“جرينلاند”.. ترامب يستحضر خلفيته التجارية في سياسته الخارجية
من جديد، أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى رغبته في شراء جرينلاند من الدنمارك، لكن قال إنها ليست أولوية، وفي نفس الوقت يعتبرها صفقة عقارية كبيرة من الناحية الاستراتيجية بحكم عمله السابق كمطور عقاري، واعتبر أنه يمكنها تخفيف العبء المالي على الدنمارك.
قال ترامب إن الدنمارك تخسر حوالي 700 مليون دولار سنويًا في جرينلاند التي يبلغ إجمالي ناتجها المحلي حوالي 2.7 مليار دولار، ويبلغ عدد سكانها حوالي 56000. إذ تقدم لها الدنمارك إعانة سنوية تبلغ حوالي 500 مليون دولار.
كان من المفترض أن يتوجه ترامب إلى كوبنهاجن في زيارته الرسمية الأولى للدنمارك بناء على دعوة من قبل الملكة مارجريت الثانية في 2-3 سبتمبر، لكن بعد هذا التصريح، ثم رد الفعل المقابل لها، باتت الزيارة محل شك. وسبق أن أكد مكتب رئيس الوزراء ميت فريدريكسن الرحلة المخطط لها، وقال إن الاستعدادات اللازمة للقيام بزيارة رسمية رئاسية جارية. لكن قال ترامب إنه ليس من المؤكد أنه سيقوم بهذه الرحلة.
الأهمية الاستراتيجية لجرينلاند
تمتلك جرينلاند موارد وفيرة ولها أهمية جيوسياسية كونها أكبر جزيرة في العالم. تقع بين القطب الشمالي والمحيط الأطلسي شمال شرق كندا، ورغم انتمائها العرقي لمنطقة القطب الشمالي وجغرافيا لقارة أمريكا الشمالية، فهي مرتبطة سياسيا وتاريخيا بأوروبا، وعلى وجه الخصوص بكل من أيسلندا والنرويج والدنمارك.
تخضع جرينلاند في سياستها الخارجية والأمنية لكوبنهاجن، وتسير وفقا لحكم مستقل منذ 1979. في عام 2008، صوت معظم سكان الجزيرة على منحهم حق تقرير المصير ونقل مزيد من الصلاحيات للحكومة المحلية، وبدأ تطبيق النظام في يونيو 2009، وأصبحت اللغة الجرينلاندية اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد.
قال مدير المجلس الاقتصادي الوطني لورانس كودلو في مقابلة مع “فوكس نيوز صنداي” إن غرينلاند مكان استراتيجي، وفيها الكثير من المعادن الثمينة، وأضاف أن الرئيس الذي له خبرة عقارية، يريد معرفة احتمالية شراء غرينلاند. كان بذلك أول مسؤول في البيت الأبيض يؤكد الأمر بشكل علني.
تستخدم الولايات المتحدة قاعدة ثول كجزء من نظام الإنذار المبكر في حالة وجود ضربة نووية روسية، لكن تتزايد الأهمية الاستراتيجية للجزيرة في ظل ازدياد التواجد الروسي فيها عسكريا ومدنيا. هناك حاجة إلى أن يكون التواجد الأمريكي أكثر من مجرد قاعدة للقوات الجوية، بما سيصعب على روسيا السيطرة على طريق البحر الشمالي والتعاون مع الصين في ذلك. بالإضافة إلى أن زيادة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد فيها سيزيد سهولة الوصول للموارد الطبيعية في الجزيرة.
قد يكون ضمن الأسباب، سعي الصين مؤخرا إلى تمويل بناء ثلاثة مطارات في الجزيرة، مما أثار قلق وزير الدفاع آنذاك جيم ماتيس ودفع البنتاجون إلى رفع القضية إلى الدنمارك بأنه يتعين عليها تمويل المنشآت بنفسها بدلاً من الاعتماد على بكين.
رد الفعل الدنماركي
رفض مسؤولون من كل من جرينلاند والدنمارك الفكرة، فقال ستيف ساندجرين، سكرتير رئيس وزراء جرينلاند كيم كيلسن، في رسالة إلكترونية إن جرينلاند ليست للبيع.
أضافت فريدريكسن أنه لا يمكنها بيع جرينلاند، فهي ليست دنماركية ، مشيرة إلى أن حكومتها تريد تعاوناً أوثق بين الدنمارك وجرينلاند، بما في ذلك في مجال الدفاع والشؤون الخارجية.
تصر الدنمارك على رفض البيع منذ ظهور تقارير تفيد بأن ترامب قد وجه المستشارين والمحامين لمراجعة صفقة محتملة. وأشارت فريدريكسن إلى أنها تأمل ألا يكون هذا الأمر معنيا بجدية.
دفع التردد الأمريكي حول زيارة ترامب إلى إشارة أحد أعضاء المعارضة البارزين في البرلمان الدنماركي أن الوضع بمثابة إهانة لملكة الدنمارك.
وصف رئيس الوزراء الدنماركي السابق لارس لوك راسموسن فكرة الشراء التي عرضها ترامب بأنها نكتة حمقاء.
ليس هناك مبرر للدنمارك لبيع غرينلاند للولايات المتحدة، من ناحية فهي دولة غنية تمتلك فائض في الميزانية، ويمكنها بسهولة تحمل الإعانة السنوية البالغة حوالي 500 مليون دولار التي تدفعها إلى غرينلاند. بالإضافة إلى أنه من غير المحتمل أن يرغب سكان الجزيرة في تحويل ولائهم إلى الولايات المتحدة.
لم تكن غرينلاند وحدها!
بالنسبة لجرينلاند، فقد سبق أن عرض الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة من الدنمارك مقابل 100 مليون دولار عام 1946، لكن تم تجاهله. لم تكن الولايات المتحدة بحاجة للشراء، وسمح تشكيل حلف الناتو بعضوية الدنمارك واتفاقها الثنائي مع الولايات المتحدة بتأسيس الوجود العسكري الذي تحتاجه في غرينلاند.
إلى جانب الحصول على لويزيانا من فرنسا وفلوريدا من إسبانيا وألاسكا من روسيا وجزء كبير من جنوب غربها من المكسيك، اشترت الولايات المتحدة غرينلاند وآيسلندا في ستينيات القرن التاسع عشر، وسبق أن اشترت أيضا جزر فيرجن من الدنمارك في عام 1917. كان الهدف هو تطويق كندا بالأراضي الأمريكية وبالتالي إقناعها بالانضمام إلى الولايات المتحدة.
اعترفت الولايات المتحدة بسيادة الدنمارك على غرينلاند في عام 1917 بعد أن اشترت جزر فيرجن أثناء فترة الاستعمار الدنماركي. سرعان ما اكتسبت الجزيرة أهمية استراتيجية للولايات المتحدة كقاعدة للطائرات الحربية خلال الحرب العالمية الثانية، وساعدت القنبلة الذرية في أن تكون الجزيرة أكثر استراتيجية، بسبب قربها من الاتحاد السوفيتي، بحيث يمكن للولايات المتحدة أن تهدد روسيا الأوروبية من خلالها، وكانت تعد أيضا موقع مثالي لرحلات الاستطلاع.
نماذج أخرى
تبدو الفكرة الأمريكية غريبة لأن الأمر أصبح نادرا، لكن هناك أمثلة حديثة تتمثل في دولة كيريباس المهددة بارتفاع منسوب المحيط التي اشترت 5500 فدان من الأراضي في دولة فيجي مقابل 9 ملايين دولار عام 2014، على أمل انتقال السكان إلى هناك في حالة أصبحت الجزر المرجانية غير صالحة للسكن. تسعى دولة توفالو لنفس الأمر، لكن لم يكن هناك أي خطة بشأن نقل السيادة، إذ أنه في حالة اضطرار سكان كل من كيريباس وتوفالو للانتقال إلى فيجي، سيكونون ضمن سكانها، ولن تكن لهم حالة خاصة.
ختامًا، سيكون من الأفضل للولايات المتحدة أن تسعى لتوثيق التعاون مع دول مثل الدنمارك والنرويج بأن يكون له منحى اقتصادي أكثر من التوسع الإقليمي.
حتى وإن لم يمنع القانون الدولي تنازل الدول عن أراضيها، لكن توقف حدوث مثل هذه الصفقات نابع من أن السيادة في العالم الحديث تقوم على الشعب، والذي يمكنه تغيير الأشياء. على سبيل المثال هناك جزر فوكلاند التي تحاربت عليها المملكة المتحدة والأرجنتين في الثمانينيات من القرن الماضي، لا تزال الأرجنتين تسعى لامتلاك الجزر، لكن يصر سكانها بأغلبية ساحقة على الحفاظ على جنسيتهم البريطانية. تنفق المملكة المتحدة حوالي 100 مليون دولار في السنة للحفاظ على تواجدها العسكري هناك. أيضا، لن ترغب أوكرانيا في التخلي عن شبه جزيرة القرم لروسيا بأي ثمن.