ليبيا

العمالة المصرية تبدأ عبورها لإعادة إعمار ليبيا

مع بداية شهر أكتوبر الجاري، بدأت العمالة المصرية التوافد على ليبيا للمشاركة في عملية إعادة إعمار البلاد التي انزلقت في “هوة الحرب” بعد قرابة عِقد من الزمن وتحولها لساحة اقتتال من قبل قوى مرتزقة مأجورة لها أجندتها الخاصة.

هدوء حذر … وبداية الانطلاقة

ففي الوقت الذي تتدخل فيه عدة دول في ليبيا لأغراض استعمارية، دائما ما كانت تنظر مصر إلى ملف استقرار وإعمار ليبيا على أنه بمثابة أمن حيوي وقومي لمصر والمنطقة، ومشاركة العمالة المصرية في مشروعها للوصول لـ “ليبيا الجديدة”؛ ما هو إلا انعكاس لعمق الروابط والعلاقات بين الشعبين.

و الحقيقة أن مصر أيضا كانت داعمة للشعب الليبي طوال السنوات الماضية؛ وذلك من أجل تسوية الأزمة الليبية، سواء من خلال إعلان القاهرة الذي تم في يونيو 2020، وكذلك دعم خارطة الطريق التي وضعت للفترة الانتقالية، إلى جانب استضافة اللجنة العسكرية المشتركة بمدينة الغردقة في سبتمبر 2020، حتى تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020 .

وسبق أن أعلنت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، في الثالث من أكتوبر الجاري، أن مجموعات من المرتزقة الأجانب خرجت بالفعل من ليبيا، بينما تسعى حكومة الوحدة إلى حشد المساعدة الدولية لسحب الكثير من هؤلاء المقاتلين. فالاستقرار الأمني والسياسي هو التحدي الأبرز في عملية إعادة إعمار ليبيا.

وبالتزامن مع هذا الاستقرار النسبي، أعلن خليفة المبروك، عضو المكتب التنفيذي للشؤون العربية والدولية بالاتحاد الوطني لعمال ليبيا والأمين العام المساعد بالأمانة العامة للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب، وصول أول فوج من العمالة المصرية إلى ليبيا من جديد لبدء المرحلة الأولى من إعادة الإعمار.

وأشار المبروك، إلى أن بداية التعاون بين الجانبين المصري والليبي ستشمل إطلاق المنصة الإلكترونية للقوى العاملة وحصرها وتقديم كافة التسهيلات للعمالة الوافدة المصرية إلى ليبيا ، موضحا أن الربط الإلكتروني يهدف إلى تقديم تسهيلات لحصر مواقع عمل العمالة الوافدة إلى ليبيا، ومنع استغلالهم من جهات أخرى، ومنع الهجرة غير الشرعية، وغيرها من أمور الاستغلال الأخرى التي يشهدها ملف العمالة بشكل عام.

ولم تختلف هذه التصريحات عن رسالة الطمأنة التي بعث بها علي العابد، وزير العمل بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، للدول التي توفد عمالة إلى ليبيا بأن بلاده منظمة في عملية استجلاب العمالة وتنظيم سوق العمل. من خلال تطبيقات ذكية على الهواتف المحمولة لاستعمالها في أي مكان، وتتحمل بمقتضاه الدولة الليبية المسئولية القانونية والرسمية لكافة العمالة المسجلة.

وعودة العمالة المصرية للمشاركة في جهود البناء والتعمير في البلدان العربية ما هي إلا خطوة فاعلة نحو تحقيق التكامل العربي، ومد أذرع الدعم إلى الأشقاء لخدمة أهداف التنمية، وتعزيز الأواصر التاريخية والشعبية الممتدة بين البلدين، كما يعد تدليلا قويا على ما تحظى به العمالة المصرية من مهارة ومكانة في دول الجوار.

مليون عامل مصري

مليون عامل مصري بدأوا دخول ليبيا مطلع شهر أكتوبر الجاري، برفقة وفد كبير من وزارة العمل بمصر. وذلك على خلفية توقيع عقود لتنفيذ مشروعات ليبية بقيمة 19 مليار دينار ليبي (4.24 مليارات دولار)، تحتاج إلى مليون عامل مصري لتنفيذها، وقد يصلون إلى مليونين خلال أكثر من عام، بل ذهبت بعض التقديرات إلى وصولها إلى مشاركة 3 ملايين عامل مصري في مشروعات إعمار ليبيا، وهو نفس عدد العاملين العائدين من ليبيا في سنوات الصراع الأخيرة.

وتسير عملية استجلاب العمالة المصرية وفق القانون رقم 12 لعام 2010، فأي شركة ليبية تستجلب عمالة من الضروري تشغيل نسبة 30% من العمالة المحلية. وفي المقابل 20% تدريب بموجب اتفاقيات التدريب مع الشركات التي تستجلب اليد العاملة الأجنبية.

ويرجع الاعتماد الأكبر على العمالة المصرية في إعادة إعمار ليبيا إلى تمتع العمالة المصرية بخبرات كبيرة أثناء إعادة بناء الدولة المصرية وبالتالي هم يبحثون عن كيفية الاستفادة منها، كما أن رواتب العمالة المصرية قريبة من متوسط الأجور بليبيا كما أن الظروف المعيشية الخاصة بليبيا شبيهة للموجودة بمصر، ناهيك عن قصر المسافة بين البلدين، ووحدة اللغة بينهما التي تسمح بتفاهم أكبر. وتحديد الرواتب هو مسئولية الشركات المصرية وليس الجانب الليبي، حيث إن الجانب الليبي يعطي للشركة المشروع وهي تتفق مع عمالها على الرواتب.

وتجري خطة إيفاد العمالة المصرية إلى ليبيا وفق خطوات تنفيذية وتنظيمية محددة؛ تتضمن تنفيذ برامج تدريبية للعمالة المختارة، لصقل مهاراتها، بما يتوافق والحرف والمهن المطلوبة في ليبيا.

وإيفاد العمالة المصرية للخارج يسهم في المقام الأول في زيادة موارد الدولة وارتفاع تحويلات المصريين من الخارج، وخفض معدلات البطالة، وزيادة صادرات مواد البناء بمختلف أنواعها كالحديد والأسمنت والطوب بأنواعه وغيرها من المواد، وهو ما ينشط حركة السوق ويزيد الدخل القومي.

إضافة إلى أنه يعد فرصة لزيادة حجم الاستثمارات المشتركة بين الدولتين وزيادة معدلات التبادل التجاري، ما يصب في مصلحة الاقتصاد المصري.

اتفاقيات ضخمة

وقعت ليبيا ومصر اتفاقيات للتعاون المشترك في مجالات عدة، هي الأضخم منذ سقوط نظام معمر القذافي، قبل عشر سنوات، وكانت البداية بزيارة الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في 20 ابريل 2021، للعاصمة الليبية طرابلس، على رأس وفد يضم 11 وزيرا.

ناقلًا رسالة تؤكد فحواها دعم مصر؛ قيادة وحكومة وشعباً، للدولة الليبية خلال هذه المرحلة المهمة، وحرصها على دعم ومساندة كافة المؤسسات الليبية في تحقيق المصالحة الوطنية والوصول إلى وحدة الأراضي الليبية بالكامل وتحقيق التنمية والرخاء للشعب الليبي.

وأعرب في هذا الصدد، عن انفتاح الجانب المصري على كافة مقترحات تعزيز التعاون، لاسيما تلك المتعلقة بتدشين خط ملاحي بين الموانئ المصرية والليبية، مشيرا إلى أنه وجه وزير الطيران المدني بالسماح الفوري باستقبال رحلات الطيران القادمة من المدن الليبية إلى مطار القاهرة الدولي، والاتفاق على وضع الضوابط الخاصة بهذا الملف.

وأضاف مدبولي أن مصر حريصة على نقل تجربتها في مجال التعليم، وإعادة فتح المدرسة المصرية في ليبيا، كما أعرب عن ترحيب الدولة المصرية أيضا بإنشاء جامعة مصرية في إحدى المدن التي يختارها الجانب الليبي، فضلا عن المساعدة في إنشاء مستشفى مصريّ في طرابلس أو أي مكان يختاره الجانب الليبي، هذا بالإضافة إلي إيفاد قوافل طبية في التخصصات التي يحددها الجانب الليبي، مؤكدا حرص مصر الشديد على إعادة الروابط التاريخية والعميقة بين الشعبين خلال الفترة القادمة.

وتم خلال اللقاء التوقيع على 11 اتفاقية تشمل ثلاث اتفاقيات في مجال الكهرباء، وثلاث اتفاقيات في مجال الاتصالات والتعاون التقني والفني، واتفاقية واحدة في كل من مجالات: الصحة والقوى العاملة والبنية التحتية والنقل والاستثمار. كما اتفق الجانبان على بدء التحضير للاجتماعات المقبلة للجنة العليا المشتركة بين مصر وليبيا، والتى لم تنعقد منذ 2009.

هذا وقد أعرب رئيسا وزراء البلدين عن سعادتهما بحجم ما تم التوافق عليه بين الوزراء من الجانبين، حيث قال رئيس الوزراء الليبى مخاطباً الوفد المصرى “لقد فتحنا الطريق وأنتم أول الداخلين“.

وبعد أقل من خمسة أشهر، اجتمعت اللجنة العليا المصرية الليبية المشتركة بين البلدين، في دورتها الحادية عشر في السادس عشر من سبتمبر 2021 بالقاهرة، بعد توقف دام ما يقرب من اثني عشر عاما، برئاسة رئيسي حكومة البلدين، وبحضور 30 وزيرا ليبيا، بالإضافة إلى عدد كبير من المسئولين في الدولة الليبية، للمضي قدمًا في وضع الخطة التنفيذية لعملية الاعمار

وخلال الاجتماع، دعا الدكتور مصطفى مدبولي الجانب الليبي إلى الاستثمار في مصر من خلال قيام المؤسسة الليبية للاستثمار، وصندوق الإنماء، بالاستثمار في مختلف المشروعات المصرية.

ومن جانبه، قال الدبيبة: جئنا اليوم بصحبة هذا الجمع الكبير من الوزراء المختصين لنؤكد أننا جادون في تنفيذ المشروعات، مضيفاً أن مصرف ليبيا المركزي سيكون مسئولا عن تيسير عملية تمويل المشروعات. مؤكدًا أن الشركات المصرية هي من ستنفذ المشروعات المتفق عليها، فنحن مقتنعون للغاية أنها قادرة على ذلك، خاصة بعد ما رأيناه من تنفيذها للمشروعات الكبرى في مصر، ووعد في هذا الصدد بتسهيل عملية إدخال العمالة والمعدات بسرعة قياسية.

وأسفرت اجتماعات الدورة الحادية عشرة للجنة العليا المصرية الليبية المشتركة، عن توقيع 14 مذكرة تفاهم مشتركة بين الجانبين، في عدد من المجالات المختلفة، و 6 عقود تنفيذية، بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من 30 مليار دولار. إلى جانب توقيع محضر اجتماعات اللجنة المشتركة.

تضمنت مذكرة تفاهم بين الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة في مصر، ووزارة الخدمة المدنية بالحكومة الليبية في مجالات الإدارة والوظيفة العامة والخدمة المدنية. وأيضا توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء اللجنة التجارية المشتركة بين حكومتي البلدين، وكذا مشروع مذكرة تفاهم بين الهيئة العامة للتنمية الصناعية المصرية، ووزارة الصناعة والمعادن الليبية في مجال التعاون الصناعي.

كما تم توقيع مذكرتي تفاهم بين وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية، ووزارة الزراعة والثروة الحيوانية الليبية؛ للتعاون في المجال الزراعي، والحجر الزراعي، وتوقيع مذكرة تفاهم حول التعاون المشترك في مجال الشئون الاجتماعية، كما تم توقيع مذكرة تفاهم في مجال أمن الطيران المدني،كما تم التوقيع على مذكرتي تفاهم للتعاون في مجال مكافحة التلوث البحري وآثاره، والتعاون في مجال البحث والإنقاذ البحري،وكذا تم توقيع  مشروع مذكرة تفاهم بين وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية في مصر، ووزارة الإسكان والتعمير في دولة ليبيا في مجال الإسكان والتشييد.

كما أثمرت اللجنة عن توقيع مذكرتي تفاهم في مجال الشباب والرياضة بين وزارة الشباب والرياضة المصرية، ووزارتي الرياضة والشباب الليبية، وتضمنت مذكرات التفاهم الموقعة أيضا مذكرة تفاهم بين وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية، ووزارة النفط والغاز بدولة ليبيا ؛ لتعزيز التعاون في مجال النفط والغاز، كما تم توقيع مذكرة تفاهم بين جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، وحسن علام للإنشاءات)، وكذا توقيع عقد بين جهاز مشروعات الاسكان والمرافق الليبي، وائتلاف الشركات المصرية ذاته، بشأن تنفيذ الطريق الدائري الثالث بمدينة طرابلس.

وتم التوقيع أيضا علي عقد تصميم وتوريد وتركيب مشروع محطتي درنة الغازية، وميلتا الغازية، بين الشركة العامة للكهرباء الليبية، وائتلاف الشركات المصرية (أوراسكوم للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة، والهندسة)، كما تم توقيع عقد استشاري لمشروعي محطتي ميلتا ودرنة الغازية، بين الشركة العامة للكهرباء الليبية وائتلاف استشاريين مصريين.

وتم توقيع عقد صيانة طريق “أجدابيا- جالو” بين وزارة المواصلات الليبية، ممثلة في جهاز تنفيذ مشروعات المواصلات الليبي، وائتلاف شركات (أوراسكوم للإنشاءات، وحسن علام للإنشاءات، ورواد الهندسة الحديثة).

ومن المتوقع أن تصل التكلفة الإجمالية لإعادة إعمار ليبيا إلى 111 مليار دولار، أو ما يعادل 500 مليار دينار ليبي خلال 10 سنوات. وسبق أن أشار تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية الأسكوا، قال إن مكاسب السلام في ليبيا أكثر من 160 مليار دولار بين 2021-2025، وسيؤدي إلى انخفاض البطالة في السودان، ومصر، وتونس. هذا إلى جانب وقف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

ومن المتوقع أن الشركات والعمالة المصرية سيكون لها الأولوية في عمليات إعادة الإعمار في ليبيا، خاصةً أنها تمتلك الخبرة الكافية، ومن المتوقع أن تستحوذ الشركات المصرية على 25% من مشروعات إعادة الإعمار وذلك من خلال الشراكة مع نظيرتها الليبية. وهو ما أكدته تصريحات الدبيبة لأكثر من مرة عن ثقته في الشركات والعمالة المصرية وقدرتها على إعادة إعمار ليبيا.

ويُبرز حجم الوفود المصرية الليبية وحجم الوثائق التي تم توقيعها مدى التنسيق الكبير بين البلدين، والعلاقات المهمة بالنسبة للطرفين وحرصهما على توسيع أطر التعاون.

إجمالي حركة التجارة بين مصر وليبيا (بالألف دولار)

شهدت حركة التجارة بين مصر وليبيا ارتفاعا ملحوظا بين عامي 2018، 2019. كما تشهد قيمة التبادل التجاري انتعاشاً ملحوظاً بين مصر وليبيا، منذ نهاية الربع الأول من العام الحالي، أي منذ انتخاب السلطات الليبية الجديدة، حيث بلغت في يونيو الماضي، إجمالي الصادرات المصرية إلى ليبيا 83.138 مليون دولار بزيادة عن مثيلتها في 2020 بمقدار 29.544 مليون دولار. بينما قدرت إجمالي الواردات المصرية من ليبيا في يونيو الماضي بـ 4.368 مليون دولار بزيادة عن مثيلتها بعام 2020 بمقدار 2.735 مليون دولار.

وأوضحت نشرة التجارة الخارجية، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، في إصدار أغسطس الماضي، أن الميزان التجاري بين البلدين عن النصف الأول من العام الحالي يصب في صالح مصر بنحو 440.6 مليون دولار، خلال هذه الفترة.

ونمت صادرات مصر من ليبيا، خلال النصف الأول من العام الحالي، لتسجل 478.9 مليون دولار، في مقابل 284.4 مليون دولار، خلال الفترة نفسها من 2020، بمقدار زيادة يبلغ 194.5 مليون دولار.

وارتفعت قيمة الواردات المصرية للسوق الليبية، خلال النصف ذاته من العام الحالي، لتسجل 38.3 مليون دولار، في مقابل 20.01 مليون دولار، خلال النصف نفسه من العام الماضي، بمقدار زيادة يبلغ 18.3 مليون دولار.

ختامًا، السياسة الحكيمة للسيسي والحكومة المصرية تتضح يوما بعد يوم، فقوة النشاط الاقتصادي والقطاع الانشائي على وجه التحديد، وبزوغ ملامح الجمهورية الجديدة في كافة القطاعات التنموية كان لها بالغ الأثر على ثقة دول الجوار في الاستعانة بالأيدي المصرية في إعادة إعمار ربوعها، وكانت القاهرة ملبية بمجرد النداء، وتواصلت مع جميع الأطراف ومدت جسور إعادة الوحدة الوطنية والتنمية لهذا البلد الممزق (ليبيا).

هبة زين

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى