
“صنايعية مصر”.. انخراط وطني جاد بإشكاليات الهوية
شَهِدت الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، مساء أمس الأحد 20 سبتمبر، حفل تخرج الدفعة الأولى للدارسين بمبادرة “صنايعية مصر”، في فعالية أقيمت بمركز الحرف التقليدية بالفسطاط. وسلمت عبد الدايم شهادات التخرج للدارسين، في حضور الدكتورة نيفين جامع، وزيرة التجارة والصناعة، وبحضور ممثلي جهاز تنمية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وعمداء، وأساتذة كليات الفنون ومُدربي المبادرة.
وافتتحت وزيرة الثقافة، في الفعالية ذاتها، معرض مشروعات تخرج الدارسين في مجالات عدة؛ “الخزف، النحاس، أعمال التطعيم بالصدف، الخيامية، قشرة الخشب وفنون الحلى”، والذين كانوا قد تلقوا تدريبًا يواكب أحدث النظم الدراسية، جرى تحت إشراف نخبة متخصصة من الأساتذة والمتخصصين بكليات الفنون المختلفة، بالإضافة إلى الحرفيين من ذوي الكفاءة العالية للعاملين بمركز الحرف بالفسطاط.
وفي إطار حفل التخرج، منحت الوزيرة شهادات لنحو 33 فنانا وحرفيا، تتراوح أعمارهم ما بين 18 و40 عامًا. بالإضافة إلى تكريم عدد من الشخصيات، التي ساهمت في إنجاز المشروع من جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، من اللذين شاركوا بالمبادرة من خلال تقديم سلسلة من الدورات التدريبية للدارسين.
وذكرت الوزيرة، خلال الفعالية، “اليوم نحتفي بتخريج أولى دفعات مبادرة صنايعية مصر، والتي تعتبر من أهم المبادرات، التي تنظمها وزارة الثقافة، وتحظى باهتمام ورعاية كل أجهزة الدولة وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، لأن هذه المبادرة تحمل على عاتقها إحياء الفنون والحرف التراثية، التي تُعبر عن الشخصية والهوية المصرية الأصيلة”.
لماذا تضع الدولة “الهوية المصرية” على قائمة أولوياتها؟
عايشت مصر خلال العشر سنوات الأخيرة أحداثًا جسامًا عصفت بها من عهد إلى عهد، وكادت البلاد أن تسقط في مغبة ما آلت إليه مصائر البعض من جيرانها، لولا تدخلات القدر التي ساعدتها على النهوض مجددًا في خضم لحظات تُعد هي الأحلك في تاريخها. تكشف للمصريين خلال تلك الأزمات المتواترة، أن الأزمة لم تكن يومًا تتمثل فقط في هوية الشخص القابع على رأس السلطة؟ لكنها كانت في الأساس أزمة هوية عامة، أو بالأحرى أزمة صراع هويات.
ظهرت الهوية “المتأسلمة”، التي تتخذ من الدين الحنيف قناعًا لمنهجها الرديء في الحكم والسلطة والحياة برمتها في أعقاب 2011 وانهمكت هذه الهوية المزيفة في مصارعة الجميع، وبكل ما أوتيت من قوة، لفرض نفسها على الهوية المصرية الفريدة، بل أنها لم تكتف بتلك المحاولات، وكافحت لمحو الهوية المصرية تمامًا. وبدأت طريقها أول ما بدأت بمحاولات عبثية لمحو الهوية الفرعونية المصرية الخالدة.
وكان من الطبيعي أن تبدأ الأمور في اتخاذ منحى دموي، فمن المعروف عبر التاريخ أن الصراعات حول الهوية بشتى أشكالها، تعد هي الأكثر إراقة للدماء. ذلك لأن الإنسان الذي لا يملك فكرة واضحة أولا، عن مفهوم “هويته” هو نفسه، والمكان الذي نبتت فيه جذوره، سيجد نفسه بالتأكيد ممزقًا بين مفاهيم أخرى عديدة مثل “أنا”، “هو” و “هم”، حتى يستقر رأيه في النهاية على ما يريدونه “هُم” من دون حتى أن يملك أدنى فكرة عن هوية “هُم” الذين يتبعهم هو بشكل أعمى.
لذلك نشأت مشادات وخلافات وخصومات بين هذا التيار، وذاك، والآخرين، حول الهوية الأساسية للدولة المصرية، التي بدا فجأة وكأن كثيرون قد نسوا بشأنها، أو ربما أنه لم يتسن لهم يومًا معرفتها بوجهها الحقيقي. ومن هذا المنطلق، فإنه من الجلي أن أشرس الصراعات العنيفة التي عرفتها البشرية كانت تتمحور في المقام الأول حول إشكاليات تتعلق أساسًا بالهوية.
وهنا يطرح السؤال نفسه، ما هي الهوية المصرية؟ هل هي فرعونية؟ أم إسلامية؟ أم قبطية؟ تُرى بأي وجه من وجوه مِصر الكثيرة ينبغي علينا أن نتعرف على وطننا؟!
حقيقة الأمر، إن الهوية المصرية تشتمل على أبعاد متعددة تتداخل وتمتزج وتتآلف مع بعضها البعض حتى تخرج في شكلها النهائي باعتبارها هوية مصرية خالصة. فنجد أنها تحمل بُعدًا قبطيًا، وإسلاميًا، وعربيًا، وأفريقيًا، وفوق كل ذلك نجد أنها لازلت تحتفظ ببعدها التاريخي العتيق الذي لا ينطوي فقط على التاريخ الفرعوني بل أنه يشتمل كذلك على بعد روماني عريق.
إذًا، يتكرر السؤال مرة أخرى، ما هي الهوية المصرية؟
إن مصر باختصار هي مجموع ما نتج عن كل ذلك. إن هذا المجموع هو نفسه ما يجعل منها مصر بكل ما تحمله من كينونة مميزة وفريدة لها مزاج خاص تمتاز به وحدها عن الجميع. ومن المفهوم أن الدولة تولي اهتمامًا خاصًا بإشكاليات الوعي، وتنهمك في مهام شرح وتثبيت مفاهيم الهوية الوطنية عند المصريين، إيمانًا منها بأن أصحاب الجذور العميقة لا يتأثرون بالتيارات الدخيلة إلا بالشكل المعرفي القويم الذي يتحتم معه أخذ ما يناسبهم ونبذ كل ما هو ضار، وبأن هؤلاء لا يتم استقطابهم أبدًا، وأنهم لا يحاربون أوطانهم أبدًا، وأنهم لا يسفكون دماء أهليهم أبدًا، وأنهم يعرفون بوضوح ما لهم وما عليهم، ويدركون من أين ظهروا وإلى أين هم ذاهبون. إن الدولة المصرية تُدرك حقيقة إنه من المحتم أن يمتلك كل مواطن واعي بهويته، بوصلة داخلية وطنية أصيلة.
وفي ضوء ما سبق، يصبح من الممكن تفسير التكلفة الضخمة التي أنفقتها الدولة على تنظيم حدثًا دوليًا مثل مسيرة موكب المومياوات الملكية والذي أدهش الجماهير من كافة أنحاء العالم، على أنه جانب من جوانب توجه الدولة لبذل الجهود بهدف الحفاظ على الهوية المصرية. وفي نفس السياق، تُفسر كذلك رعاية الدولة لكل المبادرات والأنشطة، التي تهدف إلى تنمية الهوية المصرية بكل ما يندرج تحتها من بنود تشتمل على التراث، والفلكلور المصري، والحرف التقليدية الشعبية العريقة، وغيرها مما تُركز عليه مبادرة صنايعية مصر.
تفاصيل مبادرة “صنايعية مصر”
دشنت وزارة الثقافة مبادرة “صنايعية مصر” لأول مرة في يوليو 2020، تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي. وتهدف المبادرة إلى تدريب الدارسين على الصناعات الحرفية الشعبية التقليدية، ورفع كفاءتهم في مجالات مختلفة، وتستهدف المبادرة الفئة العمرية ما بين 18- 40 عامًا. ويُمنح المتدربين في المبادرة شهادة معتمدة بعد اجتيازهم لفترة التدريب التي تمتد على مدار 8 أشهر، والتي تنقسم إلى مرحلتين، “أولي، وثانية” بمجموع 52 ساعة دراسية شهريًا، يخصص منها 16 ساعة للدراسة النظرية، و36 ساعة للدراسة العملية والتطبيقية، وتضم كل دورة تدريبية عدد يتراوح ما بين 10 إلى 15 متدرب.
وتهدف المبادرة إلى إعادة تنشيط صناعة الحرف التقليدية والتراثية المصرية، وتسليط الضوء عليها مجددًا، بعد احيائها، بالاعتماد على جيل جديد من الحرفيين المبدعين في هذا المجال. ويعكف صندوق تنمية الحرف الثقافية بشكل أساسي على تنظيم المبادرة. ومن جهتها، ذكرت عبد الدايم، خلال إطلاق المبادرة “إن مبادرة صنايعية مصر تأتي انطلاقًا من الدور الوطني الهادف إلى صون الهوية، والحفاظ على ملامحها المتفردة ضمن الاستراتيجية الهادفة إلى تحقيق محاور التنمية المستدامة”. وأشارت الوزيرة كذلك، إلى أن الحرف التقليدية والتراثية تُعد أحد مفردات الإرث الثقافي ومن الثوابت الراسخة في الذاكرة حيث تميز المجتمع المصري على مر العصور بعشرات الأنواع من الحرف اليدوية، التي توارثتها الأجيال، وأمست مدلولاً للجمال والدقة والإتقان وعلامة للإبداع المحلي. وأوضحت أن المبادرة تهدف إلى تنشئة اجيال جديدة من العاملين المهرة وبناء قاعدة انتاجية في هذا المجال تصبح أساساً لانطلاق مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر للشباب.
باحث أول بالمرصد المصري



