سوريا

عودة ثقيلة.. إدلب تتصدر عنوان الصراع الروسي التركي في الشمال السوري مجددًا

منذ أسابيع عادت إدلب مجددًا إلى واجهة الحرب في سوريا، بعدما اختبرت حوالي 18 شهرًا من الهدوء النسبي إثر توقيع الجانبين الروسي والتركي اتفاقًا لوقف إطلاق النار في مارس 2020. فبعد انقضاء 18 شهرًا على هذا الاتفاق، عادت المواجهات الميدانية الخاطفة بين روسيا وسوريا من جهة، وتركيا من جهة أخرى، على ميدان إدلب.

إذ تجري في خطوط التماس هناك واحدة من أكبر عمليات التحشيد العسكري في الميدان السوري منذ عملية نبع السلام التركية في أكتوبر 2019. حيث أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية كبيرة اشتملت على ناقلات جند ومدرعات وقطع مدفعية ذاتية الحركة، علاوة على مئات الجنود، ومعدات لوجستية وأبنية إسمنتية ودبابات، بحيث وصل عدد الآليات العسكرية التركية التي دخلت إدلب مؤخرًا وحتى تاريخ 28 أكتوبر 2021، حوالي 556 آلية عسكرية. وتوزعت هذه الآليات على عدد من النقاط والقواعد العسكرية الصغرى جنوب وغرب إدلب، فضلًا عن وصول تعزيزات لنقاط المراقبة التركية على الطريق الدولية “إم -4”. وتجدر الإشارة هنا إلى إرسال الجيش التركي لتعزيزات عسكرية إلى نقاطه وقواعده بريف بلدتي تل أبيض وعين عيسى شمال محافظة الرقة، فيما أرسل رتلًا جديدًا يشتمل على معدات آليات مدرعة وشاحنات نقل ثقيلة تحمل كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد اللوجيستي إلى عدة مناطق لتعزيز قواعده في منطقة رأس العين بريف الحسكة.

أما الجانب الروسي – السوري، فقد واصل عمليات التحشيد البري أمام نقاط التماس في جبل الزاوية في إدلب، وانتقل كذلك إلى مناطق شرق الفرات، أمام نقاط التماس مع الفصائل السورية المسلحة الموالية لأنقرة ومواقع الجيش التركي هناك. حيث أجرت القوات السورية والروسية مناورات بالذخيرة الحية، الأحد الماضي في بلدة “تل تمر” الواقعة أقصى شمال محافظة الحسكة بتغطية من الطيران الحربي الروسي. فيما أرسل الجيش السوري تعزيزات نوعية ضخمة إلى مناطق التماس مع المجموعات الإرهابية والمسلحة في ريف إدلب الجنوبي، وذلك منذ مطلع أكتوبر الماضي، حيث شملت التعزيزات دبابات ومدرعات وآليات عسكرية ومئات من الجنود والضباط.

تحاول هذه الورقة معالجة أسباب التحشيد العسكري الأخير بطول الجبهة الشمالية السورية، والتي امتدت من الحسكة شرقًا وصولًا إلى إدلب غربًا، لتغطي بذلك غالبية الحدود السورية التركية، كما تحاول استشراف مستقبل الصراع هناك وخاصة بعدما وصلت تعزيزات عسكرية لقوات التحالف الدولي والجيش الأمريكي للحسكة، قادمة من إقليم كردستان العراق، وتعد التعزيزات الأخيرة للتحالف والولايات المتحدة هي الثالثة خلال شهر؛ بهدف دعم القوات الأمريكية المنتشرة شرق الفرات والتي يبلغ عددها حوالي 900 جندي.

أسباب التحشيد العسكري في الشمال السوري

يمكن تحديد أبرز أسباب التحشيد العسكري في شمال سوريا، ضمن النقاط التالية:

  • الرغبة التركية في السيطرة الميدانية على الشريط الحدودي مع سوريا: بالنظر لخريطة الإمداد والتموين الأخيرة للجيش التركي، نجد أن التعزيزات العسكرية التي أرسلتها أنقرة ضمت ثلاثة نقاط رئيسية (تل رفعت – منبج – عين عيسى – الحسكة).

ونجد تركز التعزيزات لقطع المنطقة الممتدة من الدائرة رقم (3) “عين العرب” حتى الدائرة (5) “الحسكة”. وتعتبر هذه المنطقة آخر “بلوك” كردي متنامي في الحزام الشمالي. وفي حال نجحت تركيا في فرض سيطرتها الميدانية على هذه المنطقة فإنها قد تفرض سيطرتها على غالبية الشريط الحدودي مع سوريا، وتباعًا التحكم في خطوط إمداد الجماعات السورية المسلحة، والتمهيد لتنفيذ عمليات التغيير الديمغرافي بمخزونها من اللاجئين السوريين. وخاصة وأن تركيا سخرت لهذا الهدف 4 عمليات عسكرية نظامية في شمال سوريا (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام – درع الربيع).

  • مكاسب عملياتية وسياسية لروسيا: للتحشيد العسكري المتواصل للجانب السوري والروسي في إدلب، مكاسب عملياتية لروسيا، منها تهيئة الظروف الميدانية لتصفية العناصر القوقازية المنضوية تحت لواء “هيئة تحرير الشام” جبهة النصرة سابقًا، وبعض الفصائل المسلحة كـ “ملحمة تاكتيكال” وتنظيم “جند الله” الذي يتولى قيادته “مسلم الشيشاني”. ولدى هذه الفصائل ارتباطات قوية بالحزب الإسلامي التركستاني والعناصر الشيشانية التي تنشط في إدلب تحديدًا.

هذا فضلًا عن دفع تركيا بالإيفاء بتعهداتها بفصل الجماعات المسلحة “المعتدلة” عن الإرهابية ” كهيئة تحرير الشام”. علاوة على تعزيز أوراق موسكو التفاوضية مع الجانب التركي، للمساومة في عدة ملفات تشمل منطقة جنوب القوقاز “الصراع الأرميني – الأذري” وشمال إفريقيا “تطورات الحرب في ليبيا”. وخاصة بعدما امتلك الاثنان “تركيا – روسيا” تشكيلات قتالية من المرتزقة. ناهيك عن إحكام السيطرة على الطرق الدولية (إم 4 – إم5)، وهما من أهم الطرق في أي خطط لإنعاش الاقتصاد السوري، وبدء عمليات الإعمار.

أما عن المكاسب السياسية، فتتعلق بإدارة روسيا لشبكة مواصلات المساعدات الإنسانية في سوريا، حيث استبق التصعيد الروسي التركي، نقاش دولي حول إيصال المساعدات الإنسانية للسوريين عبر معبر باب الهوى “شمال سوريا”؛ إذ تريد روسيا من وراء التصعيد إظهار تهديدها بقطع طرق المساعدات وتهديد سلامة القوافل. والدفع باستنساخ نموذج “درعا” في التسوية باتجاه مناطق شمال غربي سوريا، وأخيرًا باتجاه مناطق شرق الفرات.

ولا يمكن التغافل عن حساسية العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، إذ تتصل التطورات الميدانية بين روسيا وتركيا في سوريا بهذه العلاقة، ولهذا السبب تفضل موسكو الاستمرار في استراتيجية “القضم التدريجي” للمكاسب في هذه المنطقة، عوضًا عن إثارة غضب تركيا والكتلة الغربية، وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تدفق موجات من اللاجئين السوريين باتجاه تركيا ومن ثم أوروبا، في وقت ظهرت فيه أوضح صور الابتزاز الروسي لأوروبا في ملف الطاقة، لتمرير التصديق على خط نورد ستريم 2.

في النهاية، تشاهد الولايات المتحدة تطورات الأوضاع في شرق الفرات، تلك المنطقة التي تُحكم من خلال بروتوكولات التنسيق العسكري مع أنقرة وموسكو، لكنها تبدوا غير قادرة على ضبط وقائع الميدان هناك، كما كان الحال قبل بدء عملية نبع السلام 2019، بجانب أن التفاهمات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا تواجه تحديات متزايدة تمنع حصول أنقرة على ضوء أخضر لاستكمالها مشروع السيطرة على كامل الشريط الحدودي مع سوريا، ما يضعنا أمام أجواء مارس 2020، إلا أن تلك الأجواء لم تخلُ من معارك طاحنة دارت رحاها بين الجيش السوري والتركي والجماعات المسلحة الموالية له، دفعت بتركيا خلف الطريق إم 4، في وقت كانت تسعى فيه إلى طرد الجيش السوري بعيدًا عن جبل الزاوية في إدلب، وتوسيع النطاق الفاصل بين خطوط تماسها القديمة مع كل من سوريا وروسيا وإيران.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى