روسيا

“لوكاشينكو” ابن السوفييت وحليف بوتين.. ديكتاتور أم رجل وطني؟!

يبلغ الرئيس البيلاروسي، “ألكسندر جريجوريفيتش لوكاشينكو”، من العُمر 67 عاما، وقد بقي على سدة الحكم لمدة تصل إلى 27 عامًا، كما أنه يُعد أول رئيس جمهورية عرفته بلاده في تاريخها.

وأثارت الأحداث، التي رافقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2020، تساؤلات كثيرين، على رأسهم الغرب، حول الموعد الذي يعتزم فيه الرئيس البيلاروسي مغادرة مهام منصبه.

وفي هذا السياق، من اللافت للانتباه معرفة أن هذه الانتخابات الرئاسية لم تكن الأولى في تاريخ البلاد التي تشهد عددًا من الاضطرابات الشعبية. فقد سبق وأن تكرر الأمر خلال أجواء انتخابات عامي 2010 و2015 لكن بحشود أقل. وهو ما يقودنا إلى طرح تساؤلات حول التعريف الذي من الممكن إطلاقه على “لوكاشينكو”، هل هو رجل وطني أم ديكتاتور؟ وعما إذا كانت الوطنية تتعارض مع الديكتاتورية؟

“لوكاشينكو” رئيسًا حتى الموت

“لوكاشينكو”، الرجل الذي تعكس ملامحه السمات العريضة من طيبة وسماحة الشعب البيلاروسي، هو نفسه ذات الرجل الذي لَعِب ولايزال يَلعب أدوارا عدة في الساحة الدولية، فالغرب يعتقد أن “لوكاشينكو” عدوه، بينما يراه “بوتين” – في أغلب الأوقات- حليفا مخلصا وأمينا.

وفي الوقت الذي نجد فيه “لوكاشينكو” جالسًا أمام “ماثيو تشانس”، مُذيع شبكة “سي.إن.إن”، في مودة شديدة وترحاب بالغ، ولغة جسد استمرت على مدار المقابلة بالكامل، لا يمكن وأن تتُرجم إلا بأن الرئيس البيلاروسي لم يكن في لقاء تليفزيوني عادي بل فيما هو أقرب إلى استجواب للدفاع عن النفس، وبأن غالبية إجاباته حملت طابعا ونبرة الاستعطاف لمحاوره الأمريكي أولاً، ومن ثم محطته الإخبارية، وأخيرًا سائر المشاهدين من بيلاروس والولايات المتحدة على حد سواء.

علاوة على ذلك، سلوك “لوكاشينكو” مع المُحاور –حتى فيما بعد انتهاء المقابلة- والذي كان يعكس درجة شديدة من التواضع لا تتلاءم مع ما تقضي به الأعراف الدبلوماسية الدولية في معاملات تجمع بين رئيس دولة وإعلامي. نجد أيضًا أن صورته الشهيرة أثناء احتجاجات 2020، يحمل مدفعا رشاشا في يده بعد جولة تفقدية للاحتجاجات في “مينسك” بالطائرة المروحية، والهيئة الشرسة التي بدا بها في هذه الصورة، ورسائل العنف التي حملتها كذلك، لازالت تتوارد إلى الأذهان.

وشهدت مسيرة حياة “لوكاشينكو” المهنية كذلك، عددًا من المحطات البارزة التي قادته من هويته كمُزارع ورجل ريف إلى رجل سياسة ورئيس، ومن ثم إلى الرجل الذي يرغب الكثيرون في إزاحته عن السلطة بينما يفلح هو في كل مرة بتخطي محاولاتهم والتشبث والمكوث في موضعه.

ففي مقابلته الأخيرة مع “ماثيو تشانس”، صحفي شبكة “سي.إن.إن” الأمريكية، وجه المُحاور له سؤالاً، حول هل أنت واثق من أنه سيكون هناك رئيسًا ثانيًا لبيلاروس؟ رد “لوكاشينكو”، قائلاً “ماثيو، أقُسمِ أنني لن أظل رئيسًا حتى الموت، إن كل شيء يعتمد على الوضع في بيلاروس، إذا توقفت أنت ورُعاتك في الغرب، أينما كانوا عن التدخل في أوضاعنا، وأصبح في مقدورنا أن نبقى هادئين وواثقين في أنفسنا كأمة مستقلة ذات سيادة، وشعب يستحق أن يكون مستقلاً وذو سيادة، صدقني، كل شيء سيحدث في وقت أقرب مما تتخيله”. وتابع “لوكاشينكو”، “لكن إذا كنت تجرؤ على التدخل في شؤونا مرة أخرى، مثل العام الماضي، فسيكون الأمر سيئًا”.  

إذًا، يُعلن “لوكاشينكو”، في 2021 عدم رغبته في البقاء بمنصب الرئيس حتى تاريخ وفاته. وفي أكتوبر 2015، تحديدًا بعد فوزه بفترة رئاسية ثالثة، يؤكد في أكثر من موقف إنه “أكل هذه الرئاسة”، لكنه مع ذلك لن يُغادر. وقال، “لا يسعني إلا أن أعاود ترشيح نفسي للرئاسة، وسأفعل ذلك حتى لا يتم اتهامي فيما بعد بالجُبن”.

نفهم من كل ما سبق، أننا نقف أمام ثُنائية رئيس يقول إنه يرغب في البقاء بالحكم حتى تنتهي التدخلات الغربية في بلاده بينما تُصر القوى الغربية من الناحية الأخرى على اعتباره ديكتاتورًا ينبغي التخلص منه وعدم الاعتراف بوجوده وبهذه الطريقة نمضي للإجابة عن سؤالين، هل هو ديكتاتور أم رجل وطني؟

محطات من السيرة الذاتية

تقول حَكمة شهيرة، “إنه لا يوجد هناك انسان يحمل في باطنه خيرا مُطلقا أو شرا مُطلقا، لكن يحمل الانسان في نفسه خليطًا بين هذا وذاك، وبدرجات متفاوتة”. وقد تكون تلك الحكمة هي أصدق مقولة باستطاعتنا مطابقتها مع حالة “لوكاشينكو”، باعتباره صاحب مسيرة مهنية مُشرفة، أو بالأحرى من الأصدق القول إنها لم تكن مُشرفة على طول الطريق، وتخللها أحيانًا محطات جعلتها محل تساؤل وتعجب بل ودهشة!  

ولد “ألكسندر لوكاشينكو” بتاريخ 30 أغسطس 1954، في فيتيبسك ببيلاروسيا. عكفت والدته، يكاترينا تروفيموفنا، التي عملت كخادمة في مزرعة على تنشئته وحدها بينما لا يوجد هناك معلومات عن والده. ويظل “لوكاشينكو” ابن يتحدر من صميم بلدة ريفية، فقد قضى سنوات حياته الأولى في مساعدة والدته بأعمالها، ونشأ في وسط مزرعة “دنيبروفسكي الجماعية”، ثم التحق بمدرسته الثانوية مع أطفال ذات القرية كذلك.  

عرف “لوكاشينكو” منذ سنوات حياته الأولى أن العمل والعمل الجاد وحده هو السبيل الوحيد للارتقاء. لذلك يُحسب لـ “لوكاشينكو”، أنه ورغمًا عن صعوبات الحياة المعيشية التي عاصرها منذ نعومة أظافره، إلا أنه نجح مع ذلك في حياته الدراسية، وحصل على شهادتين عليين. فقد تخرج من معهد موجيلييف التربوي الحكومي بتاريخ 1975، وفي عام 1985 تخرج من الأكاديمية الزراعية البيلاورسية وحاز بعد ذلك على درجة في الاقتصاد.  

كما أن لوكاشينكو، التحق بالجيش في عام 1975 وخدم في قوات حرس الحدود. وفي الفترة ما بين 1980-1982، خدم في صفوف الجيش السوفييتي كنائب قائد سرية للعمل السياسي لإحدى الوحدات العسكرية. وفي الفترة التي استمرت على مدار 13 عامًا ما بين 1977-1990، اجتاز لوكاشينكو جميع مراحل “الكومسومول” رابطة الشباب الشيوعيين، بدءًا من سكرتير لجنة “الكومسومول” وصولاً إلى منصب نائب مدير إدارة مواد البناء في مزرعة “شكلوف”. وببلوغه سن 33 عامًا، نجح لوكاشينكو في أن يحقق حلمه القديم ويصبح هو رئيسًا لمزرعة “جوروديتس” الحكومية في منطقة شكلوف.

كان “لوكاشينكو”، هو أول من أدخل عقود الإيجار في مزارع الدولة في سياق البيريسترويكا. وتحولت بفضله مزارع الدولة غير المُربحة الى أخرى متقدمة خلال فترة زمنية قصيرة الأجل. وقد أظهر في شبابه نتائج ناجحة عن تجربته في إدارة المزارع.

ولهذا السبب دخل “لوكاشينكو” عالم السياسة بفضل الإنجازات التي تحققت في المزرعة الجماعية. فقد تم تقدير جهوده ومزاياه على النحو الواجب من قبل القيادة العليا لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وتمت دعوة الرجل إلى موسكو، حيث أصبح نائبًا شعبيًا لجمهورية بيلاروس الاشتراكية السوفيتية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبح مسقط رأسه دولة لها سيادة مما سمح له بشق طريقه السريع نحو القمة. وفي 10 يوليو 1994، بعد صراع صعب مع خمسة مرشحين آخرين، تم انتخاب ألكسندر لوكاشينكو لأول مرة رئيسًا لجمهورية بيلاروسيا.

“لوكاشينكو” في أيامه الأولى: مسيرة مهنية مُضيئة.. ولكن! 

أولئك الذين عرفوا “لوكاشينكو” في أولى سنوات حياته السياسية، لاحظوا تفانيه ومثابرته وطموحه، بالإضافة إلى قدراته المتفردة وطاقاته الملحوظة. ففي عام 1994، كتب عنه العالم السياسي، ألكسندر فيدوتا”، الذي كان عضوًا مقر حملته الانتخابية، مُتحدثًا عن بداياته وقال “كان سوفيتيًا خالصًا، وكان ينوي أن يعمل في مهنة سوفيتية عادية”.

لكن تظل القضية الجنائية التي تم فتحها في عام 1989، إبان عمله كمدير مزرعة “جوروديتس” الحكومية، كفيلة بأن تُلقي بظلالها على جانب عنيف من جوانب شخصية “لوكاشينكو”. وكانت تلك قضية اعتداء بالضرب، ضحيتها سائق جرار في مزرعة حكومية والمشتبه به الرئيسي هو مدير المزرعة، “ألكسندر لوكاشينكو”. ما حدث وقتها هو مشاجرة اعتدى فيها “لوكاشينكو” على سائق الجرار، وفي التحقيقات أكد جميع الجيران رواية السائق بينما أصر “لوكاشينكو” على التمسك بروايته بأنه لم يفعل شيئًا، ووصف الجيران أيضًا بكلمة “أوغاد”. ومما يثير الدهشة، هو أن “لوكاشينكو” قد أصبح عضوًا في مجلس السوفييت الأعلى بحلول العام 1990، رغما عن أن قصة الضرب كانت قد اشتهرت وخرجت إلى العلن. لكن مع ذلك، تم اسقاط القضية ولم يتم توجيه أي اتهامات إلى النائب الذي كان يتمتع بالحصانة. ولم تكن تلك المحطة وحدها هي ما يثير الدهشة في مسيرة “لوكاشينكو” المهنية، لكنها تُعتبر بمثابة لمحة بسيطة تجعل من غير المسُتغرب ما حدث في السنوات التي تلتها من تعاملاته مع معارضيه.

أبرز إنجازاته:

بدأ الزعيم السياسي الطامح، “لوكاشينكو”، وبمجرد وصوله إلى السلطة في تنفيذ خطة لإخراج جمهورية “بيلاروس” من الأزمة. وفي خلال فترته الرئاسية الأولى، تم انشاء نظام مدفوعات واتحادات جمركية بين روسيا البيضاء وروسيا عام 1995، وتم كذلك التوقيع على اتفاقية حول الصداقة والتعاون وحسن الجوار مع الاتحاد الروسي. وبعد عام، تم إنشاء التكامل الاقتصادي والإنساني مع جمهورية قيرغيزستان وجمهورية كازاخستان.

ويقول العالم السياسي، “فاليري كاربالفيتش”، مؤلف كتاب “ألكسندر لوكاشينكو.. السياسي”، أن أعظم إنجازات الرئيس البيلاروسي هو نجاحه في إنشاء نموذج اجتماعي خاص به، أي نموذج اجتماعي بيلاروسي خالص في الفترة التي تلت الانقسام عن الاتحاد السوفيتي سابقًا.

وتابع العالم السياسي قائلا:” إن النقطة الأضعف في النظام الذي خلقه الرئيس، تظل هي أن نموذج الحكم يسمح له وحده بالاحتفاظ بالسلطة ولا يسمح للمجتمع الروسي بالتطور. كما يصف الخبراء التكامل البيلاروسي مع موسكو بأنه نموذج ناجح للغاية بالنسبة للوكاشينكو، فقد كلف ذلك موسكو نحو 100 مليار دولار على مدار عشرين عاما”.

وبوجه عام، يعد مشروع المدن الزراعية، الذي تبناه لوكاشينكو واحدًا من إنجازاته واسعة النطاق في الريف. وكانت الدولة قد تبنت برنامج بناء مساكن في الريف خلال الفترة ما بين 2005- 2010. وبحلول نهاية الموعد المخصص للبرنامج، كانت الدولة قد انتهت بالفعل من انشاء قرابة ألف ونصف مدينة زراعية، وعملت على تنسيق المناظر الطبيعية في بيلاروس، وبناء حوالي 8 آلاف مبنى سكني. لكن على الرغم من حاجة البلاد إلى هذا المشروع، إلا أنه لم يكد يفلح بعد في مساعدة الزراعة البيلاروسية على تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولذلك تظل مدعومة من قبل الدولة.  

وعلى الصعيد الرياضي، حظيت بطولة العالم لهوكي الجليد، والتي أقيمت في مينسك بمايو 2014 بإشادة كبيرة من قبل قيادة الاتحاد الدولي للهوكي على تنظيمها. كما حطمت الرقم القياسي لاكتمال المدرجات في مثل هذه المباريات الرياضية. وفي عام 2021، تم حرمان بيلاروس من استضافة هذه المباريات ونُقلت الى لاتفيا عوضًا عن ذلك، لأسباب سياسية.

الحياة الحزبية والحرية السياسية في بلاد “لوكاشينكو”

تحتوي جمهورية “بيلاروس” على أحزاب سياسية مُتعددة لها أيدولوجيات ومواقف مختلفة، مثل الحزب الشيوعي، وحزب اليسار البيلاروسي “العالم عادل”، والحزب الزراعي البيلاروسي، والجمهوري للعمل والعدالة وغيره، بإجمالي يبلغ نحو 13 حزبا.  ولا تُشارك هذه الأحزاب في الحياة السياسية بالفاعلية المنشودة منها، أو بالأحرى بدرجة الفاعلية التي تتناسب مع عددها وحجمها. مثال على ذلك، أن حصل عدد 21 ممثل نيابة عن خمسة أحزاب سياسية فقط على مقاعد بالبرلمان في انتخابات 2019، من إجمالي 110 نواب.

وبمراجعة تفاصيل المشهد السياسي البيلاروسي الداخلي، يوجد محطة شديدة الأهمية لا يمكن اغفالها أثناء النظر في مسيرة “لوكاشينكو” تلك تتمثل، في حادثة 14 مايو 1995، عندما شهدت بيلاروس استفتاء حول القضايا التي اقترحها الرئيس لوكاشينكو، بخصوص بنود مثل المساواة بين اللغتين البيلاروسية والروسية، وبخصوص شعار وعلم الدولة الجديد، والتكامل الاقتصادي مع روسيا بالإضافة إلى حق الرئيس في حل مجلس السوفييت الأعلى في حالة وجود انتهاكات للدستور.

وسبق هذا الاستفتاء قصة ملفتة للنظر، فقد وافق نواب مجلس السوفييت الأعلى على إجراء الاستفتاء، لكنهم رفضوا ثلاثة بنود رئيسية مقترحة من قبل لوكاشينكو، بسبب تعارضها رأسًا مع نصوص الدستور نفسه. واحتجاجًا على ذلك، قرر نحو 19 عضوًا منهم الإضراب عن الطعام داخل القاعة البيضاوية في المجلس الأعلى للسوفييت بدءً من صباح 11 إبريل وقضوا هناك الليلة برمتها. وفي وقت متأخر من الليل، هرعت الشرطة الى المبنى بحجة أن المبنى كان يحتوي على متفجرات. ودخلت الشرطة بعد ذلك وحاولت إقناع النواب بالمغادرة لكنهم رفضوا وأصروا على مواقفهم، وما حدث بعد ذلك هو أن توافد إلى القاعة نحو 12 شخصًا يرتدون أزياء رياضية سوداء وأحذية سوداء وأقنعة على الوجه، وانهالوا بالضرب على النواب وأخرجوهم خارج المبنى ببساطة. وفي صبيحة اليوم التالي، خرج لوكاشينكو ليُعلن أنه كان على علم بالوضع، وأنه أصدر أمرًا شخصيًا بإجلاء النواب من المبنى حفاظًا على سلامتهم. ووفقًا لأقوال بعضً من النواب الذين تعرضوا للضرب، فقد فتح النائب العام تحقيقًا بالقضية لكنه سرعان ما أغلقها بعد ذلك. وحصل لوكاشينكو على تأييد بنسبة 75% في الاستفتاء على جميع القضايا المطروحة!

“لوكاشينكو”.. الوطنية والديكتاتورية وجهًا لوجه!

في يوم من الأيام، أو تحديدًا بتاريخ مايو 1991 قبل تولي “لوكاشينكو” الرئاسة، نشر الرئيس البيلاروسي مقالاً في صحيفة “نارودنايا جازيتا“، انتقد فيه السياسات المفروضة من الحكومة السوفيتية في ذلك الوقت على بلاده بعبارة “لا ينبغي لقيادتنا الوقوف في مستنقع على رملين في وقت واحد، وأن يفردوا أرجلهم على نطاق أوسع من أكتافهم، وأن يحاولوا القفز إلى مكان لا يعرفه أحد. أريد أن أقول بمسؤولية كاملة: ما اقترحته الحكومة ورئيس وزرائها في البرنامج هو دكتاتورية في الاقتصاد والسياسة”. ولم يتوقف في مقاله عند هذا الحد، فقد تابع متسائلاً عن أوجه مختلفة عن الحرية، قائلاً “أين حرية ريادة الأعمال؟ أين حرية التجارة؟ أين حرية تحديد الأسعار؟”. وواصل انتقاداته للدولة طوال المقال، التي كان من أبرزها، على حد قوله “إفقار القرية.. توجد هناك ظروف معيشية رهيبة لأهالي القرية.. إن الدولة تحاول حل مشكلاتها السياسية على حساب القرية”. إذًا، نحن نقف أمام نموذج لقائد يكره الديكتاتورية ويُعلن ذلك بإصرار، لكن فقط وصولاً الى لحظة وصوله هو نفسه إلى رأس السلطة! فمن المُدهش، كيف أدرج لوكاشينكو، بعد توليه الحكم، تعديلات دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة بلا قيود وتمنحه كذلك صلاحيات واسعة النطاق؛ يندرج من ضمنها: حق الدعوة الى استفتاءات وطنية، وحق اجراء انتخابات عادية وغير عادية لمجلس النواب، ومجلس الجمهورية والهيئات التمثيلية المحلية، كما يحق له أيضًا حل البرلمان، وتعيين رئيس الوزراء بموافقة مجلس النواب، وإقرار هيكل الحكومة، وتعيين نواب رئيس الوزراء وإقالتهم في الوقت نفسه.

ومع ذلك، يظل إجمالي ما سبق ذكره من صلاحيات غير كاف لإطلاق كلمة ديكتاتور عليه. لكن المثير للانتباه كان دائما يتمثل في الطريقة التي تعامل بها “لوكاشينكو” مع مُعارضيه، وكذا الحال بالنسبة للاحتجاجات التي حاوطت معظم انتخاباته الرئاسية، وتلك نقاط سنتعرض لها بالتفصيل في جزءً لاحقًا. بالإضافة إلى أنه يوجد هناك واحدة من أبرز تناقضاته التي تحسب عليه، وتلك تتمثل في أولاده الثلاث، ومواقعهم في الدولة، فهؤلاء إما رافقوه في جولاته باستمرار، وإما تناوبوا على تقلد المناصب العُليا في البلاد والتي تدرجت ما بين منصب مساعد الرئيس، ورئيس اللجنة الأولمبية الوطنية، ورئيس مجلس إدارة الاتحاد العام للدولة.

لكن يستمر “لوكاشينكو” مع ذلك في التأكيد على حقيقة أنه لا ينوي أن يخلفه أحد أبناؤه في الرئاسة من بعده.                                                                                                                كما تأخذنا الطريقة التي يُدير بها “لوكاشينكو” الاحتجاجات والمعارضة في كل مرة يشعر فيها أن منصبه في خطر الى طرح تساؤل جدلي هو العلاقة بين الديكتاتورية والوطنية. إنه يواصل القول بأنه توجد هناك مؤامرة غربية على بلاده، وهو الأمر الذي لا يخلو من صواب، لكن الحل الوحيد من وجهة نظره لمجابهة هذه المؤامرة هو البقاء في السلطة! ومما لا شك فيه، إنه توجد هناك حقيقة راسخة مفادها إنه “ليست كل الشعوب جاهزة ومُعدة لاستقبال وتطبيق النموذج الغربي من الديموقراطية”.

ونقول عنه إنه نموذج غربي، لأنه بالفعل غربي وليد الغرب ومن صنيعة الغرب وربما لهذا السبب هو ملائم لهم. وهذا ما يدفعنا للقول بأنه قد لا يتناسب مع دول أخرى تُعاصر ثقافات مختلفة ومرحلة أخرى من نمو وعيها الحضري. وإذا كان هذا النموذج قد نجح في الولايات المتحدة أو في ألمانيا فهذا لا يعني أنه من الضروري فرضه وتعميمه على الكل بالإجبار. لكن من الأجدر القول إن لكل بلدِ نموذجا ديموقراطيا خاصا بها. وهذا النموذج الخاص هو ما قد ينجم عنه الخليط بين الديكتاتور الوطني، أي الرجل الذي لديه تصور واضح عن أهداف بلاده ويمتلك ما يكفي من إرادة وتصور لرحلة قيادته.

لكن نعود لنقول إنه حتى هذا الخليط المُسمى “الديكتاتور الوطني”، لا يُمكن وأن يُطلق على “لوكاشينكو”. ففي حالتنا موضع الدراسة، نحن نقف أمام شخص يتشبث بالسلطة من أجل السلطة فقط. فعلى مدار سنوات ممتدة من حُكمه، لم تشهد بلاده نقلة نوعية من التطوير الذي كان ليصبح في مقدور شخص آخر توفرت له نفس إمكانياته وصلاحياته الواسعة أن يُنفذه. إنه موجود في موقعه على مدار هذه السنوات، ليس بفعل نجاحه الإداري أو تفوقه القيادي بقدر ما أن سبب وجوده يرجع إلى أن الحظ كان حليفه في وجود شخص مثل بوتين إلى جانبه.

وفي حقيقة الأمر، يحكم “لوكاشينكو” بلادًا تستمد معظم أهميتها على الساحة الدولية، من ناحيتين فقط، الأولى جوارها بالاتحاد الروسي، والثانية باعتبارها مدخلا يستطيع المهاجرون النفاذ منه إلى القارة الأوروبية. ولهذا السبب، وبالنظر على مدار تاريخ علاقته ببوتين التي شابتها توترات مؤقتة –أحيانًا- سرعان ما تلاشت بعد ذلك. فإنه من الأجدر وصف “لوكاشينكو”، بأنه الديكتاتور المُحب للسلطة نفسها والذي لن يُغادر الرئاسة إلا في حالتين، أحدهما الوفاة والأخرى رفع يد دعم بوتين عنه، والثانية كانت وشيكة خلال احتجاجات 2020، لولا تدخل بوتين في اللحظات الأخيرة وإدارة الدفة لصالح حليفه الذي تعلم الدرس الأهم في مسيرته، وهو أنه ليس بمقدوره النجاة أبدًا من دون عون بوتين.  

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى