السودان

الطريق إلى الأمام.. تعثر خطوات شركاء “المرحلة الانتقالية” بالسودان

على خلفية الاستقطابات التي تسود كافة تحالفات وتفاعلات أطراف العملية السياسية في السودان، تصاعدت التحديات إلى الحد الذي يمكن معه تقويض المرحلة الانتقالية التي بدأتها البلاد عقب سقوط البشير في إبريل 2019. وساهمت الاستقطابات الحاكمة للتفاعلات الانتقالية منذ سقوط البشير، بين النخب المدنية والعسكرية في تأخيرعملية التوافق على طبيعة وكيفية إدارة المرحلة الانتقالية. 

فتم التوصل إلى الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي، بشق الأنفس، أغسطس 2019 بعد أشهر من الفراغ والمواجهات السياسية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الوثيقة الدستورية المرجعية لإدارة المرحلة، والتي تجري في ضوئها عملية السلام بين الأطراف المختلفة؛  غير أن الوثيقة الدستورية بداية واتفاق جوبا للسلام من بعدها لم يحظيان بالإجماع من كافة أطراف المرحلة. 

إذ امتنعت الأطراف المتحفظة عن الانضمام للاتفاق السياسي ومن بعده اتفاق السلام. وكان هذا أمر يفرض بدوره مزيدا  من الضغوط على أطراف العملية السياسية لضم هؤلاء المتحفظين من جهة، وكذلك توفيق الاختلافات بين الشركاء أنفسهم من جهة أخرى. إذ ما تم التوصل إليه من اتفاقات، يأتي في إطار اتفاقات الحدّ الأدني ربما، أو المحاصصة؛ بما جعل ما يفرقهم أكثر بكثير مما يجمعهم. وهو أمر مفهوم في سياق نخب كانت منقسمة بدورها أيام البشير، ولم يجدوا سوى إسقاط البشير كقضية توافقية بين كافة الثوار والقوى المدنية، وما انحاز إلى الثوار من النخب العسكرية. ما عدا إسقاط النظام السابق، لا يوجد توافق حول شكل الدولة في المستقبل، وكذلك حول دور ونصيب كل طرف من عملية تقاسم السلطة والثروة. 

في ضوء ذلك المشهد المستقطب، ومع استمرار حدة الانقسامات، بما يلقي بظلاله على مستقبل المرحلة الانتقالية، ومن ثمّ مستقبل البلاد ككل؛ أطلق رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، مبادرة ” الطريق إلى الأمام”، في يونيو الماضي؛ في محاولة للتغلب على التحديات التي تحيط بالعملية الانتقالية. وعلى الجانب الآخر، تحاول الحرية والتغيير إعادة صياغة شكل التحالف من جديد.

الطريق إلى الأمام

أطلق رئيس الوزراء السوداني” عبد الله حمدوك” في يونيو الماضي، مبادرة لمعالجة الأزمات التي تمرّ بها السودان وتحصين التحول الديمقراطي، من خلال التوصل إلى تسوية سياسية شاملة لتوحيد الجبهتين العسكرية والمدنية، وإيجاد رؤية مشتركة بينهما تقود إلى إنجاح المرحلة الانتقالية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.

وتضمنت المبادرة سبعة محاور، تتمثل في إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وقضايا العدالة، والوضع الاقتصادي، والسلام، وتفكيك نظام الرئيس السابق عمر البشير، وملف العلاقات الخارجية، والمجلس التشريعي الانتقالي.

وتباينت مواقف القوى السياسية السودانية بشأن هذه المبادرة، بين داعم لها باعتبارها تشكل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح لحل مشكلات وأزمات السودان المتعددة والمتراكمة، وآخرين يرون أنها لم تخاطب القضايا الحقيقية التي تعاني منها البلاد، وبالتالي لن تكون مخرجاً لبر الأمان.

ورغم أن هذه المبادرة حددت المشاكل التي تواجهها البلاد، إلا أنها كانت أكثر عمومية، ولم تحدد آليات للتنفيذ، فضلًا عن وجود مرجعيات لإدارة المرحلة الانتقالية بالفعل، والخلاف الأساسي هو خلاف بين النخب وأي مبادرة صادرة هي محاولة لإحداث توافق بين النخب أكثر منها مقاربة للتعامل مع التحديات.

وكان حزبي الأمة والمؤتمر السوداني، من بين الأطراف المؤيدة والداعمة للمبادرة. على الجانب الآخر، عارضها الحزب الشيوعي الذي رأى عدم ملامستها لجوهر المشكلات الحقيقية، مثل تشكيل المجلس التشريعي والنظر في لجنة فضّ الاعتصام.

وقد لاقت مبادرة حمدوك دعمًا دوليًا وإقليميًا، بما يسهم في دعم إنجاح التحول الديمقراطي والإصلاحات الشاملة التي تقوم بها الحكومة. غير أن اختيار أعضاء الإدارات الأهلية وزعماء الطرق الصوفية ضمن آليات التنفيذ، ربما يسهم في مقاطعة الأجيال الثورية الرافضة للوجوه القديمة. إذ يرى البعض أن الآلية عبارة عن جهات استشارية لحمدوك، في حين وجود جهات وأجهزة تنفيذية تقوم بهذا الدور، وأن الأفضل توسعة الحاضنة السياسية، أو إعادة هيكلية التحالف.

الحرية والتغيير..بين الإعلان السياسي وميثاق التوافق الوطني

رفضت حركتا مناوي وجبريل الإنضمام للإعلان، الذي سعت من ورائه الحرية والتغيير لتوحيد مكوناتها، فأطلقت في 9 سبتمبر الماضي إعلانًا سياسيًا يستهدف إعادة توحيد قوى الحرية والتغيير. وقد اشتملت المبادرة على نفس الأهداف التي طرحها حمدوك في مبادرته. واشتملت المبادرة على قيام الانتخابات في موعدها وإكمال مؤسسات الفترة الانتقالية، والعمل مع المكون العسكري لإحداث التحول الديمقراطي، إلى جانب دعم لجنة إزالة التمكين وانتهاج سياسة خارجية متوازنة والعمل على إنجاح الانتقال وحلّ قضايا النازحين واللاجئين وتكوين المجلس التشريعي وبقية المؤسسات الدستورية.

ورفض هذه المبادرة كل من الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين، في حين أيدها رئيس الوزراء ورأى أنها امتداد للمبادرة، واعتبرها خطوة في الاتجاه الصحيح. كما وقّع عليه نحو 40 من الأحزاب والحركات والتحالفات السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

وتمّ تقديم الإعلان سياسي كمبادرة أولية لإصلاح الحرية والتغيير، وإمهالها إسبوعين، قبل الإعلان عن جسم جديد، رغم تمسك مناوي بإعلان جسم جديد، عبر ميثاق التوافق الوطني، الذي جوهره استبعاد لجنة إزالة التمكين.

وكان آخر المحاولات لإعادة صياغة التحالفات بين الشركاء المدنيين، تلك التي أطلقتها مجموعة من الأحزاب والحركات المسلحة، الداعية إلى توسعة قاعدة المشاركة في الحكومة الانتقالية، أطلق عليها ” ميثاق التوافق الوطني لوحدة قوى الحرية والتغيير”.

وأثارت تلك المبادرة بدورها الشكوك بين المدنيين والعسكريين، مع توجيه أصابع الاتهام للمجلس السيادي برعاية المبادرة، مع الرسالة التي تداولتها وسائل الإعلام والمتعلقة بدعوة الأمين العام للمجلس لدبلوماسيين إلى حفل قوى الحرية والتغيير، في حين تمّ إسناد التهمة إلى حاكم إقليم دارفور ” مني أركو مناوي” التي نفاها هو الآخر.    

وفي الثالث من أكتوبر تمّ التوقيع على ميثاق سياسي بين حركات الكفاح المسلح وبعض التنظيمات السياسية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير المؤمنة بأن السودان وطن يسع الجميع. وتحت شعار ” السودان وطن يسع الجميع” يُعتقد بإمكانية تجاوز بعض أطراف من قوى الحرية والتغيير لصالح بناء شراكات وتوافقات جديدة بين العسكريين والمدنيين.

وتسعى هذه المبادرة، التي تّعد حاضنة سياسية جديدة؛ لتكوين مفوضية لمكافحة الفساد بدلًأ من لجنة إزالة التمكين ومؤسسات القضاء والنيابة العامة والمحكمة الدستورية لتحقيق العدالة والإصلاح القانوني وتشكيل المجلس التشريعي؛ في محاولة لتصحيح ما تمّ اختطافه، وفقًا لحاكم دارفور ” أركو مناوي”. 

وهي محاولة لإعادة توحيد قوى الحرية والتغيير، واستعادة اللجنة المركزية لها، التي تمّ اختطافها بحسب رئيس حزب البعث، الذي أوضح أنها محاولة لإشراك غير الممثلين في التحالف، وكذلك استمرار تمسكهم بالوثيقة الدستورية واتفاق السلام. 

من جانبه أكدّ رئيس مسار الوسط ” التوم هوجو” أن الإعلان الجديد يضمّ 17 جسمًا، لتصحيح مسار الثورة. في حين تحفظ قوى الإجماع الوطني على هذه المحاولة التي اعتبروا أنها محاولة لاختطاف الحاضنة السياسية، وأنه لا يمكن تجاوز مسيرة 30 سبتمبر التي دعت إلى تفكيك النظام السابق.

ومن بين الأطراف القائدة للتحرك، تحالف الجبهة الثورية، الذي يضم ( حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، والشعبية لتحرير السودان جناح مالك عقار، وتجمع قوى تحرير السودان برئاسة عبدالله يحيى. إضافة إلى حركة تحرير كوش ورئيس التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، ومسارات الشرق الذي وقّع عليه أسامة سعيد وخالد شاويش، والوسط الذي وقع عليه التوم هجو، والشمال الذي وقع عليه دهب إبراهيم دهب).

وبجانب الجبهة الثورية، فإن الحزب الاتحادي وكذلك حزب الأمة، من بين الأطراف الإصلاحية المتبنية للمبادرة، وكذلك حزب البعث، وشهد على التوقيع كذلك قيادات سياسية وإدارات أهلية وطرق صوفية. 

وسط هذا المشهد المنقسم، انقسم أحزاب اللجنة الفنية للحرية والتغيير إلى طرفين؛ الأول رافض لمشاركة النظام البائد في الميثاق، بينما الطرف الآخر برئاسة مناوي، والذي ضمّ التحالف الديمقراطي للعدالة، والعدل والمساواة، مع بعض الأحزاب السياسية في اللجنة الفنية، والتي لديها توجهات مخالفة للطرف الأول.

ومع ذلك فإن هناك أحزاب سياسية من اللجنة الفنية ترفض مشاركة النظام البائد، مثل حزب الأمة، التي انسحب من اجتماع الميثاق لمشاركة عناصر من النظام البائد، رغم مشاركته مع المجلس المركزي للحرية والتغيير حين توقيع الإعلان السياسي، كذلك انسحب الحزب الاتحادي الموحد لمشاركة فلول النظام السابق.

إذ أوضح سكرتير عام الحزب أن مشاركته جاءت في إطار دعوة الأحزاب الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، بهدف دعم المرحلة الانتقالية ودعم لجنة التفكيك بعد إحداث تعديلات، وليس توقيع إعلان سياسي جديد. في حين طالب مناوي أثناء الحفل بضرورة تعديل مسيرة البلاد التنفيذية والسياسية، بما يفتح الباب أمام تغيير حكومة حمدوك الحالية. كما طالب مناوي بضرورة الإسراع في تشكيل هياكل السلطة الانتقالية مثل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية، كما أشار إلى موافقته على محاسبة النظام السابق، لكن بقوة القانون، وليس قانون لجنة التفكيك.

 وعلى ذلك، أصبح نداء السودان طرفان، وكذلك الإجماع الوطني والحرية والتغيير وتجمع المهنيين، كل منهم منقسم على نفسه، وكذلك الجبهة الثورية نفسها منقسمة ما بين طرف برئاسة الهادي إدريس مع الإعلان السياسي بينما الطرف الآخر مع التحالف الجديد.

كذلك انتقد بقية أطراف الحرية والتغيير الخطوة، التي اعتبروها تجاوزًا للوثيقة الدستورية، وكذلك اتجهوا بتحميل المسؤولية للمجلس السيادي عن تلك التحركات، الرامية إلى إحداث الإنقسام داخل قوى الحرية والتغيير، وخلق مرجعية سياسية جديدة بديلة عن الحرية والتغيير.

أخيرًا: ساهم هذا الوضع في ظهور مبادرات ساعية للبحث عن حواضن سياسية جديدة للحكومة، لتجاوز خلافات وأزمات الحرية والتغيير. واليوم تقع حكومة حمدوك بين حاضنتين، في الوقت الذي شهد فيه حمدوك توقيع الإعلان السياسي قبل أسابيع.

وما بين إدانة وتبرئة لتدخل العسكريين لتعزيز الانقسامات بين مكونات قوى الحرية والتغيير، الشريك الثاني في إتفاقية الشراكة في الحكم؛ فإن الأخيرة باتت تعاني انقسامات بينية واضحة للعيان، علاوة على الانقسامات الكلية بين المدنيين والعسكريين. وهي الانقسامات التي تلقي بظلالها على طبيعة ووتيرة المرحلة الانتقالية وما بعدها. بل تحول الخلاف من اختلافات في الرؤى حول قضايا المرحلة إلى اختلافات هيكلية بين القوى والقيادات الانتقالية، على نحوٍ عاكس للانشغالات بالمحاصصة والمنافع التي يمكن أن يجنيها كل فصيل على حساب قضايا المواطنين الذين لا زالوا يعانون من الأوضاع المتردية.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى