
بفضل 100 مليون صحة.. مصر خالية من “فيروس سي”
طوال سنوات، عاش ملايين المصريين في معاناة حقيقية دون علاج من هذا الفيروس اللعين الذي يأكل في أكبادهم دون رحمة، وكان الجميع يصرخ مطالبين بمواجهة هذا العدو الشرس القاتل” فيروس سي”. فقد كانت مصر على رأس دول العالم في انتشار هذا المرض، واليوم وبإشادة منظمة الصحة العالمية، تحتفل مصر بخلوها من فيروس سي في إنجاز عظيم يُنسب لنجاح مبادرة 100 مليون صحة، والتي حرص على إطلاقها ودعمها الرئيس عبد الفتاح السيسي.
” فيروس سي” العدو الشرس للمصريين
التهاب الكبد الفيروسي “ج” أو Hepatitis C هو مرض معدٍ يؤثر بشكل رئيس على الكبد وفيروس الالتهاب الكبدي “ج” HCV هو المسبب لهذا المرض، ويؤدي إلى الفشل الكبدي أو سرطان الكبد، وفي أكثر الحالات يؤدي إلى الوفاة. وينتقل من خلال اختلاط الدم بسبب حقن العقاقير في الوريد والمعدات الطبية غير المعقمة، والتعرض المهني العرضي عن طريق الجلد الشائع بين العاملين في مجال الرعاية الصحية وأطباء الأسنان. وتزيد معدلات الإصابة في بعض البلدان في أفريقيا وآسيا، وكانت مصر من البلدان الأفريقية ذات المعدلات المرتفعة جدا بنسبة 22% من عدد الإصابات حول العالم.
يعود تاريخ تفشِّي وباء الالتهاب الكبدي الفيروسي في مصر إلى حملات مقاومة مرض البلهارسيا في خمسينيات القرن الماضي؛ فلعدة عقود، استخدم أطباء المناطق الريفية حقن عقار الطرطير المقيئ من أجل علاج البلهارسيا، ولعدم معرفتهم بوجود الفيروسات التي تنتقل عن طريق الحقن، كان الأطباء يعيدون استخدام المحاقن الزجاجية لمرات عديدة دون تعقيم، ودون أن يعلموا أنهم بذلك ينشرون عدوى الالتهاب الفيروسي “سي” بين آلاف المرضى.
أعباء مادية واقتصادية
تسبب ظهور هذا المرض في مشاكل كبيرة للدولة المصرية، حيث لا تجد أسرة لا يوجد بها مصاب، وهذا بالتبعية أثر على اقتصاديات الدولة، كون المصاب لا يستطيع العمل أو الإنتاج، فضلًا عن منع عدد من المصريين من العمل في الخارج بعد صدور قوانين تلزم بخلو أي عامل مسافر من الفيروس.
وكان المواطن المصري المصاب يتكبد العناء نظير مرضه، فبتوقفه عن العمل، كان ذلك بمثابة مؤثر قهري على دخله ومعيشته، وكانت المؤتمرات الطبية الدولية تضع علامة حمراء على الدولة المصرية نظرًا لتفشي الفيروس بها، مما يلقي الحزن في قلوب الأطباء المشاركين في هذه المؤتمرات، إلى أن جاءت لحظة الخلاص من وصمة العار، لتصبح مصر رائدة يتحدث الجميع عنها وكيف استطاعت النجاة بنفسها وغيرها من الدول من هذا المرض اللعين.
مصر تتحدى فيروس “سي”
في عام 2018، قررت القيادة السياسية المصرية تبني مبادرة قومية تحت عنوان “100 مليون صحة”، للكشف عن المصابين بفيروس سي وأمراض مزمنة أخرى كالسكر والضغط والاعتلال الكلوي والسمنة وغيرها، وتوفير العلاج اللازم لهؤلاء المرضى بالمجان، وبالفعل لاقت هذه المبادرة رواجًا واسعًا من المصريين الحريصين على الاطمئنان على صحتهم، ونجحت المبادرة بالفعل في القضاء على فيروس “سي”.
وقد نشرت مجلة ” The New England Journal of Medicine” وهي أقدم مجلة طبية في العالم، تأسست عام 1812، بحثًا عن برنامج القضاء على فيروس سي في مصر، والذي قام به مجموعة من العلماء المصريين والجهود التي بذلت للقضاء عليه، تحت عنوان:” برنامج الفحص والعلاج للقضاء على التهاب الكبد الوبائي C في مصر”.
وتحدث البحث عن أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها جمعية الأمم المتحدة عام 2015، لمكافحة فيروس C، حيث حددت منظمة الصحة العالمية أهدافًا للقضاء عليه بما في ذلك الوصول إلى تشخيص بنسبة 90%، وتغطية العلاج بنسبة 80%، وخفض نسبة الوفيات المرتبطة به بنسبة 65% وذلك بحلول عام 2030.
وأشاد البحث بالمبادرة الرئاسية” 100 مليون صحة”؛ كونها استطاعت إجراء مسح شامل لفيروس سي ل 60 مليون شخص، مع نتائج متاحة في غضون 20 دقيقة من خلال اختبار تشخيصي سريع عن طريق الوخز بالإصبع. والمرضى الإيجابيون كانوا يتوجهون على الفور إلى أقرب مراكز متخصصة للتقييم والعلاج.
علماء مصريون في مواجهة الوباء
كل هذه الجهود، كان وراءها علماء مصريون، فمنذ عام ٢٠٠٦، تم تشكيل اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، حيث وضعت استراتيجية من ٢٠٠٧ حتى ٢٠١٢، ثم استراتيجية أخرى من ٢٠١٣ وحتى ٢٠١٨، وكان الهدف هو ضرورة توفير الدواء لأي مريض فيروس “سي”، وإتاحة التحاليل والكشف بالمجان. وبالفعل تم علاج ٢ مليون مصاب، حتى ٢٠١٨، وكان هناك ٢ مليون شخص آخرين، لا يعلمون أنهم مرضى، ويشكلون خطورة كبيرة في أنهم مصدر العدوى لملايين آخرين، وبالتالي كان لا بد من عمل حملة فحص شامل لكشف المصابين.
ومن هنا جاءت المبادرة الأكبر، والتي وفر لها السيسي كل سبل الدعم والتوعية، وبالفعل تم فحص حوالي 62 مليون ونصف مواطن عبر أحدث التقنيات، وتم اكتشاف 2 مليون و200 ألف مريض بالكبد، بلغ نسبة الذكور المشاركين في الحملة مشاركة قرابة 74,57% من الفئة المستهدفة وفي المقابل بلغ نسبة الإناث المشاركات 84,53% من إجمالي المستهدفات، وبهذا أصبحت مصر أول دولة على مستوى العالم تصل للهدف الذي وضعته منظمة الصحة العالمية للقضاء على الفيروسات الكبدية بحلول ٢٠٣٠، وقبل المدة المحددة بـ١٠ سنوات.
دولة لا تبخل على صحة مواطنيها
لم يكن هناك علاج حقيقي للمرض في العالم كله، إلا في عام ٢٠٠١، وهي حقن الإنترفيرون وأقراص الريبافيرين، ونسبة الشفاء كانت تتراوح ما بين ٤٠ و٥٥٪، هذا بخلاف أن تكلفة العلاج ضخمة، ولها آثار جانبية خطيرة، ولها محاذير كثيرة في استخدامها.
وفى عام ٢٠٠٦، تم توفير الحقن بثمن زهيد، وتم إنشاء أول مركز للفيروسات الكبدية، داخل المعهد القومي للكبد، وتوالت بعد ذلك المراكز المخصصة ليتم بعدها إنشاء ٢٠ مركزًا على مستوى الجمهورية، كانت تعالج ٤٠ ألف شخص سنويًا من ٥ ملايين مريض.
وفي عام ٢٠١٢، كان هناك تحول نوعي، فقد ظهر علاج يتم تناوله بالفم وليس له آثار جانبية، ونسبة نجاحه تتخطى ٩٠٪، من هنا تواصلت اللجنة القومية للفيروسات الكبدية، مع الشركة المنتجة للعلاج، وطلبت تجريبه في مصر، وعمل دراسات قبل تسجيل الدواء. وتم بالفعل إجراء الدراسة في ٣ أماكن بمستشفيات: جامعة القاهرة، ومعهد الكبد ومستشفى الكبد المصري في شربين، وتمت تجربة الدواء وثبت فاعلية الدواء وأمانه.
وتم تسجيل الدواء عالميًا في 2012، لكن المشكلة كانت تكمن في أن سعر العلاج ٩٠ ألف دولار لمدة ٣ شهور؛ وتفاوضت اللجنة القومية للفيروسات ووزارة الصحة المصرية مع الشركة المنتجة للعقار الجديد، وتم توفير الدواء بـ٣٠٠ دولار في الشهر، ليتم التفاوض مجددًا مع منظمة التجارة العالمية للحصول على استثناء من حقوق الملكية الفكرية من أجل إنتاج مجموعة الأدوية المضادة للفيروسات في مصر؛ وبدأت 20 شركة مصرية تصنيع سبعة أنواع من مضادات الفيروسات بتكلفة أقل بكثير من سعر السوق، ويتم علاج ما يقرب من ٥٠٠ ألف مريض سنويا.
بلغت تكلفة تطبيق برنامج الكشف والعلاج في “100 مليون صحة” 207,139,177 دولارًا أمريكيًّا، ومثلت التكلفة الإجمالية للعلاج 70,041,177 دولارًا. لكن هذا الإنفاق كان في محله، إذ بلغ معدل الشفاء بالنسبة للأشخاص الذين جرى تشخيص حالاتهم وعلاجهم خلال الحملة 98.8%.
تبلغ تكلفة علاج تكلفة علاج المريض الواحد ٧٥٠ ألف جنيه، والتكلفة الإجمالية لعلاج ٢.٢ مليون مريض، بلغت ٢ مليار جنيه، وهذا مبلغ بسيط جدا، مقارنة بالأسعار العالمية، فمصر توفر الدعم اللازم وتشعر بمعاناة مواطنيها، حيث أنه لو تم العلاج بأسعار العلاج عالميًا، كان سيعالج آلاف فقط من المصريين.
منظمة الصحة العالمية والتجربة المصرية
من مميزات هذه الحملة أنها بدأت قبل ظهور وباء كورونا الذي يسيطر على العالم حاليًا، والميزة تكمن في تنشيط النظام الصحي وزيادة وعي المواطنين تجاه أي مرض، وبالتالي سهولة مواجهة أي وباء مثل كورونا الآن، حيث تمثلت استراتيجية الدولة في التصدي لجائحة فيروس كورونا مثلًا في توفير مخزون استراتيجي لأدوية برتوكول العلاج وتوفير المستلزمات الطبية وتحديد عدد كبير من المستشفيات يصل إلى 500 مستشفى بكل المحافظات لتحويلها لعزل مرضي كورونا.
وكل هذه الاستعدادات موجودة لدى النظام الطبي في مصر، فحملة” 100 مليون صحة” وجدت لتدريب المنظومة الطبية على مواجهة التحديات، وتقديم كافة سبل الدعم الطبي للأشقاء في الدول العربية والأفريقية خاصة خلال جائحة فيروس كورونا أو غيرها من الأوبئة، فضلًا عن تقديم الدعم للعديد من الدول الأوروبية والآسيوية الصديقة.
وهذا أدى إلى إشادة منظمة الصحة العالمية بالتجربة المصرية في القضاء على فيروس “سي” فمصر قد أجرت أكبر مسح على مستوى العالم، وأوصت المنظمة بنقل هذه التجربة إلى دول أخرى، منها: جنوب السودان والصومال وتشاد وأوغندا، وإريتريا، وغيرها.
فمصر حولت تجربتها إلى إنجاز لم تصل إليه أي دولة في العالم حتى الآن، ولا حتى الدول العظمى، بحيث يعتبر إنجاز طبي غير مسبوق في تاريخ الطب وعلاج الأمراض ومكافحة الأوبئة. وأصبحت مصر من أهم الدول الشريكة للمنتدى الاقتصادي العالمي لتنفيذ مبادرة “البحث عن الملايين المفقودة” والتي تستهدف اكتشاف وعلاج مرضى “فيروس سي” حول العالم.
شهادة وفاة فيروس “سي”
أكد الكثير من الأطباء أنه تم القضاء على الوباء نهائيًا طبقًا للمعايير الدولية في قياس نسبة الإصابات بعد أن نجح النظام الطبي المحترف في القضاء على الفيروس من خلال عنصري الوقاية والعلاج بكل الطرق الحديثة ولن يعود مجددًا ما دامت هناك إجراءات وقائية. إجراءات الإشهاد العالمي لخلو مصر من فيروس سي، تتطلب إجراء مسح ديموغرافي، لمعرفة حجم الإصابات وحال وصولها أقل من ١٪ سيتم الإشهاد عالميًا؛ خاصة أن مصر لديها تقدير عالمي وشهادة من منظمة الصحة العالمية. وبفضل كل هذه المجهودات العظيمة، نستطيع الآن وبكل ثقة كتابة شهادة وفاة فيروس “سي” في مصر.
باحثة بالمرصد المصري



