
“قرية الفواخير” بمصر القديمة.. عندما يتحول الطين إلى جواهر
شهد العالم نقل موكب المومياوات الأسطوري في حدث مهيب لم نره من قبل، حضره وشاهده الملايين المبهورون بحضارة مصر القديمة والحديثة، وساروا مع الموكب العظيم إلى متحف الحضارات المصرية، إلى أن استقر الملوك العظام بداخل حجراتهم الملكية في سلام وإلى الأبد. المتحف الذي تقبع بجانبه القرية التي ورثت أهم وأقدم الحرف التي خلدت حضارة المصري القديم، وربما حضارة الإنسانية كلها، فقد شهدت ارتقاء الإنسان من البدائية المفرطة إلى التقدم والرقي، واستغل المصري القديم من خلالها ما قدمه النيل له من هدايا، ممثلةً في الطمي الأسواني لصناعة أجمل الجواهر الطينية داخل” قرية الفواخير” بالفسطاط بمصر القديمة.
تحف فنية تحاكي التاريخ
في هذه القرية ترى العمال يحملون بين أذرعهم “الفواخير” المصنوعة بأيديهم، الأيدي المصرية القوية، في اقتناعٍ تام بأنهم يعملون في هذه الأرض لتخليد هذا الفن المصري القديم الذي بدأ قبل آلاف السنين. وسيلفت نظرك ذلك الحرفي الذي خرج من دائرة كونه صانع للحرفة إلى فنان تشكيلي يطلق على نفسه اسم “فخراني”، اللقب الذي يعشقه؛ فهو دليل على فخره واعتزازه بمهنته، فتجده منهمكًا منغمسًا بعيون يملؤها التركيز، سعيًا منه إلى تحويل ذلك التراب إلى ذهب من طين.
فمنذ عشرات القرون، عرف المصري القديم صناعة الفخار، وازدهرت هذه الحرفة وخلفت وراءها تراثًا ثريًا زاخرًا بالتحف الفنية الأنيقة، فتشكلت من الطين روائع جمالية تقدم دليلًا حيًا على ارتقاء الثقافة، ورقي الحضارة، وجمال الفن على امتداد المكان ومر الزمان، فأصبحت صناعة تتوارثها الأجيال وتفتخر بها أكبر المتاحف الأثرية في العالم، وخاصة متحف الفن الإسلامي، ومتحف الحضارة، والمتحف المصري، والمتحف الاثنوجرافي.
داخل القرية ستجد كل شيء يمكن استخدامه في الحياة الشخصية، منها ما يشكل تحفًا وأعمالًا فنية وأغراضًا للزينة، ومنها ما يمكن استخدامه للأغراض الحياتية، كأواني الطهي والطواجن، وأواني الشرب كالقلل والأباريق، وغيرها من الأشكال الفنية. وبالطبع تختلف تلك الأشكال طبقًا لاختلاف الطين المصنع منه، فهناك نوعان من الطين، نوع يأتي من رواسب النيل، وينتشر في أغلب أرض الصعيد والدلتا، ونوع آخر شديد النعومة تزداد فيه نسبة كربونات الكالسيوم التي جرفتها السيول من الهضبات الجيرية.
ويرى المؤرخون أن صناعة الفخار اليدوي لم تختلف كثيرًا باختلاف العصور، وأنها مازالت تحتفظ بالكثير من طرق الصناعة، من تجهيزات للخامة الطينية، لمراحل التشكيل المختلفة، مرورًا لمراحل التجفيف، وصولًا إلى الحرق، ويستخدم في ذلك نفس الأدوات أو ما يشبهها من الدولاب اليدوي أو العجلة، والقوالب، وغيرها من الأدوات اليدوية.
فقديمًا، كان المصريون ينتظرون موسم الفيضان بفارغ الصبر، وبمجرد وصول الطمي، يسارعون بتجميعه وتقديمه لصانعي الفخار، لتصنيع الأواني والمستلزمات المنزلية والكهنوتية، ثم يتم حرقها ليتغير لونها طبقا لنوع الطمي الذي صُنعت منه؛ فالرواسب الطينية تتحول إلى اللون البني أو الأحمر، ورواسب الهضاب الجيرية يتحول لونها إلى اللون القرنفلي أو الأحمر الخفيف. وإذا زادت عملية الحرق يختلف اللون باختلاف قوة الحرارة، فتتحول إلى اللون السنجابي أو الرصاصي أو الأرجواني أو الرمادي المائل إلى الخضرة.
أما عن الحرفة نفسها فتختلف باختلاف نوعية الطمي نفسها، ولكن بصفة عامة يتم خلط المياه مع نوعية الطين في حوض التصفية، وهو حوض مبطن لمنع تسرب المياه، ثم ينقل الخليط بعد تنقيته من الشوائب إلى حوض التنشير، وهو حوض يسمح بتسرب المياه، ويترك الخليط أسبوعًا صيفًا وأسبوعين في الشتاء ليجف، بعدها يتم تقطيع الطين إلى قطع كبيرة، وينقل إلى ما يسمى بيت الطين، والذي يُعد الموضع الرئيس الذي يتم تخزين المادة الخام منه، تلك الطريقة تم استخدامها المصنع الملكي في الأسرة الفرعونية الأولى منذ 5300 سنه مضت.
الفخار بين الازدهار والاضمحلال
طيلة عشرات القرون الماضية، تعرض فن صناعة الفخار للعديد من المراحل بين الازدهار والركود وخاصة بعد ظهور الصناعات الزجاجية في بداية عصر الدولة الحديثة عام 1550 قبل الميلاد، ولكنها وبرغم كل الظروف صارعت وقاومت للبقاء، فبدأ الحرفي يجفف ما صنعت يداه بحرارة الشمس، ومع اكتشاف النار تم التجفيف بالحرق في الأفران.
وفي مصر يختلف اسم الفرن من مكان إلى آخر، ففي أسوان على اسم “التنورة”، وفي المنيا “الكوشة”، وفى قنا “الفاخورة”، في حين يُسمى في القاهرة “القمينة”، وكانت الرسومات والصناعات الفخارية تمثل مخططًا زمنيًا لتسلسل العصور، وذلك بالطبع قبل ظهور الكتابة، وحتى بعد ظهور التقويمات المصرية المختلفة.
خطوات إحياء الدولة المصرية لصناعة “الفواخير“
أصبح مشروع “قرية الفواخير” الآن في مهب الريح، وبدأت محافظة القاهرة في اتخاذ خطوات لمعالجة هذا المشروع الذي عانى لسنوات طويلة من الإهمال، والسعي نحو تطوير القرية والعمل على إزالة جميع العقبات لتحقيق نقلة تراثية وحضارية إلى جانب تحقيق آمال العاملين بها والذين يطلق عليهم “جواهرجية الطين”، فأعمال تطوير القرية تأتي في إطار تنفيذ استراتيجية القيادة السياسية بشأن دعم وتشجيع الحرف اليدوية، ومن أهم الخطوات التي تم اتخاذها:
- التشغيل الفعلي لأول فرن بقرية” الفواخير” والذي يعمل بالغاز الطبيعي بحيث يكون هذا الفرن صديقًا للبيئة.
- متابعة الوقوف على نسبة تنفيذ توصيل المرافق إلى باقي الأفران.
- العمل على رفع كفاءة القرية من حيث الإنارة والمساحات الخضراء وتحسين المظهر الجمالي ورفع مستوى النظافة.
- إنشاء نافورة بمدخل القرية.
- بناء معرض مفتوح وساحة انتظار للسيارات والحافلات الخاصة بالسائحين.
- العمل على إنشاء مول لعرض منتجات القرية بشكل حضاري وراقي يليق مع قيمة هذا النوع النادر من الفن.
- عرض منتجات الفواخير “أونلاين” وذلك للتوسع الرقمي الذي تتجه إليه الدولة، لتنشيط حركة البيع والشراء للمنتجات وزيادة الإقبال عليها، وتم إنشاء موقع “أيادي مصر” كمنحة من وزارة التنمية المحلية للتشجيع وتوصيل المنتج إلى السوق الإقليمي والمحلي.
- التنسيق مع وزارة السياحة لوضع القرية ضمن المزارات الخاصة بالرحلات السياحية، وتشجيع السياح على هذه الزيارة لتنشيط البيع والشراء للمنتجات.
- دراسة إقامة منطقة خدمات ومطاعم لتقديم أكلات المطبخ المصري.
- العمل على إعلاء سور القرية وتوفير أمن وحراسات لتأمينها ورفع كفاءة المركز التكنولوجي.
قرية “الفواخير” وارتباطها بمتحف الحضارة
أهم ما يميز القرية أيضًا هو موقعها الاستراتيجي ووجودها وسط العاصمة داخل منطقة القاهرة التاريخية بجوار أماكن أثرية مثل متحف الحضارة ومجمع الأديان وبحيرة عين الحياة التي تم تطويرها مؤخرًا. ووجود هذه القرية بالقرب من المتحف القومي للحضارة المصرية، والذي يعرض إنجازات الإنسان المصري في مجالات الحياة المختلفة منذ فجر التاريخ حتى وقتنا الحاضر هو الجانب الآخر المتعلق بصناعة الفخار، ففي المتحف يتم عرض طرق صناعة الفخار بالمتحف واستخداماته المختلفة بداية من الأواني الصغيرة حتى التوابيت الفخارية.
وتوجد في متحف الحضارة قاعة تعرف بـ”قاعة العرض المتغير”، ومن أهم ركائز العرض فيها صناعة الفخار، بدءًا من صناعته البدائية البسيطة وحتى أنواع الخزف المختلفة ذات الرسوم والزخارف، ومن بين أهم المعروضات شبابيك القلعة التي تمثل قطعًا مثالية غاية في الدقة.
باحثة بالمرصد المصري



