أوروبا

باريس تخسر صفقة “الرافال” مع سويسرا لصالح F-35 الأمريكية.. فهل تدفع واشنطن أوروبا إلى الصين؟

بدا أن الأسبوع الحالي هو الأسوأ للجمهورية الفرنسية بعد أن تلقت ضربتها الثانية ولكن هذه المرة من سويسرا بعد أن خسرت عقدًا لبيع طائرات “رافال” لـ “برن” عقب أن استقرت الأخيرة على شراء منظومة طائرات “إف 35” من الولايات المتحدة، لتنقض واشنطن مرة أخرى على مكاسب باريس الاقتصادية.

وقد بررت سويسرا موقفها بأن تكلفة المنظومة الأمريكية التي بلغت 5 مليارات من الدولارات تندرج ضمن ميزانيتها التي لا تتجاوز 6 مليارات مقابل أن الطائرات الأمريكية تعطي برن أكبر قدر من الكفاءة نظير ميزانية أقل، وهو ما وافق عليه الناخبون السويسريون في استفتاء كان الأصعب في سبتمبر الماضي. وقد جاء اختيار الحكومة السويسرية بعد أشهر من الضغط المكثف والمستمر من قبل بروكسل.

وفي هذا الإطار تبرز معضلة أخرى بالنسبة للجانب الفرنسي؛ لأنه وعلى العكس من الوضع مع بريطانيا التي دخلت على خط صفقة الغواصات النووية فقد غادرت لندن الاتحاد الأوروبي بالفعل في حين تبقى “برن” ذات خصوصية بالنسبة لأوروبا ولفرنسا على وجه التحديد التي ستتسلم رئاسة الاتحاد.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\362748ed-8607-48ac-90f5-abc5e0bc9b61-1600x1000.jpg

فمن المعلوم أن سويسرا ليست عضوًا بالاتحاد الأوروبي، لكنها من الدول الموقعة على 120 اتفاقية ثنائية مع الاتحاد الأوروبي، وكل ما يحول بين سويسرا وبين أن تصبح عضو اتحاد هي نقاط تتعلق بحماية الأجور وحصول مواطني الاتحاد الأوروبي على مزايا الضمان الاجتماعي السويسري، ولذلك رأت باريس أن تصرف برن ناحية صفقة الرافال يعد تصرفًا عدائيًا من دولة ذات وضعية خاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

ولكن يشير مراقبون إلى أن قرار برن الأخير كان من الممكن توقعه، خصوصًا بعد أن أنهت سويسرا في مايو الماضي مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي كانت مختصة بالعلاقات الثنائية، ورفض الجانب السويسري تحديدًا سياسات تتعلق بقضية الهجرة وهو ما أسفر عن أزمة عميقة في العلاقات الثنائية بين الجانبين وبالتالي يمكن أن يكون قرار برن بشأن الطائرات الفرنسية سياسيًا أكثر من كونه اقتصاديًا.

وحسب مصادر فرنسية فإن القرار النهائي لسويسرا لم يكن هو من شكل الأزمة الكبرى لباريس بقدر ما وصفته الأخيرة بسياسة التفاوض “المماطلة والمتعرجة” لبرن. حيث بدا أن سويسرا لا تعترف بالجميل لفرنسا التي ساعدتها في أزماتها مع الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن يلقي قرار سويسرا بظلاله ليس فقط على العلاقات بين البلدين -حيث لن ترغب باريس بأي اتصال دبلوماسي رفيع المستوى مع برن بعد الآن- ولكنه سيلقي بظلاله أيضًا على العلاقات بين سويسرا والاتحاد الأوروبي، خصوصًا أن فرنسا ستتسلم رئاسة النادي الأوروبي في يناير 2022.

واشنطن تدفع أوروبا إلى الصين

وفي سجل الأزمات تلحق الأزمة الفرنسية- السويسرية بالأزمة الفرنسية – الأمريكية المتعلقة ببيع واشنطن لغواصات نووية لأستراليا لمواجهة النفوذ الصيني في المحيط الهادئ وتقويض الصفقة الفرنسية؛ الأمر الذي دعا الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” إلى حث  الصين والولايات المتحدة لإصلاح علاقتهما “المختلة تمامًا” قبل أن تمتد المشاكل بين الدولتين الكبيرتين  “ذوات النفوذ” إلى أبعد من ذلك، مضيفًا “نحن بحاجة إلى تجنب حرب باردة بأي ثمن تكون مختلفة عن الحرب السابقة ، وربما تكون أكثر خطورة وأصعب في إدارتها”.

وأضاف جوتيريش أن الاتفاق بين الولايات المتحدة وبريطانيا لتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية حتى تتمكن من العمل دون أن يتم اكتشافها في آسيا “هو مجرد قطعة صغيرة واحدة من أحجية أكثر تعقيدًا، مؤكدًا أن هذه العلاقة المختلة تمامًا بين الصين والولايات المتحدة” ستسفر عن عواقب وخيمة.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\36157966-f749-40d4-a37f-cec97b6b4f58_16x9_1200x676.jpg

وبدا كل ما حدث سواء مع الجانب الأسترالي أو السويسري تنفيذًا لاستراتيجية الرئيس جو بايدن بنقل نقاط الارتكاز من الشرق الأوسط والمحيط الأطلسي إلى المحيطين الهادئ والهندي للجم التنين الصيني في تلك المنطقة. وبدأت أولى هذه الخطوات بصدامين مع فرنسا في أسبوع واحد حتى بدا أن واشنطن تتبع خطوات باريس هي الأخرى وتحاول لجم نفوذها في عدد من المناطق منها منطقة “الساحل والصحراء” الأفريقية. وهو ما يتوافق مع توجهات لندن التي ترغب في كسر العزلة المفروضة عليها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، خصوصًا أن الإجماع في بروكسل يرى في الصين حليفًا استراتيجيًا وتجاريًا مهمًا، وهو ما يتعارض مع رؤية واشنطن على الأقل.

ولا تضع واشنطن في حسبانها خلال تحركاتها الأخيرة أنها يمكن أن تضر بحلف الناتو كله كتجمع عسكري، ليس ذلك فحسب بل الإضرار أيضًا بالعلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خصوصًا أن فرنسا هي إحدى ركائز الاتحاد الأوروبي الأساسية وهو ما يضاف إلى العلاقات المتوترة من الأساس بين واشنطن وبروكسل منذ عهد الرئيس دونالد ترامب، وهو الأمر المستمر حتى الآن وتحديدًا بعد الكشف عن فضيحة التجسس على زعماء أوروبيين من ضمنهم المستشارة الألمانية، علاوة على ما وصفته أوروبا بفضيحة الانسحاب من أفغانستان.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\1046457421_0_0_2049_1152_1200x0_80_0_1_3df1dd80acfdfcdaffbc9a18931e805d.jpg

لكن على أي حال فحتى لو استثارت الأفعال الأمريكية التي تصنفها باريس بالعدائية ردود فعل جادة من الاتحاد الأوروبي فإنها لن تستمر لأمد طويل، لأن المستشارة الألمانية أوشكت على الرحيل، والانتخابات ستجرى في الشهر الحالي. وعلى الجانب الآخر فإن الانتخابات الفرنسية ستجرى العام المقبل وبالتالي فإن اتخاذ ردود أفعال ذات تأثير طويل الأمد لن تكون مجدية للجانب الأوروبي.

هذا علاوة على أن الخسارة بالنسبة للجانب الفرنسي لا تتوقف فقط على المليارات الطائلة التي تم إهدارها سواء في الصفقة مع سويسرا أو أستراليا، وإنما تكمن في انعدام الثقة في الولايات المتحدة التي عولت أوروبا فيها على إدارة بايدن لإعادة التواصل اللازم لحلف شمال الأطلسي. أضف إلى ذلك إلى أن الخطر المحدق الحقيقي يتضمن الدفع بأوروبا إلى المزيد من التقارب مع الصين وإيران وإعلاء مبدأ ” أوروبا أولًا” كما يعلي بايدن مبدأ ” أمريكا أولًا”.

تنافس محتدم على أفريقيا

بدأ الوجود العسكري لفرنسا وأمريكا في منطقة الساحل الأفريقي في عام 2012 مع بداية أزمة مالي، وفيما يتعلق بالدور الأمريكي في تلك المنطقة فقد كان عبر مرحلتين الأولى غير مباشرة عبر سياسة “بناء قدرات الشريك” وتوفير الإمكانيات له وقد كان ذلك بعد 11 سبتمبر 2001 في إطار مكافحة الإرهاب. ومع مرور الوقت أثبتت استراتيجية التدخل غير المباشر عدم “نجاعتها” فتحول الأمر تدريجيًا إلى التدخل المباشر تحديدًا في عام 2012.

وفي ذلك الوقت نظرت فرنسا إلى الدور الأمريكي في المنطقة بوصفه دورًا داعمًا، وفي نفس الوقت نظرت واشنطن إلى التدخل المباشر على أنه يثقل كاهلها بالفعل وأنه ليس لديها مصلحة مباشرة في مكافحة الإرهاب هناك، ولذلك فإنه في عام 2018 في فترة حكم الرئيس ترامب وجد البيت الأبيض أن من مصلحته سحب جزء كبير من القوات الأمريكية في منطقة الساحل وإنهاء الدعم للوجود الفرنسي. 

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\119-020542-africa-terrorism22_700x400.png

أما الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقية فهو سابق للوجود الأمريكي بعقود وتحديدًا في التسعينيات عندما تنبهت باريس للخطر الذي يهدد مواطنيها من الإرهاب المتنامي في الساحل الأفريقي، وإن كان الوجود الفرنسي مدفوعًا في البداية بخطر الإرهاب فإن الأزمة الأخرى تكمن في الناحية الديموغرافية حيث تعتبر الدول الموجودة في منطقة الساحل الأفريقي من أعلى الدول في معدلات الخصوبة وهو ما يجعل باريس قلقة من معدلات الهجرة التي قد تتوافد إليها من تلك المنطقة والتي قد تصبح مهددة لاستقرار أنظمة الحكم في أوروبا، مخلفة حالة من صعود اليمين الشعبوي. وعلى الرغم من وجود دوافع اقتصادية لباريس للتدخل في منطقة الساحل الأفريقي إلا أن الدافع الأساسي يبقى ” أمنيًا”.

وفي الآفاق ظهر منافس آخر للتدخل في منطقة الساحل الأفريقي وهي بريطانيا التي أرادت أن تكسر عزلتها وتتحرك وفق مصالحها بعد ” البريكست” حتى يكون مجديًا هذا الخروج المدوي على الأقل، وبالفعل دشنت لندن محاولة للتقارب مع الجانب الأفريقي كجزء من رؤيتها العالمية. وفي هذا الإطار تعتمد بريطانيا في علاقاتها مع منطقة القرن الأفريقي على عدد من الركائز ولكنها غالبًا ما تواجه بالتنافس الدولي المحتدم حول تلك المنطقة. وفي الوقت الحالي تتطلع لندن للاحتفاظ بقوتها ونفوذها على خارطة الاقتصاد العالمي واستبدال أسواق الاتحاد الأوروبي بأسواق منطقة القرن الأفريقي، وعلى هذا الأساس جاء انعقاد قمة بريطانيا- أفريقيا للاستثمار في عامي 2020-2021.

ونخلص مما سبق، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تجعل من نفسها الوريث الدولي للنفوذ الاستعماري داخل القارة، باتباع ذات السياسات الاستيعابية، وهو ما نجح إلى حد كبير في الدول الأفريقية الأنجلوفونية، لكنه اصطدم بواقع وطبيعة العلاقات والدور الفرنسي في الدول الأفريقية الفرانكوفونية، حيث تحاول فرنسا من خلالها أن تستعيد مكانتها الدولية، عبر توسعة دائرة علاقاتها السياسية والاقتصادية.

 وتستهدف واشنطن تحقيق أكبر قدر من المصالح بالتكلفة المادية والبشرية الأقل، من خلال بسط النفوذ في عدد من الأقاليم حول العالم وتأمين فرص الاستثمار والتجارة في تلك النطاقات؛ إعلاءً لمبدأ “التجارة بدلًا من المساعدات” الذي يؤمن للولايات المتحدة النصيب الأكبر من البترول والثروات الأفريقية. وعليه فإن جميع تلك المتغيرات جعلت التنافس إجباريًا لا اختياريًا للقوى التي تحاول تعظيم عوائدها، وتحديدًا في ظل أزمة الطاقة التي تؤثر على كبريات الدول في الفترة الحالية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى