أوروبا

التحالفات الباردة تقرع “أجراس العودة” في المحيط الهادئ.. والبطولة لـ “سلاح الكبار”

بدأت الأزمة الدبلوماسية “الآخذة في التصاعد” عندما أعلنت “كانبيرا” تراجعها عن إتمام صفقة غواصات نووية مع باريس لصالح واشنطن لتجتذب رد فعل من العاصمة الفرنسية بدا الأكثر غضبًا، بعدما أقدمت فرنسا على سحب سفرائها من الولايات المتحدة وأستراليا مطلقة إعلانًا صريحًا عن أنها لم تعد تثق في الولايات المتحدة كحليف عسكري، لتنضم بذلك إلى دول الخليج التي أصبحت تبحث لنفسها عن تحالفات أمنية وعسكرية جديدة بعد تراجع ثقتها في واشنطن على خلفية الملف النووي الإيراني وأخيرًا الانسحاب الفاضح من أفغانستان.

وقد ذهبت باريس إلى أبعد من ذلك عندما قالت عبر مراقبيها أن الولايات المتحدة أصبحت تتخلى عن حلفائها مقدمة مصالحها فقط، مضيفة أن أزمة الغواصات لها انعكاسات أكبر على صراع النفوذ في القارة الأفريقية، أما عن أستراليا التي قررت تقويض صفقة باريس وبناء ثماني غواصات نووية بتكنولوجيا أمريكية –بريطانية فقد وصفت فرنسا ذلك عبر وزير خارجيتها بأنه بمثابة “طعنة في الظهر”.

ومن شأن كل تلك المقدمات أن تصب في صالح تكوين تحالف أمني “خليجي- أوروبي” خصوصًا بعدما أعلنت واشنطن أن إعادة تموضع قواتها في الشرق الأوسط يشمل سحب بعض القوات والتي تتضمن قواتها في منطقة الخليج لصالح توجيه تركيزها ناحية روسيا والصين. مع الوضع بالحسبان أنه قد تم بالفعل سحب ثلاث بطاريات صواريخ باتريوت من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية، وأُعيد توجيه حاملة طائرات وأنظمة مراقبة في الشرق الأوسط لدعم الولايات المتحدة في مناطق أخرى في العالم، في تأكيد على أن قرار الولايات المتحدة حول الشرق الأوسط “لا رجعة فيه”.

إعادة إحياء التحالفات الباردة

على الجانب الآخر فإن رد وزير الخارجية الأمريكي الذي جاء مهادنًا لفرنسا بقوله إن فرنسا حليف استراتيجي وحيوي لم يكن مقنعًا للإليزيه خصوصًا بعد أن اتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن إعداد الصفقة التي انضمت لها بريطانيا بشكل “انتهازي” قد استغرق شهورًا. أي أنه تم التخطيط منذ أشهر لإقصاء فرنسا من التحالف الذي يقرع الأجراس الدفاعية أو الهجومية ضد الصين في المحيط الهادي. ولكن في أسوأ الأحوال فإن الخلاف لن يتطور إلى ما هو أبعد من ذلك بسبب الشراكة التي تربط باريس وواشنطن في حلف الناتو ولكن هذا لا يعني أن باريس لا تعد العدة الآن للبحث عن حلفاء جدد.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\13273994541631828998.jpg

من زاوية أخرى، فإن بريطانيا التي انفصلت عن محيطها الأوروبي بدت أكثر حرية في اتخاذ ما يناسبها من سياسات حتى وإن كان التحالف مع الولايات المتحدة وأستراليا ضد أحد أعضاء الاتحاد الأوروبي بانتهازية تحسد عليها، معبرة عن ضجرها من سياسات النادي الأوروبي التي ربما أضرت بمصالح بريطانيا على مدى سنوات. فلندن التي تحررت من قيود الاتحاد الأوروبي ومتطلبات الإجماع في بروكسل يشار إليها الآن بوصفها لاعبًا أساسيًا في السياسة الدولية، وليست صفقة الغواصات إلا مقدمة للدور المحوري الذي تطمح إليه بريطانيا في مناطق مختلفة من العالم في الفترة المقبلة.

تحالف” أوكوس”.. الأبعاد

ما حدث بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة يأتي في إطار شراكة أمنية ثلاثية حملت اسم “أوكوس” وبحسب صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية فإن المجموعة ستسهل على الدول الثلاث تبادل المعلومات والمعرفة في المجالات التكنولوجية الرئيسة مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة الإلكترونية والأنظمة التي تعمل تحت الماء وقدرات شن هجوم بعيد المدى. وسيكون هناك عنصر نووي في الاتفاق الذي تشارك فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة “قاصر” على معرفتهما حول كيفية الحفاظ على البنية التحتية للدفاع النووي.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\1-1464276.jpg

ويرى مراقبون أن الحلف الثلاثي يصب في إطار لفت انتباه دول الاتحاد الأوروبي بعد عودة الحديث داخل أروقة النادي الأوروبي عن مقترح تأسيس قوة عسكرية أوروبية توازي قوة تحالف شمال الأطلسي.

استفزازات صينية

منذ عام 2015 ظهرت التوترات في بحر الصين الجنوبي وظهرت معها استياءات أمريكية من اتساع النفوذ الصيني ووصوله إلى مناطق نفوذ استراتيجي للولايات المتحدة، ولذلك سعت واشنطن إلى إحياء ما يعرف بالتحالفات الباردة للحفاظ على نفوذها. وعلى منوال التحالف مع بريطانيا وأستراليا ستسعى واشنطن إلى بناء المزيد من التحالفات وإن كانت مؤقتة لتقويض التمدد الصيني.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\1019799227_0_258_3071_1920_1000x541_80_0_0_4433b8b36ea21ac3fe2d40eb84280a77.jpg

ولكن الصين سارعت للإعلان عن أن تحالف القوى الثلاث لن يضر إلا الدول الثلاث نفسهاـ مؤكدة أن كون أستراليا ليست دولة نووية وتمتلك ست غواصات من طراز “كولينز” وهي غواصات تقليدية تعمل بالديزل مع إقدامها فجأة على استيراد غواصات تعمل بالتكنولوجيا النووية لن يؤدي إلا إلى تزايد الصراع في هذه المنطقة، وهو ما اتجهت إليه أيضًا نيوزلندا التي أعلنت على لسان رئيسة وزرائها أن بلادها لن تسمح للغواصات النووية بدخول مياهها. فضلًا عن أنه يوحي بسعي أسترالي للانضمام للنادي النووي ويفرغ مبدأ الحد من الانتشار النووي من مضمونه.

وقد تلقت “كانبيرا” إشادة داخلية بإتمام الصفقة، خاصة أنها تأتي في إطار مقاومة الأعمال الانتقامية التجارية الصينية من فرض رسوم جمركية معوقة على الشعير والنبيذ الأسترالي، وكذلك القيود المفروضة على صادرات الفحم، إذ تسعى أستراليا أيضًا إلى تحويل “شبكة تبادل المعلومات الاستخباراتية” “فايف أيز” والتي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا لمجموعة تنتقد بانتظام سجل الصين في مجال حقوق الإنسان.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\Five-Eyes.jpg

ولكن كانبيرا تشرعن طموحاتها بالتأكيد على الطموحات الصينية التي تقلقها في المحيط الهادئ، خصوصًا أن بكين نجحت في زيادة قدراتها؛ فهي تمتلك ست غواصات نووية، ويمكنها إطلاق صواريخ نووية، و40 غواصة هجومية. وعلى صعيد حاملات الطائرات فقد شرعت الصين في بناء حاملة الطائرات الثالثة وامتلكت في الفترة من 2015 وحتى 2019 حوالي 132 سفينة مقابل 68 سفينة للولايات المتحدة فقط. وهو أمر طبيعي إذا ما علمنا أن القوة البحرية تستهلك أكثر من 55% من موازنة الدفاع الصينية الأمر الذي يزيد من التوتر في منطقة المحيط الهادئ ويدفع الدول إلى امتلاك تكنولوجيا الغواصات النووية لإبعاد بكين عن سواحلها ومنها باريس التي نشرت للمرة الأولى منذ عام 2001 غواصة “إيمرود” النووية الهجومية في المنطقة.

قدرات تدميرية عالية.. سلاح الكبار

جاسوس البحار: تشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة تمتلك حوالي 70 غواصة منها ما يعمل بالوقود العادي ومنها ما يعمل بالتكنولوجيا النووية حيث تعد غواصة فيرجينيا هي الأشهر في هذا الإطار. وتضم تقنيات التخفي وجمع المعلومات الاستخبارية. ومن المتوقع تصنيع المزيد منها حتى عام 2043 كما أنها ستبقى في الخدمة حتى عام 2060.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\1058105-1.jpg

أما الغواصات من طراز أوهايو فتوصف بأنها قادرة على إنهاء العالم لأن لديها القدرة على حمل 24 صاروخ باليستي وكل صاروخ منها قادر على حمل 12 رأس نووية وتوجيهها بدقة مطلقة. وقد تم نشر تسع غواصات من هذا الطراز منذ عام 2016 أي أن المحيط الهادئ مدجج بالفعل بحوالي 240 رأس نووية حتى الآن، وتمتلك واشنطن أيضًا غواصات ذئاب البحار ولوس أنجلوس وغيرها مما يجعل الأسطول الأمريكي هو الأقوى “عالميًا”.

C:\Users\owner\Desktop\9 يناير\67fea831-a218-4196-a252-e0eb5547ad19-3669-000002affb6ad0ef.jpeg

أما بريطانيا فتعتمد بشكل مطلق على غواصات من طراز “فانغارد” والتي تمتلك منها أربع غواصات مسلحة بصواريخ “ترايدنت” النووية وتعتبرها لندن الرادع النووي الذي يمكنها الاعتماد عليه لأنها تحميها من أي تهديد عسكري. وتمتلك أيضًا غواصات “ترافلغار” والتي تم تصميمها خلال فترة الحرب الباردة ولكن أدخلت عليها الكثير من التعديلات حتى تلائم التحديات الحالية إضافة إلى تطويرها لغواصات “أستوت” ومن المقرر بناء سبع من هذا الطراز.

على أي جال فإن الأزمة الراهنة بين واشنطن وفرنسا لن تمتد إلى خلاف أكبر، نظرا لأن كل طرف بحاجة إلى الطرف الآخر في مواجهة التهديدات الروسية – الصينية الفترة المقبلة، إذ إن مطالب أوروبا بتشكيل قوة عسكرية لا تعني إمكانية الخروج من حلف الناتو بل تستهدف وضع استراتيجية مختلفة للناتو، لأن دول النادي الأوروبي لا تستطيع تتحمل تكلفة الانفصال عن الولايات المتحدة تمامًا.

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى