الاقتصاد المصري

التضخم والدورة الفائقة للسلع.. تأثيرات محدودة مصريًا

لم يكن العام 2020 والعام 2021 عام أزمة كورونا فقط؛ إذ إن الأزمات لا تأتي فرادى بل تسمى بالأزمات المركبة. وقد تسببت مجموعة من العوامل المتعددة في زيادة الطلب ليفوق العرض في العديد من المنتجات العالمية ومن ثم ارتفاع أسعارها، وخاصة منتجات السلع الأولية، ولعبت ظروف أخرى مثل التغيرات الجوية غير المواتية (الأعاصير والجفاف والشتاء البارد والطويل وانخفاض إنتاج الطاقة من الرياح) دورًا في ذلك. هذا فضلًا عن اختناقات الإمداد، والأهداف البيئية والتي تسببت في نقص حاد في الطاقة في جميع انحاء آسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة لمستويات قياسية. وقد أثرت تلك الأزمات بالطبع على مرافق وسلاسل التوريد على مستوى العالم. 

الوضع عالميًا

تسببت أزمة كورونا في تعطل سلاسل التوريد العالمية وتوقف نسبة كبيرة من الإنتاج، والذي تسبب بدوره في وجود زيادة كبيرة في حجم العرض من السلع الأولية. وما إن أعلنت منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد وباءً عالميًا في منتصف شهر مارس من العام 2020 حتى تهاوت أسعار السلع الأولية والتي تشمل المعادن (النحاس، الألمونيوم، الزنك، النيكل، خام الحديد) والبترول والسلع والمنتجات الزراعية (الذرة، القمح، السكر، القهوة، الكاكاو، القطن)، تسبب تلك الظروف في توقف سلاسل الإنتاج العالمية ومن ثم خفض الإنتاج ووجود توقعات متشائمة حول الزمن المستغرق لتعافي الطلب العالمي والعودة مرة أخري لمستويات ما قبل كورونا.

لكن الأوضاع لم تسر كما كان متوقعًا؛ فالطلب العالمي على السلع والمواد الأولية (المعادن، والنفط، والغذاء) قد تعافى بشكل أسرع بكثير من توقعات العديد من المؤسسات العالمية، وهو ما تسبب في وجود زيادة كبيرة في الطلب مقابل انخفاض في العرض (نتيجة للمصانع التي أوقفت إنتاج جزء من خطوطها وخفضت الكميات التي يتم إنتاجها). تسببت تلك الأوضاع في وجود فجوة كبيرة بين جانبي العرض والطلب، ومن ثم ارتفاع الأسعار بشكل كبير.

ويمكن الاستدلال على ذلك الارتفاع في الأسعار بالنظر إلى مؤشر السلع الأولية الذي يتم احتسابه من جانب صندوق النقد الدولي من خلال مؤشر (Primary Commodity Price System) والذي بلغ 116 نقطة خلال الربع الرابع من العام 2019، وانخفض إلى 91.73 نقطة في الربع الأول من عام 2020 (الربع الذي تم فيه إعلان فيروس كورونا وباءً عالميًا) وارتفع إلى 154 نقطة في الربع الثاني من العام 2021، وهو مستوى لم تصل له أسعار السلع الأولية منذ الربع الرابع من العام 2013، وقد كانت النقطة الأعلى تاريخيًا لذلك المؤشر هي 189 نقطة وكانت في الربع الثاني من عام 2011.

الوضع المصري

بالطبع ليست مصر بمنأى عن التغيرات العالمية، إلا أن الوضع المصري أفضل قليلًا، فقد عاد النفط مجددًا ليثبت أنه الأقوى في مواجهة بدائل الطاقة الأخرى مثل الغاز والفحم -على الرغم من استمرار أسعارها في الارتفاع هي الأخرى- لكن مع فشل تجمع أوبك+ في الاتفاق على زيادة الإمدادات استمرت أسعار النفط في الارتفاع لتكسر حاجز 80 دولار للبرميل.

لحسن الحظ لا تؤثر تلك الارتفاعات على مصر بشكل كبير، إذ تعتمد مصر على الغاز الطبيعي المستخرج محليًا بشكل أكبر، وهي بالطبع لديها الاكتفاء الذاتي من الغاز مع وجود قدرة تصديرية صغيرة يمكن تطويرها مع ضخ المزيد من الاستثمارات بالقطاع. ومن ناحية أخرى تستورد مصر 100% من احتياجاتها من الفحم، وفي الوقت نفسه تستورد جزءًا من احتياجاتها من المشتقات النفطية والتي يتم استخدامها بشكل أكبر في قطاع النقل والمواصلات، مع وجود استخدام منخفض في القطاع الصناعي. وكانت أسعار الكهرباء في مصر هي الأخرى محصنة؛ إذ تعمل 90% من محطات كهرباء مصر بالغاز الطبيعي الذي لدى مصر اكتفاء ذاتي منه.

لكن قياس الأثر على تلك الارتفاعات السعرية يحمل الكثير من العوامل التي يجب النظر إليها قبل قياس الأثر، تتمثل تلك العوامل في مدى تأثُر الواردات المصرية من مصدر الطاقة بالأزمة الحالية (عدم قدرة مصر على استيراد احتياجاتها من الطاقة)، عوامل أخرى يمكن أن تؤثر وهي نوعية عقود الشراء التي أبرمتها مصر بالفعل والتي تتمثل في العقود الآجلة (Forward Contracts) (عقود يتم من خلالها تحديد السعر اليوم على أن يتم استلام المنتج في المستقبل بالسعر الذي تم الاتفاق عليه دون النظر إلى سعر السوق في ذلك الوقت) أو الشراء من السوق الجاري بالأسعار السائدة أو ما يعرف باسم (Spot market).

هذا فضلا عن حجم المخزون الاستراتيجي بالبلاد من تلك المواد. أما على مستوى القطاع الصناعي وقطاع التجزئة، فإن المخزون الاستراتيجي، والمرونة من حيث القدرة على استبدال مصادر الطاقة، والشروط التي تستلزم على الشركات الوفاء بالاعتبارات البيئية، والمرونة التسعيرية والطلب على المنتجات من حيث قدرة المصنعين على تمرير الارتفاعات في الأسعار إلى المستهلكين بشكل كلي أو جزئي، أو تلقي تلك الصدمة بأنفسهم وخصم تلك الزيادات من هوامش الربحية، هي عوامل تحدد مدى تأثر القطاع الصناعي العامل في مصر من تلك الارتفاعات في أسعار المواد الأولية عالميًا.

أما على مستوى السلع الغذائية وخاصة القمح -وحيث إن مصر تستورد تقريبًا نصف ما تحتاجه من القمح (تحتاج 15 مليون طن، ويتم استيراد 8 مليون طن تقريبا)- فإن الارتفاع في أسعار القمح سيؤثر على الموازنة العامة للدولة في زيادة البند الخاص بدعم المواد الغذائية والقمح، ومن ثم فمن المتوقع أن ترتفع المخصصات الإجمالية لبنود دعم الغذاء خلال العام الحالي إذا استمرت الأسعار في الارتفاع عالميًا بذلك الشكل. لكن وحتى الوقت الحالي لن يشعر المواطنون بتلك الزيادة خاصة من يحصلون على المواد الغذائية من خلال منظومة دعم الغذاء المصرية، لكن قد ترتفع أسعار الخبز الأخرى التي لا تدخل ضمن تلك المنظومة لتعكس الارتفاعات في أسعار القمح عالميًا.

نظرة على الاقتصاد الكلى

تجاوبت الأوضاع الاقتصادية في مصر مع ما يحدث عالميًا من ارتفاعات سعرية في أسعار المواد الأولية، ولذا فقد قفز معدل تضخم أسعار المستهلكين في الحضر (urban consumer price inflation) إلى مستوى 6.6% في شهر سبتمبر مقابل 5.7% في أغسطس، وبذلك فإن معدل التضخم يقترب من أعلى مستوى سجله في عامين. جاء ذلك الارتفاع في معدل التضخم مدفوعًا بشكل أساسي بقفزة حادة في أسعار السلع الأكثر تقلبًا وهي السلع الغذائية، مما انعكس على تقلبات الأسعار الموسمية. 

تسارع تضخم الغذاء إلى 10.6٪ في سبتمبر، من 6.6٪ في أغسطس، بينما تباطأ التضخم غير الغذائي إلى 4.9٪ من 5.3٪ في أغسطس على أساس شهري، وقفزت أسعار المواد الغذائية بنسبة 3.5٪ على أساس شهري في سبتمبر -وهي أعلى نسبة في أكثر من عام- مع ارتفاع أسعار الخضروات بنسبة 21.2% على أساس شهري. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 0.9% في الشهر الحالي مقابل الشهر السابق. ومن الجدير بالذكر أن الارتفاعات السعرية في الأسعار في هذا التوقيت هي أمر معتاد بسبب الظروف الجوية حول موسم الحصاد على الرغم من تجنب السوق لحدوثها خلال العامين الماضيين.

لكن على الرغم مما تم الإشارة إليه نرى أن الضغوط التضخمية تظل منخفضة التأثير؛ فقراءة شهر سبتمبر تشير إلى عدم وجود تغير كبير في الضغوط التضخمية، وجاءت الارتفاعات في معدلات التضخم نتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميًا في الأشهر الماضية، لكن حقيقة الأمر أن الارتفاع الكبير هذا الشهر يأتي نتيجة لتغير أسعار الفواكه والخضروات محلية الإنتاج وهي مرتبطة بالعوامل المناخية كما سبق الإشارة. ومن غير المتوقع أن يساهم التعديل السعري لسعر الوقود في حدوث زيادة كبيرة في معدلات التضخم خاصة مع اتخاذ الحكومة قرارًا بتثبيت أسعار السولار، لكن الاستمرار في ارتفاعات الأسعار للسلع الأساسية عالميًا يمهد الطريق لأن نرى معدل التضخم في نطاق 6 – 7% في العام 2022.

نظرة قطاعية

تأثر قطاع الإسمنت في مصر بشكل كبير بتلك الارتفاعات في أسعار الطاقة عالميًا. وكان معظم مصنعي الإسمنت قد اتفقوا مع الحكومة في عام 2015 على التحول لتوليد الطاقة من الفحم كمصدر للطاقة، والعمل من خلال مزيج طاقة يتمثل في (70% فحم، و 30% المازوت الثقيل الكثافة)، ومن ثم فإن مصانع الإسمنت المصرية في الوقت الحالي تعاني من ارتفاع أسعار الفحم الذي يتم استيراد احتياجات مصر منه، وهو ما جعلهم يعودون إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة لإقناعها باستئناف العمل بالغاز كمصدر طاقة، لكن ذلك الأمر يعد تحديًا كبيًرا، ففي ظل الارتفاعات العالمية في أسعار الغاز بشكل كبير تجد الحكومة فرصة تصديرية للغاز بأسعار مغرية.

من جانب آخر، فإن الفائض المحدود لمصر يقف حائلًا دون تفكيرها لمحاولة إنقاذ تلك المصانع التي تواجه تحديًا كبيرًا في توفير احتياجاتها من الطاقة، لكن أمرًا آخر تنظر إليه الحكومة وهو أنه في حال موافقتها على إمداد المصانع التي تستطيع العمل بالغاز بمصدر طاقة من الغاز فإن ذلك يمثل حالة من عدم العدالة تجاه المصانع التي لا تستطيع العمل إلا من خلال الفحم، ويبقي بيع الغاز بالأسعار العالمية التصديرية للمصانع المصرية أحد الحلول المتاحة، لكن ذلك التسعير للغاز في ظل تلك الارتفاعات يعد غير اقتصادي لمصانع الإسمنت للتحول للعمل بالفحم، حتى مع الأخذ في الاعتبار الفوائد الفنية لاستخدام الغاز، ولذا فإن أسعار الإسمنت المرتفعة في مصر ستبقي مرتفعة (1000 جنيه مصري/ طن في سوق التجزئة)، خاصة مع فرض حصص الإنتاج المفروضة.

أما قطاع الحديد والصلب في مصر فقد يستفيد من تلك الارتفاعات في الأسعار العالمية، ففي ظل نقص الطاقة عالميًا ووجود القيود على الإنتاج المدفوعة بقرارات تقليل انبعاثات الكربون (الصين) والذي تسبب في انخفاض المعروض من الحديد عالميًا ومن ثم ارتفاع الأسعار عالميًا، تحصل مصانع الحديد المصرية على مصادر طاقتها من خلال عقود مع الحكومة المصرية لشراء الغاز بأسعار ثابتة، وهو ما يدفع شركات الحديد في مصر لتحقيق أرباح بشكل كبير؛ نظرًا لانخفاض مصادر الطاقة وارتفاع سعر خام الحديد.

أما عن قطاع البتروكيماويات المصري فقد يستفيد من الارتفاع في أسعار النفط الأخيرة؛ إذ إن تكلفة تكرير النفط شبه ثابتة، لكن المخرج النهائي يتم تسعيره وفقا لسعر النفط (المادة الخام)، ومن ثم فإن الارتفاع في أسعار النفط يمثل فرصة لتعظيم قدرة تلك الشركات على زيادة قيمة مبيعاتها ومن ثم تعزيز قدرتها على تغطية تكاليفها التي تأتي في معظمها ثابتة، ومن ثم زيادة الربحية.

هل الوضع مخيف؟

لا يمكن تصنيف الوضع المصري بالمخيف، خاصة في ظل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طبقته مصر والذي سمح لها بالمرونة التسعيرية لمشتقات الطاقة محليًا (4 مرات سنويًا) وهو الأمر الذي خفف الضغط على الموازنة العامة للدولة، وسمح للدولة بتمرير جزء من تلك الارتفاعات العالمية إلى المستهلكين للحفاظ على المكتسبات الاقتصادية التي تحققت خلال السنوات السابقة، مع النظر إلى العوامل شديدة التأثير على المؤشرات الاقتصادية الكلية وعلى المواطنين واستبعاد التحريك السعري لها (مثل القرار الحكومي بتثبيت أسعار السولار).

ونظرًا لما تقوم به الحكومة المصرية من إدارة فعالة للملف الاقتصادي في ظل تلك الأزمات العالمية، فقد عزز البنك الدولي من ثقته بالحكومة في تقريره الصادر خلال الشهر الحالي (أكتوبر 2021)، إذ توقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي المصري بنسبة 5% في عام 2022 مقابل نمو بنسبة 3.3% في عام 2021، وتوقع أن يتقلص عجز الحساب الجاري إلى 3.8% من الناتج المحلى الإجمالي مقابل نسبة 4.1% في عام 2021، وتوقع أن ينخفض العجز المالي الحكومي إلى 7.2 من الناتج المحلى الإجمالي في عام 2022 مقابل 7.5% في عام 2021.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

أحمد بيومي

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى