
الوباء أم السياسة.. من المسؤول عن الأزمات التي تواجهها بريطانيا؟
تواجه المملكة المتحدة سلسلة من الضغوط المتزايدة، بعدما تضافرت تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد وبريكسيت لتلقي بظلالها على الوضع الداخلي في البلاد، تاركة ورائها أزمات أنهكت سلاسل الإمداد المختلفة، من البنزين إلى الدواجن والأدوية والحليب، وصولًا إلى نقطة الانهيار جراء نقص العمالة في أعقاب أزمتي الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وكوفيد-19. وتصر الحكومة على أن الوباء هو المسؤول عن تلك الأزمات، فيما يرى مناهضي البريكست أن رئيس الوزراء والحكومة يفتقرون إلى وضع خطط فعالة ومسبقة لمواجهة المشكلات التي تمر بها البلاد، وأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو من فاقم تلك الأزمات.
لقد شكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دخول سياسات هجرة صارمة وأخرج بريطانيا من سوق الاتحاد الأوروبي للسلع والطاقة، مما جعل الأمر أكثر صعوبة على الشركات البريطانية لتوظيف عمال أوروبيين وأكثر تكلفة بكثير بالنسبة لهم للقيام بأعمال تجارية مع أوروبا التي تمثل أكبر شريك تجاري للبلاد.
وأثارت الأزمات التي يعاني منها اقتصاد المملكة المتحدة عن موجة إضراب تلوح في الأفق تضاهي تلك التي وقعت في 1978-1979 وجعلت الاقتصاد البريطاني يركع على ركبتيه. حتى أن هناك حديثًا عن التضخم المصحوب بالركود، وهو مزيج من ركود النمو والتضخم المرتفع. وعلى الرغم من أن النقص والتأخير في سلاسل الإمداد المختلفة وارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة تؤثر على العديد من الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وألمانيا، إلا أن بريطانيا تعاني أكثر من معظمها بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي.
ويرى مؤيدي البريكست في مجلس الوزراء أن الوباء هو السبب، وأن النقص الحالي ليس في بريطانيا وحدها ولكن في العديد من الدول الأخرى حيث يتعافى العالم من حالة الجمود الشديد التي سببها وباء كورونا وأن خطوط الإمداد تتعطل بسبب الاختناقات العالمية، مع تراكم الحاويات في موانئ الساحل الغربي للولايات المتحدة أو الوقوف في طوابير خارج روتردام، ويرون أن أزمة الطاقة ترجع إلى قيام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بعرقلة إمدادات الغاز أو إلى الطقس البارد في الصين وبالتالي لا علاقة لما يجري بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
على الجانب الآخر، يرى مناهضي البريكست، أن بريطانيا جعلت نفسها أقل جاذبية لعمال الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى نقص العمالة في المطاعم والمزارع وشركات النقل وأن قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي أدى أيضًا إلى ارتفاع تكلفة المعيشة، لأنه جعل شراء البضائع وبيعها لأقرب جيران بريطانيا أكثر تعقيدًا وتكلفة.
الحقيقة هي أن كلا الجانبين على صواب بشكل جزئي وذلك من خلال النظر إلى البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني بدون تحيز، والتي أظهرت أن أداء المملكة المتحدة كان أسوأ من نظرائها الأوروبيين في بعض الأمور، لكنها كانت مماثلة لهم في أمور أخرى. ونستعرض فيما يلي الأزمات الرئيسية التي تواجهها بريطانيا، لتحديد ما إذا كان الوباء أم السياسة هو المسؤول عن تلك الأزمات:
أزمة سائقي الشاحنات
بينما كانت هناك أدلة على نقص سائقي مركبات البضائع الثقيلة في جميع أنحاء أوروبا، كانت بريطانيا من بين أكثر المتضررين من هذه المشكلة. فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عاد العديد من السائقين الأوروبيين إلى بلدانهم الأصلية، أو قرروا العمل في مكان آخر، بسبب البيروقراطية على الحدود وتأثيرها على دخلهم. وبعد وباء كوفيد-19 عاد المزيد من السائقين إلى مدنهم، ولم يرجع إلا القليل منهم. وتقاعد في الوقت نفسه السائقون الأكبر سنًا، ولم يحل محلهم آخرون للتراكم الكبير في اختبارات سائقي الشاحنات الثقيلة بسبب الوباء.
وتشير البيانات إلى انخفاض عدد سائقي الشاحنات الثقيلة المؤهلين بنسبة 15% تقريبًا في السنوات الأربع السابقة للوباء مع ترك الكثيرين للعمل أو تقاعدهم، وأنه تم إلغاء حوالي 40،000 اختبار لسائقي الشاحنات الكبيرة في المملكة المتحدة أثناء الوباء وانخفض عدد مواطني المملكة المتحدة الذين تم توظيفهم كسائقي سيارات بضائع كبيرة بمقدار 20 ألفًا، أو 7%، خلال العام الماضي، في حين انخفض عدد مواطني الاتحاد الأوروبي العاملين كسائقين في المملكة المتحدة بمقدار 12 ألفًا، أو 30%.
في المقابل تشير بيانات الاتحاد الأوروبي أن الاقتصادات الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا شهدت انكماشًا بنسبة أقل من 5% في القوة العاملة لسائقي الشاحنات الثقيلة في السنوات الأربع السابقة للوباء، في حين شهدت إيطاليا وهولندا بالفعل زيادة وصلت إلى أكثر من 5% لدى إيطاليا، وأن رومانيا، وهي مصدر تقليدي لسائقي الشاحنات الثقيلة في المملكة المتحدة، شهدت زيادة تجاوزت 30% بسبب العائدين من المملكة المتحدة. وإنه لا يزال هناك نقص في سائقي الشاحنات الثقيلة في الدول الأوروبية، كما هو الحال في الولايات المتحدة، لكن النقص في المملكة المتحدة يبدو أسوأ بكثير.
وبناء عليه فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قلل من جاذبية العمل في المملكة المتحدة، ليس فقط بسبب التغييرات في سياسة الهجرة ولكن أيضًا بسبب ضوابط الحدود الجديدة والقيود الأخرى. وهذا ليس السبب الوحيد – حيث أدى الوباء إلى تأخير جداول التدريب على قيادة الشاحنات، إلى جانب شكوى السائقين من أن المملكة المتحدة لم تستثمر في مرافق لسائقي الشاحنات مثل المراحيض ومرافق الغسيل – ولكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أدى إلى تفاقم مشكلة موجودة بالفعل، وبالتالي فإن المملكة المتحدة هي الأكثر تضررًا من أي دولة أوروبية أخرى.
أزمة نقص الأيدي العاملة
يعاني الاقتصاد البريطاني من نقص في الأيدي العاملة، خصوصًا في قطاع الشحن البري، ما يتسبب في مشكلة إمدادات ونقص السلع في المتاجر وأزمة وقود. وتؤكد بيانات المملكة المتحدة أن هناك أكثر من مليون وظيفة شاغرة في أنحاء المملكة، مع إعادة فتح الاقتصاد بعد كوفيد، وأنه في الفترة من يونيو إلى أغسطس من هذا العام، كان أكبر قطاع به عدد من الوظائف الشاغرة هو خدمات الإقامة والطعام، حيث ارتفع بنسبة 75.4%. وفي يوليو كان 34% من وظائف عمال المزارع الموسمية شاغرة، وهي أعلى نسبة منذ احتفاظ الاتحاد الوطني للمزارعين بالسجلات.
في المقابل، أظهرت بيانات الاتحاد الأوروبي أن الدول الأعضاء في الاتحاد عانت من نقص في العمالة مماثل للمملكة المتحدة، لا سيما في الزراعة، حيث كان لدى فرنسا نقص قدر بحوالي 20 ألف عامل موسمي حتى نهاية مايو، وكان لدى إسبانيا 80 ألف وإيطاليا 250 ألف، حيث تعطل العمال الذين يأتون بشكل طبيعي من أوروبا الشرقية وشمال إفريقيا بسبب الوباء. ولم تقتصر قضايا نقص العمالة على الزراعة حيث في وقت سابق من العام، كان إجمالي القوى العاملة في منطقة اليورو أقل من مستويات ما قبل الوباء بمقدار 2.6 مليون.
وقد لوحظ نقص العمالة في العديد من الدول مع انتعاش الاقتصادات بعد الوباء، وأن هناك ارتفاع قياسي في الوظائف الشاغرة في الولايات المتحدة وأن النقص الموجود في تجارة التجزئة والضيافة والقطاعات الأخرى يرجع إلى حد كبير إلى إعادة الفتح ما بعد كوفيد، وليس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومع ذلك يبدو أـن بريطانيا تأثرت بعدم رغبة عمال الاتحاد الأوروبي في الرجوع إليها بعد عودتهم إلى بلدانهم الأصلية خلال الوباء، وربما أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على قرارهم.
النقص في التجارة
تعاني بريطانيا العظمى وخامس أكبر اقتصاد في العالم من “نقص في المواد الغذائية”، حيث تفاجأ البريطانيون بأرفف فارغة من السلع والمواد التموينية الأساسية في الأسواق ومحلات السوبرماركت. وقد أظهرت البيانات الصادرة من المملكة المتحدة أن حركة التجارة مع الاتحاد الأوروبي قد ارتفعت بشكل حاد قبل نهاية العام، حيث قامت الشركات البريطانية بتخزين البضائع تحسباً لتعطل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم تراجعت مرة أخرى بشكل أكثر حدة قبل أن تتعافى ببطء خلال الربيع. وعادت صادرات المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي إلى مستويات ما قبل الوباء لكن الواردات انخفضت بنسبة 10%، كما انخفضت الصادرات إلى بقية العالم بنحو 10%.
وجاءت بيانات الاتحاد الأوروبي على النقيض من المملكة المتحدة، حيث تُظهر بيانات التجارة الأوروبية أن الصادرات الأوروبية إلى بقية العالم قد زادت. ففي يوليو، سجلت صادرات سلع الاتحاد الأوروبي إلى بقية العالم زيادة بنسبة 11.4% على أساس سنوي، وإنها الآن أعلى بالنسبة لجميع شركائها التجاريين الرئيسيين – الولايات المتحدة والصين وسويسرا وروسيا – باستثناء المملكة المتحدة. وفي الربع الثاني من عام 2021، كانت قيمة صادرات الاتحاد الأوروبي من السلع إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي أعلى قليلاً من المستوى الذي كانت عليه في الربع الأول من عام 2019.
وبالتالي فإن الأداء التجاري للمملكة المتحدة بشكل عام كان ضعيفًا، لا سيما في الصادرات خارج الاتحاد الأوروبي، حيث فقدت حصتها في السوق وأن هذا أمرًا مقلقًا بالنظر إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان من المفترض أن يعزز التجارة مع مناطق خارج أوروبا.
ارتفاع الأسعار
وصل حجم التضخم في المملكة المتحدة 3% في أغسطس الماضي، وارتفع بنسبة 0.9% على أساس شهري وهي أكبر زيادة منذ بدء مؤشر أسعار المستهلك في عام 2006. وأن أكبر ارتفاع كان في قطاع النقل مع ارتفاع أسعار الوقود. وأن أسعار الوقود ارتفعت في المملكة المتحدة هذا العام بوتيرة أسرع مما كانت عليه في جميع دول الاتحاد الأوروبي 27 باستثناء دولة واحدة. وشهدت جمهورية التشيك ارتفاعًا في الأسعار بمقدار 20 بنسًا للتر الواحد، أي بزيادة بنس واحد عن مثيلتها في المملكة المتحدة.
أما في الاتحاد الأوروبي فقد أظهرت البيانات نفس الحال الموجود في المملكة المتحدة، حيث بلغ التضخم في منطقة اليورو 3% في أغسطس وأنه من المتوقع أن يرتفع إلى 3.4% في الفترة المقبلة.
الاتجاهات في العامين الماضيين بين المملكة المتحدة وأوروبا كانت متشابهة إلى حد كبير، وأن أسعار الطاقة والغذاء والسلع الصناعية كانت هي المساهم الرئيسي في ذلك، وأن أسعار الوقود ارتفعت بشكل حاد هذا العام ولكن أقل من المملكة المتحدة، ففي ألمانيا وفرنسا، كان ارتفاع سعر اللتر الخالي من الرصاص أقل بكثير من المملكة المتحدة، حيث بلغ 16 بنسًا و11 بنسًا على التوالي.
من الصعب تحديد ما الذي يدفع التضخم بالضبط، على الرغم من أن ارتفاع أسعار الطاقة العالمية يعد أحد العوامل الواضحة. ومع ذلك، فإن حقيقة أن اتجاهات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي متشابهة – كما هو الحال في أجزاء أخرى من العالم – وأنها لا تتعلق في المقام الأول بعوامل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن النقص العالمي بسبب اختناقات الإمداد المرتبطة بالوباء يعد السبب الرئيسي لمعظم ارتفاع الأسعار، على الرغم من ارتفاع الوقود في المملكة المتحدة أكثر من أي مكان آخر.
أزمة الأجور
أظهرت بيانات المملكة المتحدة أن متوسط الأرباح قد ازداد بنسبة 5%، مع تعديل التضخم في العام حتى يوليو 2021، وأن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى التراجع الناتج عن الوباء، وأن الأجور الحقيقية أو القدرة الشرائية، بالمقارنة بعام 2019، قد نمت بما يقل قليلاً عن 4% على مدى عامين، وهو معدل سنوي بنسبة 2% وليس استثنائيًا بالمعايير التاريخية، وأنه مع تزايد النقص في الأشهر الثلاثة الماضية وارتفاع أسعار الطاقة العالمية الذي أدى إلى ارتفاع التضخم، انخفضت الأجور الحقيقية في المملكة المتحدة بالفعل.
وأظهرت بيانات الاتحاد الأوروبي أن وتيرة نمو الأجور في الاتحاد هي حوالي 2% سنويًا خلال العامين الماضيين، وفي الوقت نفسه، اقترب التضخم من الصفر، وأن هذا، في الواقع، يعني أن وتيرة نمو القوة الشرائية للأوروبيين كانت مماثلة لنظيرتها في المملكة المتحدة عند 2%في السنة، وأن معدل التضخم ارتفع بشكل حاد في الأشهر الأخيرة، مما قلل من نمو الأجور الحقيقية، كما حدث في المملكة المتحدة ومع وجود أنماط مماثلة في أجزاء أخرى من العالم المتقدم.
وبالتالي فإن تأكيد رئيس الوزراء أن “الأجور ترتفع” هو تأكيد لا تدعمه البيانات، ولا يوجد دليل على أن نقص العمالة سيؤدي إلى اقتصاد عالي الأجور عالي المهارات كما يقول، وأن خفض المعروض من العمالة يؤدي إلى زيادة الإنتاجية، التي هي المحرك الرئيسي للأجور الحقيقية (القدرة الشرائية). بجانب أن انخفاض الهجرة بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى رفع بعض الأجور، ولكن القدرة الشرائية قد تتآكل بسبب ارتفاع التضخم. وحتى الآن، لا تزال القوة الشرائية للاتحاد الأوروبي مماثلة لتلك الموجودة في المملكة المتحدة، مما يشير إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس المحرك الرئيسي.
ختامًا، توضح الصورة العامة أن هناك اضطرابات قصيرة الأجل، وأن ذلك يرجع في الغالب إلى الوباء، وهي اضطرابات مشتركة مع دول أخرى. ومع ذلك فالمملكة المتحدة تواجه تعديلات هيكلية ترجع إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن المرجح على المدى المتوسط إلى المدى الطويل، أن تجعل المملكة المتحدة أكثر فقرًا إلى حد ما، وهو ما لا يبشر بالخير بالنسبة لرؤية بوريس جونسون لاقتصاد “عالي الأجور وعالي الإنتاجية”. وقد سبب وباء كورونا صدمة هائلة للاقتصاد العالمي ضرب المملكة المتحدة أكثر من غيرها، وليس من المستغرب أن يكون التعافي منه أمرًا شاقًا.



