مصر

الوعي الثقافي في مصر.. “مظاهر وتحديات”

يُعرف “الوعي” باعتباره أحد مرادفات كلمة “الإدراك”، إذ أنه يعبر في المقام الأول عن مدى ما يبلغ الانسان من تواصله مع محيطه الخارجي من خلال أدوات كسب “الوعي” عنده (الانسان)، والتي تتمثل بوجه عام في حواسه الخمس. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد كرر كلمة “الوعي” عدة مرات في مواقف عدة خلال الآونة الأخيرة، تأكيدًا على أهمية رفع مستوى “الوعي” عند المصريين.

ومن منظور فلسفي، يُشكل “الوعي” جوهر الإنسان وميزته الأساسية التي تفرق بينه وبين سائر الكائنات الحية الأخرى. كما أنه يمثل علاقة الكيان الإنساني والعقلي بمحطيه وبيئته، ويضم مجموعة من الأفكار والمعلومات، والحقائق، والآراء، وبقية المفاهيم ذات العلاقة بكل ما هو مادي ومعنوي. وتندرج مصطلحات مثل المنطق، والإدراك الذاتي والعقلاني والحسي تحت لفظة “الوعي”.

وينبثق عن كلمة “الوعي”، أنماط عدة يختلف مفهوم كل منها عن الآخر باختلاف الدور الذي يؤديه في حياة الإنسان، فنجد أن هناك نوعا من “الوعي” يُصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، ويطلق على ذلك اسم “الوعي التلقائي”. ويوجد هناك كذلك، ما يُعرف بـ”الوعي السيكولوجي”، وذلك الذي يُعرف بمجموعة الأحاسيس والمشاعر، التي تكمن في أعماق الذات، بالإضافة إلى أنماط أخرى مثل الوعي الفني، الثقافي والعلمي وغيره. وبوجه عام، يُمثل “الوعي” المصفاة الانتقائية التي يعتمد عليها الإنسان في تمرير أي معلومات إلى ذهنه واعتبارها جزءا لا يتجزأ من قناعاته الراسخة.

مظاهر الوعي الفني والثقافي في مصر

تبذل الدولة جهودا حثيثة في سبيل الاهتمام بتنمية الوعي الثقافي والفني عند المصريين. فعلى السياق الفني، نرى أن وزارة الثقافة لم تغفل الاهتمام بتنمية الحس الفني عند جموع المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة وما تحتها.

ويعد مهرجان “القلعة” من مظاهر هذا الاهتمام. إذ أننا نجد أنه في الوقت الذي يحيي فيه كبار النجوم والفنانين حفلاتهم الخاصة –الباهظة الثمن- في الساحل الشمالي والمنتجعات السياحية الكبرى، تطلق الدولة مهرجان “محكى القلعة ” الغنائي، الذي يتيح للجماهير شراء تذاكره بأسعار زهيدة للغاية.

ويتميز مهرجان “القلعة” بقيمة كبيرة للغاية في عالم الغناء والموسيقى والفن، كما أنه حدث غير هادف للربح يعني باستضافة كبار النجوم، الذين لهم تاريخ فني مديد، وأصوات رنانة، ومن أصحاب الموهبة الحقيقية من أجل الغناء عبر مسرحه.  

وبهذه الطريقة، تكشف لنا الجماهير المحتشدة في مهرجان القلعة، عن “شريحة عريضة” من المصريين تمتلك بالفعل حسا فنيا وموسيقيا يقودها إلى الاهتمام بالاستماع إلى فنانين عظماء على غرار “علي الحجار” أو “هاني شاكر” وغيرهما من الفنانين والفرق الموسيقية الراقية التي تشارك بعروضها هناك.

وفي سياق ثقافي، يُعد الاهتمام بفتح معارض كتاب عبر شتى أنحاء الجمهورية واحدًا من الأدلة الدامغة على اهتمام الدولة بتنمية الوعي الثقافي الجماهيري. خاصة وأن إصدارات الهيئات الحكومية الثقافية عادة ما يتم اتاحتها للجماهير بأسعار رمزية للغاية لا تتناسب مع ما تم انفاقه على الكتاب منذ مرحلة إعداده الأولى وصولاً الى لحظة خروجه من المطبعة.

علاوة على ذلك، نظمت قطاعات وزارة الثقافة المختلفة 84 ألف نشاط إلكتروني، وفعليا في محافظات مصر في عام 2020 بسبب اندلاع الجائحة. وقد استفاد من هذه الأنشطة نحو 6 ملايين و300 ألف مواطن.

وكانت مبادرة “خليك في البيت.. الثقافة بين إيديك”، واحدة من أشهر هذه الأنشطة حيث مكنت الجماهير من مشاهدة ما تملكه الوزارة من روائع وكنوز فنية وثقافية عبر شبكة الانترنت، من خلال قناة وزارة الثقافة على اليوتيوب، أو المنصات الرقمية الأخرى التابعة لقطاعاتها المختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.  
واهتمت الوزارة كذلك، بإتاحة عدد ضخم من إصداراتها على الموقع الإلكتروني للوزارة عبر الانترنت للاطلاع والتحميل المجاني. وفيما بعد حافظت وزارة الثقافة على توجهاتها نحو “رقمنة” الأنشطة الفنية حتى تتواكب مع متطلبات عالم ما بعد الجائحة.

تحديات تواجه الوعي الفني والثقافي في مصر



انطلاقًا من دور “الوعي” كمصفاة تساعد الانسان على انتقاء ما هو نافع ونبذ كل ما هو ضار. يظل الوعي الفني والثقافي في مصر يواجه تحديات تتعلق بدرجة نضجه. لذلك يُفسر نجاح الكتب “الهابطة” في تحقيق مبيعات عريضة بين جماهير المراهقين باعتباره نتيجة حتمية لقسور أصاب الوعي الثقافي لدى هذه الشرائح. كما تفسر الجماهيرية الشعبية التي يتمتع بها “مؤدو أغاني المهرجانات” باعتبارها أيضًا دلالة دامغة على تراجع الوعي الفني لدى شريحة المتابعين والتي، وبالمناسبة، لا تشكل عددًا هينًا من المواطنين.

إذًا، نعرف من كل ما سبق، أن الجماهير المصرية لو كانت قد حققت مستوى ناضجا من الوعي، لكانت قد نبذت هذه الأنماط الرديئة من الفن والثقافة بشكل تلقائي. وانصرفت عنها نحو كل ما هو نمط فني وفكري أصيل. وذلك من المُرجح أن الدولة، وعلى الرغم كل ما بذلته من جهود، لازالت تواجه العديد من التحديات في سبيل تنمية الوعي لدى هذه القطاعات.

وفي هذا السياق، يوصى بأن تولي الدولة المزيد من الاهتمام من رصيد الثقافة من التعليم المدرسي. ويقترح أن يتم إجراء ذلك من خلال تخصيص حصص إلزامية للقراءة يتم تطبيقها على أطفال الروضة والمراحل الابتدائية والإعدادية من التعليم. ومن الممكن أيضًا أن يتم تطوير هذه الفكرة بأن يتم عمل مبادرة يحصل الطالب بموجبها على المزيد من الدرجات الإضافية في حالة انتهائه من قراءة أحد الكتب الجادة وكتابة تقرير ملخص عن محتواه، مما يلعب دورًا تحفيزيا على تشجيع التلميذات والتلاميذ على الاهتمام بقراءة الكتب التي صنفتها وزارة الثقافة باعتبارها كتب جادة.

وفي سياق مواز، يقترح بأن تضطلع الدولة بالدور نفسه إزاء الحصص التي تعتني بالاهتمام بالنشاط الفني. حتى يتم تنمية الحس الفني الراقي عند الطفل منذ نعومة أظافره، ولا تخرج علينا أجيال ممتدة تُقلد نماذج رديئة من مُدعي الفن بشكل أجوف. كما ينبغي على الدولة الاهتمام بفرض النشاط المسرحي في كافة المدارس الحكومية والتجريبية، إذ أن هذا النوع من الأنشطة عادة ما يكون متوافر لدى مدارس محددة فقط في مصر مثل المدارس الدولية والخاصة واللغات.

ينبغي أيضًا تنشيط الدور الذي تضطلع به قصور الثقافة عبر أنحاء الجمهورية، والعمل على الترويج لها من خلال حملات دعائية، وأنشطة ومسابقات فنية وثقافية، تهدف في النهاية إلى تحويلها إلى نمط آخر من أنماط الأندية الثقافية. حتى تقوم بدور يماثل الدور الذي تلعبه “ساقية الصاوي”، في نشر الفكر والثقافة وقبلة للشباب والشابات المهتمين بالفن.

تعقد الوزارة مسابقات فنية وثقافية عدة بالفعل ويفترض أن تلعب هذه المسابقات دورًا ملموسًا في تنمية الأنشطة الفنية والثقافية عند المصريين. لكن يظل هناك عائق يقف في طريق انتشار هذه المسابقات، يتمثل في قلة عدد المصريين الذين عادة ما يكونوا على دراية بموعد التقديم لهذه المسابقات وشروطها وما إلى خلافه. لذلك يوصى بأن تولي الوزارة اهتمامًا أكبر بالإعلان عن هذه المسابقات حتى نضمن وصولها إلى كافة الشرائح المستهدفة.

وختامًا، من الضروري الأخذ في عين الاعتبار معالجة الأسباب التي أدت إلى رواج أنماط متدنية من الفكر والفن، بدلاً من محاربة هذه الأنماط بحد ذاتها. بحيث ينتج لنا ذلك في نهاية المطاف مجتمعا يعيش أمام ساحة فنية وثقافية مفتوحة لشتى الأنواع والأنماط، لكنه في الوقت نفسه يمتلك ما يكفي من وعي لنبذ الاساءات التي تظهر على السطح متخفية في عباءة فنية وثقافية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى