“حاييم وايزمان”: العربي ابن صحراء…. أعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي وسأوطن فيها خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود
ثمة من يقولون إن التاريخ يقتضي علينا أحيانًا غض البصر عن بعضًا من فصوله أملاً في مواكبة تطورات الحاضر، لكن الحقيقة أن لفظة “عودة غير هامة”، تُعد هي الوصف الذي ليس من الممكن أبدًا وأن يتسق مع أي فصل من فصول التاريخ بوجه عام، خاصة وإن كان الحديث يجري عن فصل محوري، يتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية، التي غيرت وجه الحياة في الوطن العربي والشرق الأوسط برمته. ويرى الكاتبِ والمُفكر الراحل، محمد حسنين هيكل، “أن الاهتمام بالسياسة فكرًا وعملاً، يقتضي قراءة التاريخ أولاً، لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً طول عمرهم!”.
لذلك، يمكن القول إن كتاب “موسكو- تل أبيب“، لكاتِبه الدكتور سامي عِمارة، الذي قضى حياته بالعمل في أروقة الكتابة السياسية بين القاهرة وموسكو، ويُعد أحد أهم خبراء الشؤون الروسية في مِصر، يُقدم لنا نظرة معمقة عنتفاصيل الدور الذي لعبته روسيا في صناعة وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو الفصل التاريخي المحوري، الذي ينبغي على العرب جميعًا الاطلاع عليه، والوقوف عند تفاصيله، على طريق الوصول إلى قراءة سياسية واضحة للمشهد الدولي الراهن في العلاقات التي تربط موسكو بتل أبيب، ومن ثم سائر دول الشرق الأوسط.
ويقول عمارة في مُستهل كتابه، “إن موسكو تظل في صدارة المسؤولين عن وزر قيام إسرائيل، خصمًا من رصيد وحقوق وتاريخ العرب والفلسطينيين”. وعبر الكتاب برمته، يستشهد الكاتب بالمواثيق والأدلة التي تثبت وتُبرهن على تفاصيل الدور الروسي في قيام إسرائيل. من ضمنها، كتاب اليهودي الروسي، “ليونيد مليتشين”، والذي صدر في موسكو عام 2005 تحت عنوان “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟”. وفي هذا الكتاب، ذكر “مليتشين” صراحة، “أن إسرائيل لم تكن لتظهر إلى الوجود لو لم يكن ستالين أراد قيامها”، وهو ما اعترف به كثيرون غيره من الكُتاب والصحفيين داخل روسيا وخارجها، بل هناك في قلب إسرائيل بمن فيهم من اعتلى سدة السلطة هناك، من ضمنهم “جولدا مائير”، و”إبان إيبان” أول مندوب دائم لإسرائيل في الأمم المتحدة، والذي أشار عِمارة إلى أن قوله مُسجل عليه “أنه لولا صوت الاتحاد السوفيتي وحلفائه أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وما قدمه إلينا من أسلحة عبر حلفائه في المعسكر الشرقي، لما استطعنا الصمود لا دبلوماسيا ولا عسكريًا”.
كيف نسجت الصهيونية شِباكها حول المسؤولين الروس؟
أرادت الحركة ” الصهيونية” تجاوز كل ما واجه تحركاتهم في الاتحاد السوفييتي من تعقيدات الماضي، أملاً في تطوير علاقات جديدة بين الاتحاد السوفيتي والحركة الصهيونية.
ففي الماضي، لطالما احتج الصهاينة على حظر تحركاتهم في الاتحاد السوفيتي، وحظر تعليم لغتهم العبرية هناك، والتوقف عن اعتبار الصهاينة معادين للثورة. وكانت هذه السياسات في البداية تهدف إلى ذوبان اليهود في المجتمع السوفيتي، وهو الأمر الذي كان زعماء الحركة الصهيونية يعكفون على محاربته بكل ما يملكون من قوة.
ولعل ما استعرضه الكتاب من وثائق، قد أشارت ضمنيًا إلى نجاح اليهود الصهاينة في استقطاب موسكو إلى فُلك مخططاتهم واستمالة الكثيرون من مسؤوليها إلى فكرة إقام الوطن القومي لليهود في فلسطين. ذلك على الرغم وأن مكنونات هويات بعض المسؤولون السوفييت الحقيقية، والاطلاع على طبيعة ولاءاتهم، واحتمالات أن يكون بعضهم بالفعل من أصول يهودية، قد بقيت عصية على الفهم حتى الوقت الراهن. لأسباب تعود إلى السياسة الستالينية التي حاول بعض اليهود اتقاء شرها من خلال تغيير أسمائهم وألقابهم وقومايتهم.
كما يشير الكاتِب إلى أن زعماء الحركة “الصهيونية” قد واصلوا في تؤدة وإصرار شديدين عمليات الالتفاف والمناورة ونسج حبائل دسائسهم حول موسكو؛ بغية تحقيق مُرادهم بشأن حشد الدعم اللازم لخطتهم في فلسطين، سواء من خلال المساعدات المادية المباشرة، أو عبر السماح لليهود في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا بالهجرة إلى هناك. مُستغلين في ذلك حاجة موسكو إلى الدعم الدولي والعسكري اللازم لمواجهة الغزو الألماني إبان سنوات الحرب العالمية الثانية.
كانت محاولات الزعماء اليهود في البداية تتمثل بإقناع سفراء موسكو في العواصم الغربية بأنهم يرغبون فقط ببيع البرتقال القادم من مزارع حيفا/ فلسطين إلى الاتحاد السوفيتي سابقًا، ثم سرعان ما تغيرت طموحاتهم وتوسعت للتتلائم مع استجابة السوفييت وبدأوا بمطالبة السوفييت بإتاحة الفرصة لشكل من أشكال التبادل الدبلوماسي معهم، على الرغم من أن إسرائيل لم تكن في ذلك الوقت قد اتخذت شكل أو حتى كيان الدولة بعد.
شخصيات سوفييتية يهودية ساعدت في قيام الكيان الإسرائيلي
يستعرض الكاتِب كذلك الدور الذي لعبته العديد من الشخصيات اليهودية الروسية الأصل، مثل إيفان “ميخائيلوفيتش مايسكي”، أول سفير للاتحاد السوفيتي السابق في إسرائيل. ويُلقي بالضوء –بالمواثيق- على جوانب عِدة من اجتماعاته مع “حاييم وايزمان”، أشهر شخصية صهيونية بعد “يودور هرتزل”، وأول رئيس لدولة إسرائيل.
في وثيقة محضر اجتماع من أرشيف وزارة الخارجية الروسية بتاريخ 3 فبراير 1941، تم الاعتراف فيها بأن اليهود اللذين كانوا موجودون في العام آنذاك، كان يبلغ عددهم نحو 17 مليون يهودي، يعيش نحو 11 مليونا منهم في ظروف اجتماعية مقبولة نسبيًا وآمنة ولا يتهددهم أي مخاطر متعلقة بالإبادة الجسيمة.
كما أوضحت الوثيقة أن هؤلاء اليهود يقطنون في دول مختلفة مثل، الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد السوفيتي. وأظهرت الوثيقة أن وايزمان كان قلقًا للغاية من احتمالية اندماج اليود السوفييت في المجتمع بالشكل، الذي يجعلهم يتحولون تدريجيًا إلى جزء لا يتجزأ من المجرى العام للحياة الروسية.
وكان ذلك، هو نفس الاجتماع الذي قال وايزمان لمايسكي فيه، ردًا على سؤال بكيف تنوي توطين 5 ملايين يهودي الى المناطق التي يقطنها مليون عربي؟، “لا تقلق بهذا الصدد، غالبا ما يوصف العربي بأنه ابن الصحراء، لكنه بكسله وسذاجته يحول البستان المزدهر إلى صحراء مقفرة، فأعطني الأراضي التي يسكنها مليون عربي وسأوطن فيها خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود على أفضل نحو“.
ويُسلط عمارة كذلك الضوء على تفاصيل لقاءٍ جميع بين “ديفيد بين جوريون”، الذي شغل منصب أول رئيس وزراء لإسرائيل، مع “مايسكي”، حاول فيه “بن جوريون” إقناع “مايسكي” بأن النقابات العمالية في إسرائيل تُعد هي اللاعب الأكثر نشاطًا في تيسير احتلال فلسطين، وشكي “بن جوريون” بأن النقابات العمالية الإسرائيلية في فلسطين كانت تعاني من وهن شديد، على الرغم من أهميتها القصوى لمستقبل الكيان الإسرائيلي المُزمع انشاؤه. وقال بن جوريون، “إنني لا انتقد الماضي، لكننا قلقون بشأن علاقات روسيا تجاه فلسطين في المستقبل، فسوف تكون روسيا مع نهاية الحرب واحدة من أهم ثلاث دول في العالم على أقل تقدير، تُشارك في تحديد مصير العالم الجديد. ونحن ندرك أن الحرب تعتبر الهم الأول بالنسبة لموسكو اليوم، لكننا نعلم في الوقت نفسه أن الاتحاد السوفيتي لا يفكر في مصيره وحده. ولذا نود إرسال وفد من اثنين أو ثلاثة أشخاص الى موسكو بهدف مزدوج، أحدهما -وفقًا لما ذكره عِمارة- كان هو التأكد من أن موسكو تدرك بوضوح دور وأهمية الحركة النقابية في فلسطين بالنسبة للشعب اليهودي وكل الحركة النقابية بوجه عام”.
“عبد الرحمن سلطانوف”: إقامة دولة إسرائيل يُهدد أحلام العرب بالوحدة الاقتصادية والثقافية
ويُلقي الكتاب الضوء كذلك على موقف الدبلوماسي السوفييتي عبد الرحمن سلطانوف، الذي كان –على العكس من الكثير من المسؤولين السوفييت المشتبه بأصولهم اليهودية- مناصرًا للحق الفلسطيني، وكان هو أيضًا من أوائل الدبلوماسيين السوفييت الذين ساهموا في دعم مسيرة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، والذي أوجزه الكاتب في مقتطفات استعرضها من رسالة أرسلها أثناء توليه منصب القائم بأعمال سفارة الاتحاد السوفيتي في العراق إلى قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السوفيتية، بتاريخ 5 نوفمبر 1947، وتحت بند”سري للغاية”.
“تعتبر الأوساط العربية إن الإمبريالية البريطانية عدوًا أكثر ضعفًا بالقياس إلى الصهيونية؛ لأن الأخيرة تُمارس التسلل الاقتصادي للرأسمال اليهودي والرأسمال الأنجلو-أمريكي- الواقف وراءه إلى الأسواق العربية في البلدان المجاورة والسيطرة عليها”. وتابع سلطانوف، “إن من شأن إقامة الدولة اليهودية في قلب البلدان العربية أن يُشكل تهديدًا للأحلام التاريخية للعرب، باستعادة الوحدة الاقتصادية والثقافية للبلدان العربية، إذ سيتوجب عليهم التعامل بالترانزيت عبر دولة فلسطين اليهودية المُعادية”. وأكد سلطانوف أن العرب لا يعارضون حقوق ديموقراطية متكافئة للسكان اليهود في فلسطين، بشرط إيقاف الهجرة نهائيًا. ثم تناول في مواقف أخرى له ما يفيد بأن تأييد إقامة دولة صهيونية في فلسطين سوف يتسبب في إبعاد العالم العربي أجمع عن موسكو.
كيف أغفل العرب الدور السوفييتي في تقرير مصير فلسطين؟
يكشف الكتاب عن تجاهل الدول العربية، وفي كثير من المواقف، للدور الذي لعبه السوفييت في إقرار مستقبل فلسطين. ويضرب عِمارة مثالاً على ذلك، بأن “أندريه جروميكو”، وكان آنذاك المندوب الدائم للاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة، لم يفلح أكثر من مرة في عقد أي لقاء مع الوفود العربية لمناقشة تصوراتها حول مستقبل فلسطين.
ويشير الكاتب إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى أن الأوساط العربية لطالما كانت على ثقة من أن الاتحاد السوفيتي لن يوافق على مشروع إقامة الدولية الصهيونية لاعتبارات كثيرة يأتي على رأسها، أن الاتحاد السوفيتي لطالما كان ملتزمًا بمبدأ حق تقرير المصير ومساعدة شعوب الشرق المظلومة في نضالها من أجل الاستقلال، وهو الأمر الذي ربما ثبط من جهود العرب لأجل إيلاء اهتمام باستمالة موسكو نحو القضية الفلسطينية وحقوق العرب التاريخية في بلادهم.
موقف الاتحاد السوفييتي من قضية فلسطين
يُعيد عِمارة إلى الأذهان ما قاله “موشيه شاريت”، وزير خارجية إسرائيلي سابق، صراحة حين خرج من اجتماعه مع نظيره السوفيتي “فيشينسكي” آنذاك، و”ياكوب ماليك”، المندوب السوفيتي الدائم لدى الأمم المتحدة، حول “إن موسكو ليست مجرد حليف، بل إنها الممثل الشخصي لإسرائيل”. كما سلط عِمارة الضوء على الدور الروسي المتواصل على مدار سنوات مضت، وحتى الآن في استمرار الأزمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر صراع دائم مع مهاجري الموجة الثانية لأبناء الاتحاد السوفيتي من اليهود وغير اليهود اللذين سمح “ميخائيل جورباتشوف”، ومن بعده “بوريس يلتسين”، بهجرتهم لتوطينهم في أراضي لا تزال موسكو تعتبر رسميًا بأنها محتلة، فيما يواصل الرئيس “فلاديمير بوتين”، الاهتمام بهم وبأمنهم وبعلاقات روسيا مع إسرائيل؛ وهو ما يصفه الكاتب بأنه شيئًا يثير الدهشة والاهتمام معًا!
ويعلق الكاتب، على اعتراف بوتين خلال أول لقاءٍ جمعه مع نظيره الأمريكي “دونالد ترامب” في “هلنسكي، يوليو 2018، حول ضرورة التعاون في ضمان أمن إسرائيل، بأنه إقرار بأمر واقع طالما التزمت به الدولتان لعقود طويلة. ولم لا، وقد ذكر عِمارة في كتابه أن “بيرل لازار” اليهودي الإيطالي المولد والأمريكي الجنسية، وهو كبير حاخامات اليهود الروس، قال على “بوتين”، “إنه أكثر من قدم خدماته إلى اليهود بين الزعماء الروس”.
وأشار الكاتب، إلى أن المهاجرين السوفييت سواء الوافدون من روسيا أم من غيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة، يظلون من أكثر العناصر تطرفًا وعدوانية في المجتمع الإسرائيلي، وفي مقدمتهم، “أفجيدور ليبرمان”، الذي كان حتى الأمس القريب الساعد الأيمن لـ “بنيامين نتنياهو”، منذ تعارفهما في عام 1988، وإن اختلفت مشاربهما خلال السنوات القليلة الماضية. كما أن مهاجرو الفضاء السوفيتي السابق، يظلون حتى اليوم الحاضر، من أهم دعائم التقدم التكنولوجي والعلمي الإسرائيلي.
وأضاف عمارة أنه توجد هناك الكثير من الاعترافات التي تقول إن ما قدمته روسيا من كوادر بشرية علمية لإسرائيل من مهاجريها، ويقترب عددهم من المليون نسمة في تسعينيات القرن الماضي وحدها، كان في صدارة أسباب الطفرة التكنولوجية التي حققتها إسرائيل، وتجني ثمارها اليوم على الأصعدة العلمية والتكنولوجية والعسكرية كافة خلال السنوات الأخيرة.