصادي، وكانت بداية هذا التوجه هي الزيارة التي قام بها إلى العاصمة الليبية في أبريل الماضي، وفد وزاري مصري كبير، برئاسة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، تضمنت هذه الزيارة البحث في سبل دعم الدولة الليبية على كافة المستويات، وتم خلالها توقيع إحدى عشرة وثيقة للتعاون بين الجانبين في مجالات المواصلات والنقل، ومشروعات الطرق والبنية التحتية، والقطاع الصحي، وهو ما تحتاجه ليبيا بشدة في المرحلة الحالية، نظرًا لما أصاب بنيتها التحتية من أضرار بالغة نتيجة سنوات الصراع الميداني الطويلة.

تم بحث هذه المذكرات بشكل مستفيض، بجانب قضايا أخرى، خلال زيارة قام بها مدير جهاز المخابرات العامة المصرية، الوزير عباس كامل، إلى طرابلس في يونيو الماضي. وقد كان الحرص واضحًا من جانب مصر خلال هاتين الزيارتين، على التشاور مع كافة الأطراف الليبية الشرعية في شرق البلاد وغربها، للدفع في اتجاه دعم التوافق بين الليبيين – كل الليبيين بلا استثناء- وهو توجه لا يتوقف فقط على مجرد الإعراب عن الآمال والأمنيات، بل يتعداه ليصل إلى حد العمل الفعلي على الأرض لتجميع الليبيين على أرضية توافقية واحدة، يضاف إلى ذلك دعم الشعب الليبي فعليًا عن طريق تفعيل مذكرات التفاهم الاقتصادية بين مصر وليبيا.

تفعيل هذه المذكرات وغيرها، تم من خلال زيارة رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، إلى القاهرة في سبتمبر الماضي، والتي شهدت عقد الجولة الحادية عشرة للجنة العليا المصرية الليبية المشتركة، علمًا أن هذه المرة الأولى التي تنعقد فيها هذه اللجنة منذ ديسمبر 2009، وهو ما عُدّ تتويجًا عريضًا للانفتاح الكبير في العلاقات بين مصر وليبيا.

الوفد الحكومي الليبي المشارك في هذا الاجتماع ضم مسؤولي وزارات الاقتصاد والتجارة، والمواصلات والإسكان والخارجية والتعاون الدولي والتخطيط والشؤون الاقتصادية، والداخلية، والثقافة والتنمية المعرفية، والمالية، والخدمة المدنية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتعليم التقني والفني، والزراعة والثروة البحرية والرياضة والعمل والتأهيل، بجانب ممثلي أجهزة وشركات حكومية أخرى، مثل جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، والشركة العامة للكهرباء، وجهاز مشروعات الاسكان والمرافق، وجهاز تنفيذ مشروعات المواصلات، والشركة القابضة للاتصالات.

خلال اجتماعات هذه الدورة، تم توقيع عدة مذكرات تفاهم وعقود تنفيذية، تضاف إلى المذكرات السابقة التي تم توقيعها، وكذا التفاهمات التي تم التوصل إليها خلال الأسابيع الماضية، ضمن سلسلة المباحثات التي أطلقتها السفارة المصرية في ليبيا مع عدة وزراء ومسؤولين حكوميين ليبيين، من بينهم وزير الاقتصاد والتجارة ووزيرة الخارجية ووزير التخطيط ووزير النفط والغاز، بالإضافة إلى المباحثات التي تمت بين البلدين لإعادة استئناف الرحلات الجوية بينهما، وبحث مشاركة مصر في عمليات إعادة الإعمار.

إجمالًا، تم خلال اجتماعات هذه اللجنة، توقيع أربعة عشر مذكرة تفاهم وستة عقود تنفيذية، تضمنت مذكرة تفاهم بين الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة في مصر، ووزارة الخدمة المدنية بالحكومة الليبية في مجالات الإدارة والوظيفة العامة والخدمة المدنية، ومذكرة تفاهم لإنشاء اللجنة التجارية المشتركة بين البلدين، ومشروع مذكرة تفاهم في مجال التعاون الصناعي، ومذكرتي تفاهم في مجال الزراعة والحجر الزراعي، ومذكرة تفاهم حول التعاون المشترك في مجال الشؤون الاجتماعية، ومذكرة تفاهم في مجال أمن الطيران المدني، ومذكرتي تفاهم للتعاون في مجال مكافحة التلوث البحري وآثاره والتعاون في مجال البحث والإنقاذ البحري، ومشروع مذكرة تفاهم في مجال الإسكان والتشييد، ومذكرتي تفاهم في مجال الشباب والرياضة، ومذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجال النفط والغاز.

يضاف إلى هذه المذكرات، عقود ومذكرات تفاهم تتعلق بمشروعات خدمية عملاقة سيتم تنفيذها بأيدي مصرية على الأراضي الليبية، منها عقد بين جهاز مشروعات الاسكان والمرافق الليبي، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، وحسن علام للإنشاءات)، من أجل تنفيذ الطريق الدائري الثالث بالعاصمة الليبية، وعقد آخر لصيانة طريق “أجدابيا- جالو”، بين وزارة المواصلات الليبية، ممثلة في جهاز تنفيذ مشروعات المواصلات، وائتلاف شركات (أوراسكوم للإنشاءات، وحسن علام للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة). يضاف إلى هذين العقد عقد تصميم وتوريد وتركيب مشروع محطتين غازيتين لتوليد الكهرباء، الأولى في مدينة درنة والثاني في مدينة العجيلات، وقد تم توقيع هذا العقد بين الشركة العامة للكهرباء الليبية، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، والهندسة)، بجانب توقيع عقد استشاري خاص بنفس المحطتين، بين الشركة العامة للكهرباء الليبية وائتلاف من المكاتب الاستشارية المصرية.

الحرص على وحدة الداخل الليبي ومؤسساته

من النقاط اللافتة في تعامل مصر مع الأزمة الليبية، هو حرصها الدائم على تأكيد التواصل مع كافة الأطراف الداخلية دون استثناء، وهذا ظهر بشكل واضح كما سبق توضيحه فيما يتعلق مع مكونات الغرب الليبي. هذا الحرص كان أيضا تجاه المكونات السياسية والعسكرية في الشرق الليبي، حيث كان التواصل مستمرًا مع قيادة الجيش الوطني الليبي ورئاسة مجلس النواب، وكانت القاهرة حريصة دائمًا على إدامة التواصل معهما، وتأصيل التوافق والتعاون بين بعضهما البعض، وهو ما ظهر خلال استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي في سبتمبر الماضي، كل من المشير خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح.

على المستوى العسكري، كانت القاهرة سباقة في التنبه إلى خطورة الانقسام الذي تعاني منه هذه المؤسسة، ما بين شرق ليبيا وغربها، لهذا أطلقت مسار توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، عبر سلسلة من جولات المحادثات بين ممثلي القيادة العسكرية الليبية في كل من الشرق والغرب، كانت بدايتها في الثامن عشر من سبتمبر عام 2017، وانعقدت الجولة السابعة من هذه المحادثات في أكتوبر 2018. وقد كانت حصيلة هذه الاجتماعات هي الأساس الذي تم البناء عليه خلال الاجتماعات العسكرية المشتركة التي احتضنتها مدينة الغردقة المصرية يومي 28 و29 سبتمبر عام 2020، بين وفدين يضمان ضباطًا من الجيش والشرطة يمثلان حكومة الوفاق الوطني والقوات المسلحة الليبية، برعاية بعثة الأمم المتحدة، وأفضت هذه الاجتماعات إلى تنظيم عدة اجتماعات للجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، للمرة الأولى على التراب الليبي، أسفرت عن عدة اختراقات مهمة فيما يتعلق بتبادل السجناء بين شرق ليبيا وغربها، وكذلك التوافق مؤخرًا على خطة سحب المرتزقة والقوات الأجنبية من البلاد، وهي خطة تعد أحد أهم البنود التي تم النقاش حولها في اجتماع اليوم.

من النقاط اللافتة أيضًا في التعاطي المصري مع الملف الليبي، أن القاهرة كانت دومًا حريصة على تحفيز دور المؤسسات الدولية، والعمل على إنجاح كافة المبادرات السياسية الدولية والإقليمية الرامية إلى حل الملف الليبي، فشاركت بفاعلية في مؤتمر باريس حول ليبيا، الذي تم عقده في مايو 2018، وكذلك في مؤتمر باليرمو الذي عُقد في نوفمبر من نفس العام، ثم كانت مشاركتها الفعالة في مؤتمر “برلين-1” الذي عُقد في شهر يناير 2020، بمثابة أولى خطوات التوصل إلى وقف لإطلاق النار في ليبيا، وبدء مسارات سياسية واقتصادية وعسكرية لحل الملفات العالقة، وهو ما عرضته القاهرة خلال هذا المؤتمر، الذي شارك فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأبرز حينها خطورة التدخلات الإقليمية غير البناءة في الملف الليبي، ودشن تفاهمات أساسية مع دول مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا بشأن سبل الحل في ليبيا، ساهمت في توسيع دائرة الثقة الدولية في قدرة مصر على تصدر جهود الحل في ليبيا.

لهذا تمت دعوة القاهرة للمشاركة في اجتماع “برلين-2” حول ليبيا في يونيو الماضي، وكذا للمشاركة في اجتماع باريس اليوم، الذي تعلق عليه آمال كبيرة لحلحلة الجمود السياسي الحالي في ليبيا، وصولًا إلى عقد الانتخابات العامة بعد أقل من شهرين، علمًا أن قضية ليبيا كانت حاضرة بقوة  في الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة، حيث شدد وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكن خلال لقائهما منذ أيام في واشنطن على أهمية إجراء الانتخابات في موعدها، ودعم خطة إخراج كل القوات الأجنبية والمقاتلين والمرتزقة، وفى حال نجحت هذه الخطوة يمكن البناء عليها تجاه استقرار أكثر، يضمن لليبيين إدارة حياتهم وثرواتهم وهى الرؤية التي تمسكت بها مصر على مدى سنوات.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى