العالم

“وثائق باندورا”: كيف ساعدت سويسرا الأغنياء والأقوياء على إخفاء الأموال من السلطات

عرض-  مي صلاح 

نشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (the International Consortium of Investigative Journalists) وثائق سرية مسربة “أوراق باندورا” وهي تحقيق جديد يتعلق بـ “الملاذات” الضريبية لشخصيات عالمية مؤثرة.

وتلقي الوثائق، التي بدأ الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين نشرها الأحد 3 أكتوبر 2021 والتي يتوقع أن تحدث ضجة عالمية، الضوء على الثغرات في النظام التنظيمي لسويسرا لمساعدة الأغنياء والأقوياء على إخفاء الأموال من السلطات.

فيما أظهرت الوثائق السرية أن رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس تورط في نوع من المعاملات المالية “الخادعة” التي يتهم أعضاء النخبة الآخرين بالانخراط فيها، بينما تكشف الوثائق المسربة أن رئيس الوزراء الباكستاني “عمران خان” أحاط نفسه بأشخاص يخبئون أموالاً طائلة بالخارج.

فماذا قالت وثائق “باندورا” عن سويسرا، التشيك وباكستان

سويسرا

تلقي وثائق “باندورا” ضوءاً نادراً على صناعة الاستشارات الغامضة عبر مزودي الخدمات الخارجية، حيث تظهر الطرق التي استغلت بها شركات مثل Fidinam الثغرات في النظام التنظيمي لسويسرا لمساعدة الأغنياء والأقوياء على إخفاء الأموال من السلطات.

ففي إيطاليا، كان ماسيمو بوشيكيو الممول الكبير الذي وعد مستثمريه بعائدات كبيرة بعد أن يقوموا بتحويل أموالهم إلى حساب Kidman Asset Management،والذي ادعى أنه تابع لعملاق البنوك HSBC. ولكن كيدمان كانت شركة وهمية في جزر فيرجن البريطانية، وهي ملاذ ضريبي وسري ولم تكن أبداً جزءاً من الشبكة العالمية للبنك البريطاني بل كانت حسابا تم فتحه في بنك Credit Suisse، وبهذا لم ير المستثمرون أموالهم مرة أخرى والتي تقدر ب 600 مليون دولار.

ينشر التسريب تفاصيل جديدة عن علاقة شركة “فيدينام” السويسرية، بكيدمان التي تعهد لها” بسرية وشخصية بياناتها”، كما ينشر معلومات عن أكثر من 90 مستشارا سويسريا يديرون حسابات عملائهم الشخصية في البنوك بطريقة تمكنهم من غسيل أموالهم، وغالبًا ما يتم حجب هويتهم فهم يرتدون عباءة من السرية تمكنهم من ارتكاب الجرائم المالية مصاحبة بقليل من المساءلة وكثير من المال.

ورفضت “فيدينام” التعليق للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين حرصاً على خصوصية عملائها. وفي بيان قالت الشركة، التي لها فروع في لوغانو وزيورخ وجنيف، إن “الشركات السويسرية التابعة لها تلتزم بجدية بالأحكام القانونية والتنظيمية واللوائح الدولية المعمول بها في سويسرا”.

 تعتبر “فيدينام” واحدة من أقدم الشركات الائتمانية في سويسرا، أسسها تيتو تيتامانتي لاعب كرة القدم السويسري عام 1960، لتقدم خدمات الاستشارات الضريبية والعقارية والتجارية، واليوم تقدر ثروة تيتامانتي بأكثر من 900 مليون دولار خلال حياته المهنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن، أقام علاقات وثيقة مع رؤساء الدول وذوي النفوذ.

وفي 2016 وعند نشر أوراق بنما، أدانت المستندات فيدينام والشركات أمثالها لمساعدتها في تأسيس صناعة التهرب الضريبي والسرية التي تتستر بها على هؤلاء المجرمين .

واليوم تدين وثائق باندورا فيدينام وآلكوجال مرة أخرى بنشرها أسماء الأشخاص الذين تعاملوا معها ولهم نشاطات مشبوهة معروفة ومنهم:

– المدير التنفيذي السابق في شركة النفط البرازيلية باولو روبرتو كوستا، الذي 0أنشأ شركتين وهميتين استخدمهما في الحصول على أكثر من 5 ملايين دولار من الرشاوي عن طريق ” عملية غسيل السيارات”، وتورط مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى

– الشقيقان ماير ونسيم المالح، وبعد إدانتهما في سويسرا عام 2013 بغسل ما يقدر بنحو 800 مليون دولار.

– أطفال وحلفاء الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، عن طريق إدارة أكثر من 30 شركة وهمية تمتلك بعضها سراً عقارات في المملكة المتحدة.

– شركة واحدة لأحد عملاء المحامي جورج ويسمان-في حزب الشعب الديمقراطي المسيحي-والذي تشارك في بناء قصر فلاديمير بوتين بقيمة 1.3 مليار دولار.

ووفقا لما سبق، تشير الوثائق المسربة إلى أن سويسرا هي ميناء واسع للقرصنة، وستفعل ما بوسعها لإخفاء الأموال عن مستحقيها وذلك لعدم وجود قانون يصلح الثغرات القانونية التي يستفيد منها الدكتاتوريون والمجرمون.

رئيس وزراء التشيك يشتري عقارات فاخرة في الريفيرا الفرنسية باستخدام شركات خارجية

يعرف رئيس الوزراء التشيكي السياسي الملياردير أندريه بابيس بأنه شعبوي ينتقد النخب والمؤسسات، وقد أعلن عن نفسه كمدير أعمال حريص على إصلاح اقتصاد البلاد، وزيادة شفافية الحكومة وعائدات الضرائب. ونفى الادعاءات التي تفيد بأنه نفسه متورط في الاحتيال والتهرب الضريبي.

ويُظهر الآن تسرب للوثائق السرية أن الرجل الذي نصب نفسه من الشعب قد تورط في نوع من المعاملات المالية الخادعة التي يتهم أعضاء النخبة الآخرين بالانخراط فيها.

فالسجلات التي حصل عليها الاتحاد الدولي للتحقيق كشفت أن بابيس نقل 22 مليون دولار من خلال شركات خارجية لشراء عقار فخم على الريفييرا الفرنسية عام 2009 مع الحفاظ على سرية ملكيته- وفقًا لرسائل البريد الإلكتروني المسربة بين محامي بابيس البنميين والفرنسيين-.

بالإضافة إلى القصر الذي تبلغ مساحته 9.4 فداناً ذو الإطلالة الساحرة في تلال فرنسا، والذي أظهرت السجلات أنه ينتمي إلى شركة تابعة لإحدى الشركات التشيكية المملوكة بشكل غير مباشر لبابيس، ليصبح هناك تناقد حاد مع صورة بابيس المصقلة بعناية كرئيس وزراء قاد حملة ضد التهرب الضريبي في محاولة منه لإعادة البلاد إلى الوضع المالي. وهذا التناقض يجعلنا نتساءل كيف يمكن للنظام الخارجي مساعدة أبرز المسؤولين الحكوميين على الهروب من الرقابة العامة؟

ولم يرد رئيس الوزراء التشيكي على الأسئلة التفصيلية المقدمة من الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية، بل وتجاهلها تماماً. وفي اليوم التالي، بعد زيارته لمحطة لتوليد الكهرباء شمال التشيك، طلب منه مراسل موقع Investigace.cz الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتعاملاته الخارجية. تجاهلها بابيس وسار إلى سيارته، وضرب أحد رجال الأمن الصحفي بمرفقه وقال: انتهى المؤتمر الصحفي، ألا تفهمون ذلك؟ ألا تفهم ذلك؟ ابتعد!”

قدر الاقتصاديون أن جمهورية التشيك تخسر أكثر من 7٪ من عائدات الدولة المحتملة بسبب التهرب الضريبي، مع خسارة حوالي 5 مليارات دولار سنويًا بسبب استخدام الملاذات الضريبية من قبل الشركات التشيكية.

وكشف موقع الأخبار التشيكي Tyden، 2009 أن بايبس هو المالك السري لمنتجع “ستورك نيست” والذي حصل من خلاله على 2 مليون دولار من أموال الاتحاد الأوروبي، وقد أفادت أن المنتجع كان مملوكاً لشركة وهمية مملوكة هي نفسها من خلال Ekonom- وهو نوع من أنواع الأوراق المالية التي لا يظهر أصحابها بأي سجل، وفيما بعد اتضح أنه هو المالك للمنتجع وأخفى هويته ليتم تلقي أموال إعانة من الاتحاد الأوروبي المخصص للمؤسسات الصغيرة.

ومع ظهور التفاصيل الصغيرة للصحافة التشيكية عام 2009، بدأ مستشاروه في تصميم خطة سرية لتحويل أمواله إلى شراء القصر الفرنسي.

ووفقاً للخبراء الذين استشارهم الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، فإن ما يقوم به بابيس هو ما يعرف بـ”الهيكل المالي” وهو عبارة عن شراء سلسلة كبيرة من الشركات الوهمية لتقليل العبء الضريبي لمالك العقار على مكاسب رأس المال.

وبحلول عام 2015، كانت هناك تقارير تفيد بأن الشرطة التشيكية فتحت تحقيقًا في ما سمته الصحافة “قضية عش ستورك”. أراد المحققون معرفة كيف حصل منتجع بابيس على أكثر من مليوني دولار من إعانات الاتحاد الأوروبي المخصصة للشركات الصغيرة. وبظهور وثائق بنما 2016، أدانت بابيس الذي كان وزيراً لمالية التشيك حينذاك بتقرير عن نشاطه الذي وصفته بالمشبوه، وبينما كانت شركاته الخارجية تخضع للتدقيق، حضر بابيس اجتماعات مع وزراء مالية الاتحاد الأوروبي الآخرين. تضمنت نقاط المناقشة على جدول الأعمال مكافحة التهرب الضريبي وإبرام اتفاقيات الشفافية، ونفى بابيس ارتكاب أي مخالفات وقال إن المزاعم أثارها خصوم سياسيون لتشويه سمعته قبل الانتخابات.

في نهاية عام 2019، وجدت مراجعة منفصلة أجرتها المفوضية الأوروبية أن رئيس الوزراء لديه تضارب كبير في المصالح، وزعمت اللجنة أنه استمر هو ومجموعته في تلقي أموال الاتحاد الأوروبي. ومع ظهور أنباء عن عملية التدقيق، نزل مئات الآلاف من التشيك إلى الشوارع للاحتجاج على بابيس، ووُصفت المسيرات بأنها الأكبر منذ نهاية الحكم الشيوعي.

في أغسطس 2021، عقب عملية تدقيق جديدة شملت رئيس الوزراء، هدد الاتحاد الأوروبي بوقف بعض مدفوعات الدعم لجمهورية التشيك حتى تُجري الدولة تغييرات منهجية على قانون تضارب المصالح.

والآن يتعرض بابيس للخطر بعد نشر الوثائق، إذ أنه من المقرر إجراء الانتخابات الوطنية التشيكية في الفترة من 8- 9 أكتوبر.

عمران خان” الناشط في مكافحة الفساد هل أصبح جزءا منه؟

ووعد في خطاب متلفز بعصر جديد يقام فيه سيادة القانون وأكد أن الدولة ستعمل ضد كل من خالف القانون ثقةً بمؤسسات الدولة القوية وقدرتها على إيقاف الفساد، معلناً أنه سيكون أول من سيتم محاسبته يليه وزرائه وما دونهم.

وتكشف الوثائق المسربة أن خان يحيط نفسه بأشخاص يخبئون أموالاً طائلة بالخارج، فهناك اثنين من الدائرة المقربة لخان، بما في ذلك وزراء الحكومة وعائلاتهم وكبار الداعمين الماليين يمتلكون سراً مجموعة من الشركات والصناديق الائتمانية التي تحتوي على ملايين الدولارات المخفية. وتكشف أيضاً تورط القادة العسكريين، ولكن إلى الآن لا تحتوي الوثائق على ما يشير إلى امتلاك خان نفسه أي شركات خارجية.

ومن بين أولئك الذين تم الكشف عن ممتلكاتهم وزير مالية خان-شوكت فايز أحمد تارين-وعائلته، ونجل مستشار خان السابق للشؤون المالية والإيرادات -وقار مسعود خان-، وكشفت التسريبات أيضا عن المعاملات الخارجية لواحد من أكبر الممولين لحركة حزب خان الإصلاحي-عارف نقفي-، الذي يواجه تهماً بالاحتيال في الولايات المتحدة.

كما أظهرت مخطط تشودر مونيس إلهي، الحليف السياسي لخان لوضع عائدات صفقة تجارية مزعومة فاسدة في صندوق ائتماني سري ، وإخفائها عن سلطات الضرائب الباكستانية. وقد نفت عائلة إلهي ما جاء في هذه الوثائق واصفة ما يحدث بالإيذاء السياسي وأنه السبب وراء تداول هذه البيانات المضللة، وأن ممتلكاتهم مصرح بها وفقاً للقانون.

وأدانت الوثائق بعض القادة العسكريين وعائلاتهم، فقد تم نقل شقة فاخرة بقيمة 1.2 مليون دولار في لندن من أكبر آصف- ابن مخرج أفلام هندي شهير-إلى زوجة الجنرال العسكري-شفعت الله شاه- المساعد السابق للرئيس من خلال صفقة خارجية سرية، وأخبر الجنرال الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أنه تم بالفعل شراء الشقة في لندن ولكن من خلال زميل سابق له في الجيش يعمل بالعقارات بالخارج وليس من خلال آصف، وعن تسمية الشقة باسم زوجته فريحة شاه، فوضح أن ذلك بسبب وجود عقارات عديدة باسمه بينما لم يكن لديها أي عقارات؛ ولكن زوجته لم ترد.

تسليط الضوء على الموارد المالية الشخصية للجنرالات الباكستانيين هو أمر نادر جداً، وكل من كتب عن الجيش داخل باكستان تعرض للسجن والتعذيب، ولكن اليوم أصبح هناك ما يقدم لمحة عن كيفية استخدام كبار ضباط الجيش المعروفين باسم “المؤسسة” سلطتهم لإثراء أنفسهم في الخارج وفي نفس الوقت الحفاظ-حتى الآن- على صورة الجيش كحصن للفساد المدني.

قبل نشر وثائق باندورا بـ 48 ساعة، ذكرت محطة تلفزيونية باكستانية ARY NEWS، وعلى لسان متحدث باسم خان متحدثاً للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين:” أن هناك شركتين أوفشور- شركة يتم من خلالها المعاملات المالية خارج البلاد- مسجلتين بنفس عنوان رئيس الوزراء عمران خان، و إن رئيس الوزراء ليس له صلة بأي منهما ، مضيفًا أن منزلين في نفس الحي يتشاركان العنوان ، وتقدم خريطة كدليل”، وأكد:” ليس لديه شركة خارجية ، ولكن إذا كان لدى أي من وزرائه أو مستشاريه ، فسيكون ذلك من أعمالهم الفردية وسيتم مساءلتهم”.

وكشفت الأوراق أن نادر بويز-وزير سابق للحكومةـ يمتلك شركة للتمويل والمعدات مسجلة ببريطانيا يقوم من خلالها بتحويل أسهمه في الشركة إلى صندوق ائتماني يتحكم في العديد من الشركات الخارجية، وأن أحد المستفيدين من الصندوق تاجر أسلحة بريطاني.

القائد العسكري الذي ظهر أيضاً في الوثائق المسربة هو اللواء نصرت نعيم، المدير العام السابق للاستخبارات المضادة في وكالة الاستخبارات الباكستانية، واتهمت شرطة إسلام أباد في وقت لاحق نعيم بالاحتيال المتعلق بمحاولة شراء مصنع للصلب مقابل 1.7 مليون دولار ولكن تم إسقاط القضية.

ومن أبرز رجال الأعمال المذكورين والممولين لحملة خان في وثائق باندورا طارق شافي الذي يملك 215 مليون دولار من خلال شركات خارجية.

ومن هنا نستنتج أن ميراث الحكم الاستعماري هو ثروة الجيش، حيث تسيطر على 12٪ من أراضي الدولة الباكستانية، وأن ما كشفته أوراق باندورا ما هو إلا توثيق للكميات الهائلة من الثروة المختبئة في بلد تعاني انتشار الفقر.

وبصفته الحَكَم السياسي النهائي لباكستان، هل سيختبر الجيش في النهاية مُثُل عمران خان الإصلاحية، أم أنه سيخيب آمال مؤيديه وسيُنظر إليه على أنه زعيم صوري؟

Website |  + posts

باحثة بالمرصد المصري

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى