أوروبامصر

الخطوط المتوازية: لماذا تهتم مصر بدائرتي شرق ووسط أوروبا وما تبعات النشاط المصري هناك؟

كانت أحوال الجغرافيا السياسية بالمنطقة تتبدل بوتيرة متسارعة منذ أن تحولت موجات ما يُسمى بالربيع العربي إلى نماذج حية للتدمير الذاتي للدول (Self-Destruction) عبر الاقتتال المسلح الداخلي، الذي أفرز بدوره كيانات إرهابية شديدة التمرس في فنون حرب العصابات داخل المدن ومواجهة الجيوش النظامية وتدمير بنيتها التحتية العسكرية وقدراتها القتالية واستجابتها الكلية لأخطار انتهاك السيادة والغزو المباشر لأجزاء من أراضيها. 

كانت تلك الدينامية “التكتيكية” الصغيرة بمثابة “التروس” التي حركت مكينة التغيُّر لواقع الجغرافيا السياسية في المنطقة، وما سرّع من وتيرة هذا التغيُّر انتهاج القوى الإقليمية والدولية لسياسات خارجية نشطة تراوحت ما بين الدخول في تحالفات مرنة –مؤقتة– ومحاور صراعية –حضارية-، وأخيرًا استخدام القوة الصلبة من خلال التدخل العسكري المباشر لفرض الأجندات والمشاريع السياسية، وهو ما ظهر في التدخلات التركية في شمالي سوريا والعراق وخاصة منذ أكتوبر 2019، والإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والإسرائيلية في جنوبي لبنان وسوريا، والروسية في شبه جزيرة القرم في 2014، وفي الميدان السوري بأكمله منذ سبتمبر 2015، والأمريكية في سوريا منذ سبتمبر 2014. 

دفعت هذه التدخلات العسكرية المباشرة ببروز أنماط تهديدية جديدة أمام الدولة المصرية والتي كانت تكابد تداعيات موجتين ثوريتين 2011-2013، ووصول تنظيم الإخوان الإرهابي للحكم 2012. ومن جهة أخرى كانت مصر تكابد حالة الركود لسياساتها الخارجية التي ظلت حبيسة الدوائر التقليدية، ما فاقم من التحديات التي تواجهها البلاد، وحتّم عليها ضرورة استيعاب المتغيرات الطارئة في الجغرافيا السياسية ليس لمنطقة الشرق الأوسط ككل، وإنما كذلك في المناطق الفرعية المرتبطة بها، كشرق المتوسط وشمال إفريقيا وشرق ووسط أوروبا. حيث كانت العلاقات الخارجية للدول وطبيعتها بمثابة رأس الحربة مع الأدوات الاستخباراتية في التعامل الاستباقي مع التهديدات وتكوين التحالفات المرنة، والمحاور، وصياغة منظومات الردع كذلك.

وبدأت ملامح التغيير في التعامل المصري مع هذا الواقع بدءًا من منتصف العام 2014، حين تولى الرئيس السيسي دفة البلاد، حيث انتقلت السياسة الخارجية لمصر من مرحلة الكمون، إلى النشاط المُكثف ضمن دوائر جديدة كليًا. إذ كشف ذلك التحول عن امتلاك مصر القدرة على الحركة الخارجية، عبر جهاز دبلوماسي عريق ومخضرم، ومؤسسات تضع خطوطًا للحركة بما يتوافق والقدرات الشاملة للقاهرة والمصالح المصرية بصورة تكاملية أكثر منها بيروقراطية.

ما هو موقع شرق ووسط أوروبا في هذه الحركة النشطة؟

في خلال سبع سنوات (2014-2021) قام الرئيس السيسي بنحو 125 زيارة خارجية شملت 48 دولة في أنحاء العالم، وعقد في هذه الفترة 1000 اجتماع مع القادة والزعماء، وكان الرئيس السيسي الزعيم الوحيد في العالم الذي شارك خلال عام واحد (يونيو 2019 –يونيو 2020) في 27 قمة جماعية أو مصغرة أو ثلاثية على المستوى الإقليمي والدولي، وكذلك تم عقد 86 اجتماعًا دوليًا في مصر خلال العام يونيو 2020- يونيو 2021). وبتحليل خريطة تحركات الرئيس الخارجية من حيث (المناطق) التي ركز عليها في زياراته، نجد أن أوروبا قد جاءت في المركز الثاني ضمن برامج زيارات الرئيس الخارجية، بواقع (34) زيارة.

وبتشريح عدد (34) زيارة لأوروبا خلال السبع سنوات الماضية، يتضح تركيز الرئيس السيسي على منطقة شرق ووسط أوروبا، حيث زار كلًا من “بيلاروسيا – رومانيا – المجر” مرتين، حتى اللحظة، كما زار ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال.

اللافت وجود منطقة شرق ووسط أوروبا على قائمة زيارات الرئيس؛ إذ كانت الدائرة التقليدية الأوروبية سابقًا وخلال العقود الماضية تنحصر في ثلاثة عواصم (باريس – برلين – لندن). فلماذا جاء الاهتمام المصري بهذه المنطقة الهادئة نوعًا ما قياسًا بمناطق أخرى تستحوذ على زخم السياسة العالمية كغرب أوروبا؟

كشفت التحولات السياسية وحالة السيولة الأمنية التي اختبرتها منطقة الشرق الأوسط والمناطق المرتبطة بها عضويا، خلال العقد الماضي عن مناطق رمادية في العلاقات الخارجية، يُصعب معها تصنيف الدول على أساس “صديق أم عدو”. وظهر تصنيف جديد يُعرف بـ “الأعدقاء” أو “frenemy”، وهي دول وكيانات دولية تجمع كونها صديق وعدو في ذات الوقت. ينطبق هذا الوصف على حالة الدول التي تتشارك مع مصر تصوراتها الخارجية في قضية معينة، وتختلف معها في أخرى ضمن مستويات تتراوح بين الصدام الأيديولوجي وتعليق المساعدات وسحب السفراء.

أما على صعيد الكيانات الدولية، فيأتي الاتحاد الأوروبي ضمن هذا السياق أيضًا، حيث تبنّى مقاربة مشوشة تجاه ثورة الثلاثين من يونيو 2013، وقام بوقف توريد الأسلحة والذخيرة إلى مصر بشكل أساسي عقب فض بؤرتي رابعة والنهضة، أغسطس 2013. فيما ظل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لمصر، إذ يستحوذ على 30% من تجارة مصر الخارجية، وتجدر الإشارة أن قيمة التبادل التجاري بين مصر ودول الاتحاد الأوروبي شاملة بريطانيا خلال العام الماضي، وصلت إلى 26.4 مليار يورو منها 7.2 مليار يورو صادرات مصرية بتراجع 21% نتيجة تداعيات كورونا والتي أثرت على حركة التجارة العالمية.

وعلى الرغم من الاستيعاب التدريجي للاتحاد الأوروبي ككيان، ودوله النافذة ولاسيما فرنسا وألمانيا، لتحولات المشهد السياسي المصري منذ العام 2013، إلا أن الكتلة الغربية في الاتحاد أظهرت تزمتًا تجاه الإطار الأيديولوجي المتعلق بأدبيات حقوق الإنسان والحريات، وقامت بقياسه على الحالة المصرية من دون مراعاة ظروف مكافحة الإرهاب داخل وادي النيل وظهيريه الصحراويين وسيناء، وطبيعة التحولات الأمنية الحادة بمنطقة الشرق الأوسط وانتشار الفواعل العنيفة من غير الدول، وهو ما ظهر في إدانة البرلمان الأوروبي ما وصفه “أوضاع حقوق الإنسان في مصر” في ديسمبر 2020. ما استلزم تحركًا مغايرًا من القيادة المصرية تجاه أوروبا كوحدة دولية، بيد أن هذا التحرك بدأ مبكرًا ومنذ الزيارة الأولى للرئيس السيسي لدول الاتحاد في إيطاليا، ويمكن تحديد التحرك كالاتي:

  1. التجزئة مقابل الوحدة: قسمت القيادة المصرية أوروبا لدوائر، تتعامل معها بصور وأدوات متباينة، بدلا من أن تتعامل معها ككتلة واحدة، ومنها دوائر (شرق المتوسط + شرق ووسط أوروبا + غرب أوروبا). 
  2. الاقتصاد السياسي مقابل التحالفات الأمنية: تمثل أوروبا منذ انقضاء الحرب الباردة “مؤشر” منظومة العولمة بأجنحتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، حتى عندما تأسس الاتحاد الأوروبي في العام 1993، لم يحمل في طياته اعتبارات القومية والهوية الوطنية بقدر ما حمل روح منظومة الاقتصاد المعولم المندمج حد التشابك والتعقيد من النظام الدولي. 

من هاتين النقطتين السابقتين، نسجت القيادة المصرية خطوطًا “متوازية” تنطلق من القاهرة صوب أهم عواصم أقاليم ومناطق أوروبا، كل خط يمثل خطابًا سياسيًا يتفق والخصوصية الثقافية والسياسية للمنطقة والدائرة المستهدفة، ونتج عن ذلك:

  1. التحالف الثلاثي (مصر – قبرص – اليونان).
  2. إنشاء المنظمة الإقليمية لمنتدى غاز شرق المتوسط (مصر – قبرص – اليونان – إيطاليا – فلسطين – الأردن – إسرائيل) مع مثول كل من الولايات المتحدة والامارات وفرنسا كأعضاء مراقبين. 
  3. مثول أوروبا كأكبر مورد للأسلحة والتقنية الحديثة الخاصة بالحرب الحديثة (الجو – بحرية).
  4. تثبيت مشاركة مصر ضمن تجمع قمة “فيشجراد”. 

ولعل النقطة الرابعة الأخيرة، كللت الجهود المصرية المستمرة منذ العام 2016 تحديدًا في تدشين علاقات دبلوماسية واستخباراتية مع دول شرق ووسط أوروبا، حيث يضم تجمع فيشجراد كلًا من “رومانيا – المجر – جمهورية التشيك – بولندا”، وهي جميعًا أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما يطغى الطابع القومي – الإقليمي على فكر القائمين على المجموعة، باعتبار أن ما كان مطلوبًا في ذلك الوقت هو العمل من أجل ملء الفراغ الأمني والجيوسياسي الذي سيطر على المنطقة الشرقية من أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة. ويتبني التجمع تأمين تمثيل عادل للأعضاء المنتمين حديثًا إلى الاتحاد الأوروبي، داخل ما يعرف بمركز خدمات العمل الخارجي الأوروبي (EEAS) انطلاقًا من رغبته في تأمين “التوازن الجغرافي الملائم، والحضور لكل الجنسيات من كافة دول الاتحاد الأوروبي”. وكثيرًا ما يصطدم مع الاتحاد الأوروبي في ملفات الهجرة وسياسات طلبات اللجوء. 

وتحل مصر في هذا التجمع للمرة الثانية منذ العام 2017، وبالنظر للملفات التي طُرِحت فإنها جميعًا حملت توافقًا أوليا بين مصر ودول المجموعة حول قضايا حقوق الإنسان واللجوء والقضايا الأمنية ذات النطاق الإقليمي وملفات الطاقة، إذ يمكن البناء على هذا التوافق لتحقيق هدفين:

الأول: تقريب وجهات النظر بين مصر وقلب الكتلة الغربية وحلحلة الجمود في نظرتها القيمية والأخلاقية لقضايا حقوق الإنسان والحريات. 

الثاني: تدعيم شبكة العلاقات والتحالفات المصرية في المجال الحيوي

إلا أن منطقة شرق ووسط أوروبا تحمل خصوصية أمنية وثقافية وتاريخية، تجعلها في قلب أحداث الشرق الأوسط، حيث تعد منطقة شرق ووسط أوروبا من أكثر المناطق التي تحتوي دولها على قدرة معقولة للتصنيع العسكري الخفيف – المتوسط، ومخزون هائل من الأسلحة السوفيتية القديمة والفائض عن حاجاتها الدفاعية، مما حولها إلى حلقة مهمة في دورة معقدة لتصدير السلاح لبؤر الصراع في الشرق الأوسط والتنظيمات الإرهابية عن طريق وسطاء لمجتمعات الاستخبارات.

حيث أكد التقرير الصادر عن كلٍّ من “شبكة البلقان للتحقيقات الإخبارية” و”مشروع تقارير الجريمة المنظمة والفساد”، تحول دول شرق ووسط أوروبا إلى فاعلين مركزيين في سوق تصدير الأسلحة الصغيرة والمتوسطة إلى بؤر الصراعات الإقليمية عبر تعاقدات بلغت قيمتها حوالي 1.2 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2012 و2016. وقد تطرق المرصد المصري في إحدى ورقاته التحليلية المنشورة بتاريخ نوفمبر 2019 إلى منطقة شرق أوروبا وموقعها من خطط رعاة الإرهاب في المنطقة، في ورقة ” شرق أوروبا.. أنبوب أسلحة بالمليارات لبؤر صراع في الشرق الأوسط“. 

خاتما، وفر توظيف ظاهرة “الأعدقاء” أو “frenemy” في العلاقات الدولية نتيجتين، الأولى هي تواضع التوقعات بما يمكن أن تقدمه دول أخرى لمصر، والثانية، ارتباط أي تنسيق سياسي عالٍ في أي قضية بمقابل، وعليه فإن مبدأ التجزئة في التعامل مع الكيانات والتجمعات الدولية قد يبدو الخيار الأمثل للنموذج المصري، على أن يكون التحرك ضمن هذا المبدأ بخطوط متوازية تُراعي حالة التنوع والتباين بين مختلف وحدات “الكيانات”، وهو ما ظهر جليًا في التعامل مع “الوحدة الأوروبية” التي شكلت مجالًا مقاومًا للرؤى المصرية في أول عامين لتولي الرئيس السيسي دفة البلاد، حتي سارت كوحدة، المورد الأول للأسلحة والتقنيات الدفاعية المتقدمة، كما الشريك التجاري الأول. 

فيما يتبقى الإطار الأيديولوجي بنسخته “الأنجلو أمريكية” للقيم والأخلاق والحقوق، عائقًا أمام توافق مصري أوروبي حيال قضايا شائكة وعلى رأسها مكافحة الإرهاب. وهو ما أبدت له القاهرة جراءة في المعالجة من خلال الدخول لمنطقة البلقان، انطلاقًا من مبدأ “التجزئة”.  بدلا من التعامل مع أوروبا ككتلة واحدة، تمت تجزئتها لمراعاة الخصوصية الثقافية والتنوع لمناطقها، والوصول السلس للعقل الأوروبي الحاكم بأدبياته التي لم تتغير صوب البوتقة النيوليبرالية الأنجلو الأمريكية. 

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى