
شروط مُؤهِلة.. مستقبل الاعتراف الدولي بحكومة طالبان
طرح استيلاء طالبان على السلطة، في 15 أغسطس عقب الانسحاب المتعجل للولايات المتحدة، تساؤلات بشأن وضعيها السياسي والقانوني داخليًا ودوليًا، الذي يؤهلها للانخراط في علاقات طبيعية مع أطراف المجتمع الدولي كافة. وبينما تتطلع الحركة للحصول على اعتراف يمنحها الشرعية الدولية، لم يُقدم أي من الفاعليين الدوليين، على صعيد الدول أو المنظمات، على اتخاذ تلك الخطوة، بينما لا تزال الدول تتابع وتترقب بحظر سلوكيات الحركة، لتقييم مدى اتفاقها مع التعهدات التي قطعتها على نفسها. وفي هذا الإطار، تناقش هذه الورقة بعض القواعد الأساسية للقانون الدولي المتعلقة بالاعتراف بالحكومات، مع التركيز على أهمية الاعتراف بطالبان كحكومة لأفغانستان، مع استعراض الخيارات المتاحة للدول.
التوصيف والأبعاد القانونية للاعتراف الدولي بحكومة طالبان
بداية يجب تأكيد أن الاعتراف بالحكومة يختلف كليةً عن الاعتراف بالدولة؛ فبينما عدم إتمام الأخير يعني فقدانها الشخصية القانونية الدولية، فإن الأول يختص بإعلان الفاعلين الدوليين، سواء دول أو منظمات، قبولهم بالإرادة الحرة المنفردة إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع الحكومة المُعترف بها واعتبارها الممثل الشرعي والرسمي الوحيد للدولة. وفي الماضي، اعترفت دول كثيرة بشكل روتيني بالحكومات الجديدة، وكثيرًا ما كان الاعتراف صريحًا من خلال بيان عام بقبول الإدارة الجديدة كحكومة دولة أخرى.
لكن نظرًا لأن هذا الاعتراف يُمكن اعتباره موافقة أو تأييدًا لنظام ما بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة، تخلت العديد من الدول عن ممارسة الاعتراف الصريح بالحكومات الجديدة قرب نهاية القرن العشرين، وتركت الاعتراف ليتم استنتاجه من سلوكها الضمني تجاه الكيان المعني.
ومع ذلك، لا يرقى أي سلوك يتعلق بالتعامل مع حكومة دولة ما إلى الاعتراف الضمني بها؛ فقد تحافظ الدولة على اتصال مع كيان أو جماعة ما لعدة دواعي، على سبيل المثال، إعادة مواطنيها، أو تأمين الممتلكات في الأراضي التي يسيطر عليها الكيان، أو تقديم المساعدة الإنسانية إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة الكيان أو المجموعة دون الاعتراف بالضرورة بأي شخص كحكومة دولة أخرى.
وبالتطبيق على الحالة الأفغانية موضوع الدراسة، تنطلق الاتصالات الدولية مع الحركة من كونها سلطة أمر واقع يرتبط التعاطي معها بدواعي مصلحية بحتة تختص بمحاولة استبيان واستجلاء توجهاتها حيال القضايا التي تمثل شواغل رئيسية للأطراف الدولية، وفي مقدمتها ضمان الحماية والإجلاء الآمن لرعاياهم وآلاف الأفغان المتعاونين معهم، وإيصال المساعدات الإنسانية للسكان الذين يرزحون تحت أزمة اقتصادية حادة يُخشى أن ترتب موجه لاجئين لا أحد مستعد لتحمل تبعاتها، والخشية من تبني طالبان نهجًا عنيفًا والتحول إلى ملاذ آمن للحركات الإرهابية إذا ما فشلت حكومتها في أداء وظائفها الأساسية.
علاوة على الضغط لإنتاج نظام حكم أكثر انفتاحًا وحداثة يبتعد مسافات فكرية عن نموذج ما قبل أكتوبر 2001، عاكسًا النقلة الثقافية والاجتماعية والحضارية النوعية التي شهدها المجتمع الأفغاني على مدار عشرين عامًا والتي انتجت تركيبة ديمغرافية قادرة على استيعاب مقتضيات الحداثة والتقدم. هذا إلى جانب اعتبارات تتصل بالتحولات الجيوسياسية في منطقة آسيا الوسطى.
فمن جهة، تخشى واشنطن أن تدفع محاولاتها لعزل طالبان دوليًا الحركة للارتماء في أحضان الصين وروسيا اللتين تتطلعان –إلى جانب إيران وباكستان وتركيا – لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأمريكي. فيما تعتزم الصين تثبيت موطئ قدم في أفغانستان الجديدة بقيادة طالبان لخدمة مشروعها الجيوسياسي والجيواقتصادي الأكبر “الحزام والطريق” وتصفية الوجود الاستراتيجي للهند في البلاد. أما روسيا فتريد ضمانات ألا تتحول أفغانستان كقاعدة لتصدير وتحفيز الإرهاب في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة؛ طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، باعتبارها مناطق نفوذ تقليدي لها تدخل ضمن دوائر أمنها القومي المباشر.
ترتيبًا على ذلك وانطلاقًا من منهج براجماتي، بات التعامل مع طالبان خيارًا لا مفر منه بالنسبة للعديد من القوى الدولية والإقليمية ذات الارتباطات المصلحية بأفغانستان، بالنظر إلى التكلفة الباهظة لفك الارتباط، حيث قررت تبني مقاربة تحفيزية لا عقابية تقضي بحث طالبان على اتخاذ خطوات صحيحة.
وعليه، أجرى ممثلو الولايات المتحدة وعشر دول أوروبية والاتحاد الأوروبي محادثات وجهًا لوجه مع قادة الحركة في العاصمة القطرية، الدوحة، خلال الأسبوع الثاني من أكتوبر. وفي 26 من الشهر نفسه، التقى عضو مجلس الدولة ووزير الخارجية الصيني وانغ يي، بأمير خان متقي القائم بأعمال وزير الخارجية في حكومة طالبان، في الدوحة حيث اتفقا على إقامة آلية اتصال لمناقشة التبادلات المستقبلية. فيما أعلن الاتحاد الأوروبي عن حزمة دعم بقيمة مليار يورو (1.15 مليار دولار)، بما في ذلك 300 مليون يورو (346 مليون دولار) تم التعهد بها في وقت سابق، لمساعدة الشعب الأفغاني في خضم الأزمة. كما قدمت الولايات المتحدة، أكبر مانح لأفغانستان، 330 مليون دولار هذا العام.
الأمر الآخر أن الاعتراف بالحكومة ليس ضروريًا من الناحية القانونية للعلاقات الدبلوماسية؛ فقد حددت المادة 43 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية حالتين لانتهاء وظيفة المبعوث الدبلوماسي، هما: عند إخطار الدولة المُعتمدة للدولة المُعتمد لديها بأن وظيفة مبعوثها الدبلوماسي انتهت، أو عند إخطار الدولة المعتمد لديها للدولة المُعتمدة برفضها الاعتراف بالممثل الدبلوماسي كعضو في البعثة.
وعليه، يُمكن من الناحية القانونية للبعثات الأجنبية الاستمرار في أداء مهامها داخل أفغانستان ما لم يُقرر الطرفين غير ذلك، حتى في حالة عدم الاعتراف بنظام طالبان، لا سيّما أن هذا الوضع يمنح الدولة المُعتمدة ميزة نسبية لمتابعة التطورات الداخلية عن قرب، وإتاحة درجات متباينة من التواصل مع كافة الأطراف الفاعلة، كما أنها تُمثل بادرة حسن نية تُشير لاستعدادها التعامل مع حكومة بقيادة طالبان وبالتالي تنأى بنفسها عن تصنيفها باعتبارها “خصم”. ومن هذا المنطلق، احتفظت جميع الدول المؤثرة في المنطقة والمتطلعة إلى أدوار أكبر، كروسيا والصين وتركيا وإيران وباكستان، ببعثاتها الدبلوماسية في كابول، فيما يدرس الاتحاد الأوروبي إعادة فتح بعثته الدبلوماسية.
رغم ذلك، تتطلع طالبان للحصول على اعتراف دولي لأسباب تتعلق بالاندماج في النظام المالي العالمي والقدرة على الوصول لاحتياطات البنك المركزي الأفغاني المجمدة في الولايات المتحدة، وموارد صندوق النقد الدولي (بما في ذلك حوالي 440 مليون دولار في شكل احتياطي نقدي)؛ إذ تعتمد 70% من ميزانية البلاد على المساعدات الخارجية، وتواجه الدولة حاليًا فقدان قيمة العُملة وانهيار نظامها المالي وتراجع الواردات، والعجز عن دفع رواتب معظم الأطباء والمعلمين وحوالي نصف مليون موظف حكومي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وانتشار الجوع، وصعوبة استيراد الأدوية، ويتوقع صندوق النقد أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي للدولة بنسبة 30% هذا العام.
فضلًا عن رغبتها في اكتساب شرعية اختيار ممثلي الدولة في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى، وإيفاد السفراء، والدخول في مفاوضات دولية واتفاقات قانونية، وتمتع قادتها الحكوميين بالحصانة الدبلوماسية خارجيًا دون التعرض لخطر الاعتقال، لا سيّما أن معظم الشخصيات المشاركة في حكومتهم المؤقتة الحالية، مثل رئيس شبكة حقاني، مطلوبون للمحاكمة خارجيًا، كما يخضع ما لا يقل عن 14 عضوًا من حكومتها لشكل من أشكال العقوبات الأممية. وللمفارقة؛ فإن اعتراف الأمم المتحدة يعني أن طالبان سترث عضوية أفغانستان الحالية في هيئات الأمم المتحدة الأخرى، بما في ذلك منظمة التربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ولجنة وضع المرأة، رغم سجلها القاتم في تدمير المواقع الثقافية لليونسكو، مثل بوذا في باميان، وإساءة معاملة النساء والفتيات.
وعلى الجانب الآخر أيضًا، فإن الاعتراف بحكومة طالبان يجعل أفعالها منسوبة إلى دولة أفغانستان، مما يخلق آلية للمسؤولية القانونية الدولية بموجب المادة (10) من قرار الأمم المتحدة بشأن مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة دوليًا لعام 2021، التي تنص على التالي: “يعتبر فعلًا صادرًا عن الدولة بمقتضى القانون الدولي تصرف أي حركة تمردية تصبح هي الحكومة الجديدة لتلك الدولة.
وهذا يعني إمكانية مسائلتها بتهمة انتهاك حقوق الإنسان وخرق القانون الإنساني ورعاية الإرهاب. علاوة على ذلك، إذا قامت حكومة طالبان بارتكاب أعمال عنف خارج حدودها يُمكن للدولة التي تعاني من مثل هذه الأفعال انتهاج سلوك دفاعي؛ إذ تُنشئ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة حق الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح ترتكبه دولة ما فقط، ولا تُنشئ مثل هذا الحق تجاه العنف الممارس من فاعليين غير دوليين.
ملامح الموقف الدولي من الاعتراف بحكومة طالبان
لم تعترف أي دولة حتى الآن رسميًا بحكومة طالبان، أو تُعلن نيتها القيام بذلك، لكن حافظت عدة دول على الاتصالات مع الحركة والتأكيد على أن مثل هذه الاتصالات لا تعني الاعتراف بالوضع الحكومي القائم. ولما كان الاعتراف بالحكومات ليس مجرد عمل محايد قانونيًا وسياسيًا بل هو حكم يتعلق بشرعية الصراع على السلطة بين النظامين الجديد والقديم، فإنه يكون ضروريًا عندما تكون هوية الحكومة موضع نزاع أو شك.
وفي الحالة موضوع الدراسة، فإن رحيل نظام غني لم يستوفِ المتطلبات الدستورية، حيث لم يُقدم الرئيس أشرف غني استقالته للجمعية الوطنية بموجب الدستور. وإذا طبقنا المادة 67 من الدستور التي تُعطي للنائب الأول للرئيس (أمر الله صالح) الحق في المطالبة بالرئاسة في حالة استقالة الرئيس أو عزله أو وفاته أو إصابته بمرض عضال يعيق أداء واجبه حتى في ظل عدم وجود استقالة شرعية دستوريًا من قبل الرئيس؛ نجد أن هذه الحالة التي نصت عليها المادة لم تتحقق. وعليه، إذا تم اتباع الاتجاه العام في الممارسة المعاصرة للاعتراف فإنه لن يتم طالما يوجد ادعاء منافس وصحيح دستوريًا للسلطة، لكن الخطاب السياسي الناشئ حول حكم أفغانستان قد تجاهل إلى حد كبير كلًا من غني وصالح.
وفي غياب أي ادعاء صحيح دستوريًا، مثل عدم مطالبة غني أو صالح بالحكم، فإن الأمر الرئيسي لتقييم ما إذا كانت طالبان مؤهلة للحصول على وضع حكومي سيكون ما إذا كانت تمارس سيطرة فعالة على معظم أراضي أفغانستان وسكانها. وفي هذه الحالة، وبعد الاستيلاء على وادي بنجشير -المعقل الأخير لقوات المقاومة- باتت طالبان تسيطر على كامل الأراضي الأفغانية.
وعليه، يكون أمام المجتمع الدولي عدة خيارات؛ إما الاعتراف بحكومة الحركة وإقامة علاقات منتظمة معها، أو الاعتراف بها دون إقامة علاقات طبيعية معها، أو وضع شروط للاعتراف بها، أو إنكار وضعها كحكومة لأفغانستان. ومن قراءة المشهد الدولي يبدو أن المجتمع الدولي يتحرك ضمن المسار الثالث الخاص بـ “الاعتراف المشروط”، وهو ما يُمكن استجلائه تاليًا:
• على صعيد دول جوار أفغانستان: بحكم الارتباط الجغرافي، وفي بعض الأحيان العضوي، تقع دول الجوار في دائرة التهديد الأمني المباشر المرتبط بالتطورات الميدانية الأفغانية وخاصة المتعلقة بتنامي مخاطر التنظيمات الإرهابية المسلحة كتنظيم “داعش خراسان”، وهو ما دفعها لتفضيل العمل وفق نهج متعدد الأطراف يشمل التحرك في مسارين متوازيين؛ الأول، معني بتنسيق المواقف ضمن صيغ وآليات الأمن الجماعي القائمة كـ”منظمة شنغهاي للتعاون” و”الترويكا الموسعة” التي تضم روسيا والصين وباكستان والولايات المتحدة، و”منظمة معاهدة الأمن الجماعي”.
أما المسار الثاني، فيتعلق بالاجتماعات التي تستضيفها دول الجوار لمناقشة مقتضيات المرحلة المقبلة وتشمل، “صيغة موسكو” التي اجتمعت في 20 أكتوبر بمشاركة الصين والهند وباكستان وإيران وأوزباكستان وتركمانستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان، إلى جانب وفد طالبان. والاجتماعين الذين استضافتهما طهران وإسلام أباد بمشاركة دول الجوار الست؛ روسيا والصين وباكستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان.
وتدل المؤشرات على استعداد الدول المجاورة لأفغانستان الاعتراف بحكومة طالبان باعتبارها حقيقة فعلية تتطلب اتباع نمطًا من المشاركة البناءة معها، وإدماجها في التجارة الإقليمية، وإدراجها ضمن المشاريع الاقتصادية الإقليمية، لا سيمّا وأنها لا تتقيد باعتبارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك من القيم التي يضعها الغرب كشروط أساسية لإتمام الاعتراف. ومع ذلك، فقد انتهجت نمط الاعتراف المشروط، لكن بدرجة أقل تشددًا، حيث حددت قمة منظمة شنغهاي المنعقدة في 17 سبتمبر الماضي بدوشنبه ثلاثة معايير للاعتراف: 1-تشكيل حكومة شاملة، 2-ضمان حقوق الإنسان، 3-الالتزام بمبدأ عدم استخدام الأراضي الأفغانية للإرهاب ضد الآخرين.
وفيما يتعلق بالنقطة الأولى، يبدو أنهم يكتفون بالاندماج العرقي لا على أساس النوع الاجتماعي، فقد اعتبر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان أن حقوق المرأة لا يمكن فرضها من الخارج. وفيما يتعلق بالنقطتين الثانية والثالثة، يُحتمل ألا تتجاوز الالتزامات حد المناشدات والتحذيرات، وهو ما قد يُنذر باعتراف إقليمي سريع من شأنه أن يمنحها درجة من الشرعية ويتيح لها الوصول إلى الموارد المالية اللازمة، ويقلل من نفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على الضغط على الحركة بشأن الأهداف الأكثر إلحاحًا للوصول إلى المساعدات الإنسانية.
وإلى حين اتخاذ تلك الخطوة رسميًا، فإن دول الجوار الإقليمي تتطلع للعمل مع حركة طالبان انطلاقًا من قناعات بضرورة تجنب أزمة إنسانية وشيكة قد تؤدي لتدفقات اللاجئين إلى البلدان المجاورة وربما تمتد تأثيراتها لدوائر غير مباشرة كالاتحاد الأوروبي، كذلك يُمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار الوضع الهش في الدولة وبالتالي خلق مساحة للجماعات الإرهابية.
وبإلقاء نظرة قريبة على سلوك القوتين الأكبر في مجموعة الدول هذه؛ يتضح أن قبول روسيا للنظام السياسي الأفغاني الجديد يعكس تأثير ما يربو على عقد من الدبلوماسية السرية والعلنية مع طالبان، ويكشف تحفظات موسكو الجادة بشأن التزام الحركة بمكافحة الإرهاب العابر للحدود. ويتوقع أن تجمع استراتيجية روسيا تجاه أفغانستان بين الدبلوماسية والردع، بحيث تحتفظ بدرجة من العلاقات الودية مع طالبان، وتُهدئ المخاوف الأمنية المشروعة المتعلقة بتحول شمال أفغانستان إلى بؤرة للتنظيمات الإرهابية. وفي الوقت نفسه، تؤيد رفع تجميد الأصول الأفغانية وتحث المجتمع الدولي على المساهمة في إعادة الإعمار.
وعامةً، تأمل روسيا في ترجمة التجربة الدبلوماسية إلى تعاون أمني واقتصادي، بينما تستبعد حتى الآن التعاون العسكري التقني أو نقل الأسلحة إلى طالبان؛ إذ أكد السفير الروسي في كابول، ديمتري جيرنوف، إمكانية الاستثمار في احتياطيات أفغانستان الضخمة غير المستغلة من المعادن.
علاوة على ذلك، تعتمد موسكو منهجية ثلاثية للتخفيف من حدة عدم الاستقرار الإقليمي، تتضمن تعزيز مشاركتها مع باكستان بشأن الأمن الأفغاني باعتبارها قناة خلفية لا غنى عنها لطالبان. وتوسيع تعاونها الأمني مع الهند ضد تهديدات الإرهاب وتهريب المخدرات، والتنسيق مع شركاء آسيا الوسطى، فعلى سبيل المثال أطلقت منظمة معاهدة الأمن الجماعي تدريبات عسكرية في قيرغيزستان، وأجرت أوزبكستان وطاجيكستان أيضًا تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا، بينما وافقت شركة “روسوبورون اكسبورت” الحكومية على بيع أسلحة لدول آسيا الوسطى المتاخمة لأفغانستان.
أما بالنسبة للصين؛ فقد انفردت بنهج أكثر انفتاحًا وقبولًا لحركة طالبان، معربة عن احترامها لاستكشاف أفغانستان نمطًا يناسب ظروفها الخاصة، واحترامها لتنفيذ الحكومة المؤقتة للسياسات على الصعيد الوطني، كما أعلن وزير خارجيتها وانغ يي خلال اجتماع على مستوى الوزراء للدول المجاورة لأفغانستان في 8 سبتمبر أن حكومته قررت تقديم مواد غذائية ومواد لفصل الشتاء ولقاحات ومنتجات طبية بقيمة 200 مليون يوان (31.4 مليون دولار)، وصلت دفعتها الأولى إلى مطار كابول الدولي في 29 سبتمبر.
تلك الأجواء الإيجابية مهمة للطرفين؛ فمن جهة، تتطلع بكين إلى ملء الفراغ الأمريكي في أفغانستان لخدمة مصالحها الاستراتيجية المتعلقة بثبيت النفوذ في آسيا الوسطى، وتحويل أفغانستان لنقطة جديدة ضمن مشروعها “الحزام والطريق”، والاستفادة من معادنها الأرضية النادرة التي تتراوح قيمتها بما بين 1-3 تريليون دولار، والحصول على ضمانات بشأن عدم دعم الأويجور في شينجيانج وفك الارتباط بحركة تركستان الشرقية، وتجنب وقوع الصين في حالة اضطراب مرة أخرى بسبب الصراع السياسي الداخلي الذي يؤدي دائمًا إلى أزمات إنسانية.
ومن جهة ثانية، تنظر طالبان إلى الصين باعتبارها ركيزة للدعم المالي اللازم لتثبيت واستقرار نظامها عبر المساعدات والاستثمارات ومشاريع البنية التحتية، في ظل تجميد المساعدات المالية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلًا عن كونها بوابة محتملة للحصول على شرعية دولية. ومع ذلك، ترجح التقديرات أن الصين لن تبادر منفردة بالاعتراف بحكومة طالبان، وستفضل نهجًا منسقًا مع روسيا وباكستان وربما إيران.
• على الصعيد الغربي: فإن الاعتراف الدولي هو أحد الأوراق القليلة المتبقية التي يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من خلالها ممارسة الضغط على حكومة طالبان بشأن تشكيل حكومة شاملة تراعي التمثيل العرقي والنوعي، وضمان الإخلاء الآمن للرعايا الأجانب والمتعاونين الأفغان، وفك الارتباطات بالحركات الإرهابية المسلحة وبالأخص القاعدة وداعش، وحماية حقوق النساء.
وحتى الآن، لا يزال التواصل الدبلوماسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وطالبان محصورًا ضمن سياق براجماتي لا في سياق شرعنتها، ولا يتُوقع أن تفوز الأخيرة باعتراف أمريكي أوروبي قريب، بالنظر إلى محورية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لسياستهم الخارجية، وبالتالي فإن الاعتراف بنظام لا يُلبي الحد الأدنى من تلك المتطلبات يسقطهم في فخ المعايير المزدوجة.
الأمر الآخر المرتبط أكثر بالولايات المتحدة يتعلق بالصورة السلبية التي قد تلحق بسياسات الحزب الديمقراطي الخارجية، لا سيمّا أنه لم يتجاوز بعد صدمة الهزيمة التي تلقاها بالتزامن مع الانسحاب من أفغانستان، حيث اعترفت العديد من الدوائر السياسية والعسكرية والاستخباراتية بفشل التوقعات بشأن تبعات الانسحاب الأمريكي المتعجل. علاوة على تشبع الرأي العام الأمريكي بأفكار تتعلق بعدم كفاءة الحركة لإدارة أفغانستان كدولة حديثة يمكنها المشاركة بفعالية في نظام قانوني واقتصادي دولي متطور، وتصويرها كجماعة بدائية تبتعد كل البُعد عن قيم الحداثة الغربية.
ختامًا؛ بينما اعترفت ثلاث دول فقط بحكومة طالبان الأولى (1996-2001) هي باكستان والإمارات والسعودية، يبدو أن المجتمع الدولي حاليًا بات أكثر استعدادًا للتعامل مع حكومة طالبان، وربما الاعتراف بها مستقبلًا، انطلاقًا من منهج برجماتي يقتضي التعامل مع سلطة الأمر الواقع بدلًا من السعي إلى تغييرها، فضلًا عن أن طالبان باتت أكثر دراية بالمجتمع العالمي، وقدمت وعودًا بشأن احترام حقوق الإنسان.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



