إيران

لماذا تسعى إيران للتقارب مع جيرانها في الوقت الحالي وخاصة السعودية؟

في سابقةٍ نادرةُ الحدوث منذ يناير 2016، صرح وزير خارجية المملكة العربية السعودية، الأمير فيصل بن فرحان، الأحد الماضي الثالث من أكتوبر بأن بلاده أجرت محادثات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عُقدت جولتُها الرابعة في 21 سبتمبر 2021، مؤكدا أن المرحلة الحالية من الحوار بين البلدين لا تزال “استكشافية”.

وجاءت هذه التصريحات بالتزامن مع إعلان إيراني مشابه آخر وانفتاح جدي من جانب طهران بغية إيجاد “تسوية” مع دول الجوار، وخاصة السعودية.

فقد أكد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، منذ المؤتمر الصحفي الأول له في يونيو الماضي على تقبل طهران لإحداث انفراجة في سياسة بلاده الخارجية تشمل تحسين العلاقات والدفع بها قدما مع دول الجوار العربية، مشيراً إلى أنه لا مانع لدى إيران من إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الرياض وإعادة فتح سفارتي البلدين.

وفي الواقع، لم تشهد علاقاتُ البلدين مثل هذه الانفراجة الديبلوماسية، على الرغم من أنها لا تزال في مراحلها الأولية، منذ الهجوم على سفارة وقنصلية الرياض في مدينتي طهران ومشهد في الثاني من يناير 2016. إذ كان المسار الدبلوماسي مغلقاً بشكل واضح بين الجانبين بعد هذا التاريخ المُشار إليه، واتسمت العلاقات بينهما بالتوتر، الشديد في كثيرٍ من الأحيان، وتضاربت مصالحهما خاصة على المستوى الإقليمي، سواء في اليمن، أو سوريا أو حتى العراق التي تشير تقارير دولية(*) إلى أنه يستضيف جولات الحوار بين الرياض وطهران في الآونة الأخيرة.

ويقودنا هذا بالتالي إلى محاولة استكشاف أسباب هذا التوجه الإيراني الحالي الرامي للانخراط في تسوية مع دول الجوار، خاصة السعودية.

  1. التوجه الإقليمي لحكومة الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي:

لقد عبّر الرئيس الإيراني الجديد رئيسي عن رؤيته المغايرة نسبياً فيما يتصل بعلاقات الجمهورية الإيرانية مع الجيران في منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية. فبعد تجربة إيران مع الاتفاق النووي الموقّع مع القوى الكبرى في مدينة لوزان السويسرية عام 2015 وخروج الولايات المتحدة الأمريكية منه في 2018، بدأ المحافظون في إيران يطرحون رؤى جديدة خلال السنوات القليلة الماضية، قبل وصول “رئيسي” إلى الحكم، تقوم على التوجه لتعزيز العلاقات مع دول الشرق، كروسيا والصين والسعودية وغيرهم.

 إذ أن هذا المسار الجديد يعوِّض، حسب الرؤية الإيرانية المحافظة، التوجه نحو الغرب الذي كان بارزاً بشكل أكبرَ خلال ولايتيّ الرئيس الإيراني الإصلاحي السابق حسن روحاني (2013-2021).إذ لطالما كانت الأطروحات السياسية الإيرانية لوزير خارجيته محمد جواد ظريف تركز على تعزيز العلاقات مع الدول الغربية والأوروبية، وذلك في الوقت الذي وصلت فيه العلاقاتُ مع الجيران إلى مرحلة متطورة من الصراع غير المباشر في الميادين الإقليمية، فضلاً عن معارك التصريحات الكلامية.

ولذا، فإن سعي إيران لتقوية العلاقات مع الشرق بوجه عام يجئ لمواجهة التوتر القائم بالفعل في العلاقات الإيرانية مع الدول الغربية، فضلاً عن عدم ثقة إيران بها وعلى وجه الخصوص حكومة المحافظين الجديدة. ومن هنا، يمكن قراءة انضمام إيران في سبتمبر الماضي إلى منظمة شنغهاي الآسيوية على أنها “أول خطوة عملية” في طريق تطبيق رؤية إبراهيم رئيسي للتوجه نحو الشرق التي أعلن عنها عقب فوزه بانتخابات الرئاسة في يونيو 2021.

فهذه المنظمة لطالما يُنظَر إليها على أنها تكتلٌ “معادٍ” للغرب، وخاصة لحلف شمال الأطلنطي “الناتو”، ما يفسر بعضاً من أسباب اهتمام إيران بالانضمام إليها منذ سنوات.

وفي هذا السياق العام، يمكن تفهم لماذا ترغب إيران في تطوير علاقاتها إيجابياً مع دول الجوار العربية، ومن أبرزها السعودية، والتي تُحسب على أنها من دول الشرق على أي حال.

  • الإنهاك الاقتصادي الذي ترغب إيران في الخروج منه:

من بين أبرز البرامج التي طرحها الرئيس “رئيسي” قبل وبعد توليه منصبه كانت الرؤية الاقتصادية الرامية إلى إخراج بلاده من حالة الإنهاك الاقتصادي التي تفاقمت حدتُها في السنوات الأخيرة، خاصة مع حزم العقوبات الاقتصادية القاسية التي فُرِضَت خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. إن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة قد دفعت من دون شك القادة والساسة في إيران إلى تبنى خطط محلية ورؤى سياسية خارجية جديدة، أبرزها على سبيل المثال دعم المرشد الإيراني الأعلى وكثير من المحافظين لإطلاق المفاوضات النووية من جديد مع الغرب.

إن الرغبة الإيرانية في الخروج من المأزق الاقتصادي تدفعُها في الوقت الراهن إلى الانفتاح على دول الشرق، كانضمامها إلى منظمة “شنغهاي” كما سبق القول، وإلى التسوية مع دول الجوار على وجه الخصوص. إذ أن مثل هذه التسوية مع الجيران، وعلى وجه الخصوص مع الرياض، ستقود إلى تحقيق انفراجاتٍ في ملفات أمنية وعسكرية عدة تكلف إيران مبالغ طائلة سنوياً، كالحرب في اليمن وسوريا والتوترات الأمنية في العراق ولبنان.

وسيخدم استقرارُ المنطقة من دون شكٍ الاقتصادَ الإيراني؛ حيث سيزداد على سبيل المثال حجم التجارة مع العراق والسعودية، كما أن هذا الاستقرار ستستفيد منه التجارة النفطية الإيرانية. وعليه، فإن تطلع إيران إلى إقرار “المهادنة” مع دول الجوار تفسره من إحدى زواياه دوافعُ اقتصادية.

  • المساعدة في تسريع التوصل إلى اتفاق نووي:

يطرح الجانب الأمريكي في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، ومن قبله ترامب، قضية الملف الإقليمي لإيران بشكل جدي على طاولة المفاوضات التي توقفت جولتُها السادسة في العاصمة النمساوية فيينا شهر يونيو الماضي. وتدرك إيران بشكل جيد مدى تأثير تحسين علاقاتها مع دول الجوار على مستقبل المفاوضات النووية؛ حيث إن واشنطن والدول الأوروبية سوف تقرأ هذه الخطوة على أنها إشارة قوية من إيران في إطار مسعاها الجدي لتقليل حدة التوترات مع بعض دول الإقليم، وهو ما تراه الدول المشاركة في المفاوضات أمراً ضرورياً من أجل التوصل إلى اتفاق نووي في نهاية المطاف.

وعلاوة على هذا، يدرك الإيرانيون جيداً حجم التأثير الخليجي، والسعودي من بينه، على مسار المفاوضات؛ لعدة أسباب من بينها العلاقات القوية بين الرياض من جانب وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جانب آخر. ولذا، فإن تحسن علاقات طهران مع الرياض سوف يساهم بإيجابية في تحريك مسار المفاوضات النووية المتعثرة حتى الآن إلى الأمام.

ومن ناحية أخرى، وفي إطار الرؤية الإيرانية المستقبلية لمرحلة ما بعد التوصل إلى اتفاق نووي جديد، أو إعادة صياغة القديم، سيكون من المحبذ لإيران خلال الفترة الجديدة التقارب مع دول المنطقة بوجه عام وإقرار الأمن في الإقليم؛ حتى تستطيع تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب الاقتصادية الناتجة عن الاتفاق النووي مستقبلاً.

  • الرؤية الإيرانية الشاملة لإخراج القوات الأمريكية من المنطقة:

تتزامن الدعوات الإيرانية الرامية إلى التسوية سياسياً مع دول الجوار مع خروج القوات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية من إقليم الشرق الأوسط؛ لتتمركز في الغالب في منطقة المحيط الهادئ في إطار أكبر وهو الصراع مع الصين وروسيا. ولطالما وصف القادة العسكريين الإيرانيين، وعلى رأسهم خامنئي، عملية دفع الولايات المتحدة للخروج من منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق وسوريا وأفغانستان، على أنها “سياسة استراتيجية-سیاست راهبردی” لإيران.

ومع خروج الولايات المتحدة بالفعل من أفغانستان في شهر أغسطس الماضي، وتوقع خروجها أيضاً من العراق بحلول 31 ديسمبر المقبل طبقاً للبيان المشترك للجولة الرابعة من “الحوار الاستراتيجي” المبرم بين بغداد وواشنطن في شهر يوليو الماضي، تكون واشنطن قد خرجت بالفعل من الجوار الجغرافي لإيران شرقاً وغرباً، أي أن “الاستراتيجية” الإيرانية المُشار إليها قد تحققت جزئياً على أرض الواقع.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتواجد عسكرياً في نطاق جغرافي أقل داخل سوريا مقارنة بالعراق وأفغانستان، إلا أن هذا البقاء لا تراه إيران تهديداً مثلما هو الحال في البلدين الآخرين، كما أن التنافس غير المعلن بين إيران وروسيا عسكرياً وسياسياً على الأراضي السورية، يدفع إيران إلى قبول التواجد الأمريكي العسكري في سوريا.

إذاً، لا مانع لدى طهران في الوقت الراهن لإحداث تسوية سياسية مع السعودية ودول الجوار، في ظل دعواتها “لتوحيد المنطقة” ضد التواجد الأمريكي، حسب رؤيتها الخاصة التي تعلنها.

  • مقتل قاسم سليماني والتراجع النسبي للتحركات العسكريةالإيرانية إقليمياً:

يُلاحظ أن إيران تواجه منذ مقتل قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، في غارة جوية بالقرب من مطار بغداد الدولي في يناير 2020، عثراتٍ في تحركاتها وأنشطتها العسكرية الإقليمية داخل منطقة الشرق الأوسط. فقد بدا أن تأثير القائد الجديد للفيلق، إسماعيل قاآني، على بقية المجموعات المسلحة الموالية لإيران في المنطقة أقل من نظيره سليماني. فقد كان لسليماني على أرض الواقع نفوذ داخل هذه المجموعات وداخل الحرس الثوري نفسه ربما كان يفوق قائد الحرس نفسه.

ولم يستطع قاآني أن يلعب نفس دور سليماني حتى الآن في السيطرة على هؤلاء الوكلاء وتوظيفهم، كما أن حضوره الميداني يُعد أقل كثافة من سليماني.

وعلى أي حال، فقد تراجعت بشكل نسبي قدرة إيران على السيطرة على بعض الجماعات الشيعية الموالية لها في الإقليم ومن بينها تلك التي تنشط في العراق؛ حيث كان سليماني نفسه القائد الفعلي لهذه الجماعات والمؤسس لبعضها الآخر مثل “الحشد الشعبي” في العراق. ولأسباب عدة من بينها مقتل سليماني والتدهور الاقتصادي، تضاءل بالتزامن مع ذلك مستوى وحجم التحرك العسكري الإيراني في الإقليم بوجه عام، ما قاد إلى التأثير سلباً على دور إيران في بعض الدول.

ومن بين المؤشرات الدالة على هذا التراجع، كان فقدان طهران الواضح لجزء من النفوذ السياسي داخل حكومة مصطفى الكاظمي في العراق، بعد أن كان تأثيرها السياسي واضحاً للغاية على الحكومات العراقية السابقة منذ 2003، إضافة لتوجه الحكومة في بغداد لإخضاع هذه الجماعات لسيطرة الدولة والحكومة.

  • الحاجة للتعامل مع تداعيات الأزمة الأفغانية:

إن الأزمة الأمنية في أفغانستان باتت منذ منتصف شهر أغسطس الماضي تمثل ثقلاً وتهديداً حالياً ومستقبلياً لإيران. فقد قاد انسحاب الولايات المتحدة إلى صعود حركة “طالبان” الأفغانية البشتونية إلى الحكم، واضطراب الأوضاع الأمنية بشكل أكبر مع إعادة إحياء الجماعات الإرهابية الأخرى مثل “داعش” و”القاعدة” وغيرهم.

وفضلاً عن مخاطر تداعيات أزمة المهاجرين الأفغان على الاقتصاد الإيراني، يشكل هذا التوتر الأمني الجدي في كابل تهديدات حقيقية لإيران لا يمكنها إغفالها، كما أنه يحمل في طياته ملامح مستقبل أمني مجهول لإيران سيكون عليها في هذا الحال إما الانخراط عسكرياً في هذه الأجواء المتصاعدة أمنياً داخل أفغانستان أو الاكتفاء بالدفاع عن حدودها فقط على الأقل.

وفي كلتا الحالتين، سوف تنشغل طهران بهذه التطورات الجديدة، وستحتاج إلى ضمان استقرار الحالة الأمنية في الغرب حتى تستطيع التفرغ ولو نسبياً للتعامل بشكل ملائم مع الشرق الأفغاني.

مستقبل عملية التفاوض السعودية الإيرانية

بعد الانتهاء من الجولة الرابعة من المحادثات بين البلدين في 21 سبتمبر الماضي، يُتوقع حسب تصريحات وزير الخارجية السعودي، وطبقاً لخطة الحكومة الإيرانية الجديدة، أن يُستكمل الحوار بين البلدين لاحقاً. ولكن فرص نجاح هذا الحوار سوف تتوقف على مدى التفاهم والمساومة بين البلدين في حل مختلف القضايا العالقة بينهما، وعلى رأسها المسألة اليمنية.

ففي هذا البلد، سيحاول الطرفان تهدئة الأجواء الأمنية؛ حفاظاً من الرياض على الأمن السعودي الداخلي وعلى مصالحها التجارية في الخارج وعلى وجه الخصوص في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وذلك في الوقت الذي سوف تسعى فيه طهران إلى إدخال “الحوثيين” ضمن معادلة السلطة الدائمة في اليمن.

وعراقياً، سوف تسعى إيران إلى مواصلة السيطرة على الجماعات الموالية لها هناك وإبقاء نفوذها داخل الحكومة في بغداد، في ظل رغبة سعودية بعدم تهديد هذه الجماعات لحدودها الشمالية، أو استهدافهم لمصالحها.

أما في لبنان، التي يملك البلدان نفوذاً واسعاً بداخله، فإن طهران من المرجح بشدة ألا تساوم أو تقبل تقييد علاقتها بـ”حزب الله” هناك، ولكن سيكون عليها تقبل تقاسم السلطة بين مختلف الطوائف والتيارات اللبنانية، بمعنى إيجاد مساحة سياسية لجميع الفصائل والطوائف وعدم استئثار الحزب بالعملية السياسة، علاوة على تحقيق استقرار أمني داخلي.

وعليه، فإذا استطاعت الرياض وطهران إيجاد مواءمات سياسية حول هذه الملفات الإقليمية، علاوة على الملف السوري، فإن النجاح سوف يُكتب لهذه المفاوضات، وإلا فإنها لن تجدي نفعاً وستظل طبيعة العلاقات كما هي عليه.

………………………

(*)”وزیر خارجه عربستان: مذاکرات ما با ایران هنوز در مرحله اکتشافی است“،راديو فردا، 4 أكتوبر 2021.

https://cutt.us/aCXmd

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى