شرق المتوسطسياسة

آفاق واعدة… كيف تؤسس الشراكة المصرية-القبرصية ركيزة للأمن المتوسطي؟

تشكل العلاقات المصرية القبرصية محورًا مهمًا ضمن المنظومة الأمنية لإقليم شرق المتوسط، كونها تعمل كمحفز للاستقرار والأمن الإقليمي، وكان للقواسم المشتركة بين مصر وقبرص أن أحدثت نقلة نوعية في علاقاتهما الثنائية برزت على كافة المستويات، وفي هذا الصدد، تشكل أعمال اللجنة العليا المشتركة التي عُقدت اليوم السبت للمرة الأولى برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره القبرصي نيكوس انستاسيادس تتويجًا للروابط المشتركة وتأكيدًا على الرغبة في تدشين فصلًا جديدًا من العلاقات.

مخرجات القمة

شهد الاجتماع تدشين اللجنة الحكومية العليا بين البلدين، لتصبح إطارًا لمتابعة مسارات التعاون الثنائي على أعلى مستوى، بما يسهم في تحقيق نقلة نوعية في وتيرة التعاون الثنائي في خضم تحديات إقليمية ودولية هائلة، وسيكون لهذه الخطوة انعكاس إيجابي ملموس على مجمل العلاقات بين البلدين من حيث تعميق وتكثيف مسارات العمل المشترك في مختلف المجالات؛ السياسية والاقتصادية والتجارية والزراعية والسياحية، فضلًا عن أن اللجنة العليا ستكون محفلًا هامًا لتبادل وجهات النظر تجاه القضايا الإقليمية بشكل دوري ومستمر.

وقد تم الاتفاق على أهمية تعزيز الآلية القائمة للتعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان لمواصلة التنسيق السياسي والتعاون الفني بين الدول الثلاث، وضرورة العمل على تحقيق الاستفادة القصوى منها. وفي هذا السياق، تم الاتفاق على أهمية التحضير الجيد للقمة الثلاثية القادمة والمقرر أن تنعقد في اليونان في أكتوبر 2021.

وتناولت المباحثات الثنائية آخر التطورات ذات الصلة بالملف الليبي؛ إذ اتفقا على ضرورة عقد الانتخابات الليبية في موعد محدد نهاية العام الجاري، مع التشديد على أهمية خروج كافة القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، وعودة ليبيا إلى أيدي أبنائها ليصونوا مقدراتها ويبنوا مستقبلها بإرادتهم الوطنية المستقلة دون تدخلات خارجية.

وتناول المباحثات آخر التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ أكد الرئيس السيسي ضرورة تضافر الجهود الدولية لتقديم الدعم اللازم لقطاع غزة المتضرر بشدة من جراء الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، وكذا العمل على عودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مجددًا إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى تسوية نهائية تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية.

علاوة على مناقشة قضية سد النهضة، حيث أطلع الرئيس السيسي نظيره القبرصي على جهود مصر المستمرة للتوصل إلى حل عادل لأزمة سد النهضة، وجهود استئناف المفاوضات للتوصل إلى اتفاق قانوني وملزم لملء وتشغيل السد، مؤكدًا أهمية اضطلاع المجتمع الدولي بدور جاد في هذا الملف حفاظاً على استقرار المنطقة.

بالإضافة إلى التأكيد على موقف مصر الثابت إزاء الوضع في منطقة شرق المتوسط والقضية القبرصية، والمستند إلى ضرورة التزام كافة الدول باحترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، خاصة مبادئ عدم التدخل في الشئون الداخلية واحترام السيادة والمياه الإقليمية للدول، وأهمية احترام الحقوق السيادية لدول المنطقة اتصالًا بمسألة التنقيب عن الغاز الطبيعي والثروات الهيدروكربونية في مناطقها الاقتصادية الخالصة طبقًا للقانون الدولي واتفاقيات تعيين الحدود البحرية. والتأكيد على موقف مصر الثابت من مساعي تسوية القضية القبرصية وفق مقررات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، والتضامن معها حيال أية ممارسات من شأنها المساس بالسيادة القبرصية أو محاولات فرض أمر واقع مستحدث بالمخالفة لقرارات مجلس الأمن، وبما يقوض فرص التوصل لتسوية القضية القبرصية على أساس وحدة الجزيرة والأطر التي توافق المجتمع الدولي عليها لحل القضية.

فضلًا عن استعراض مختلف أوجه التعاون الثنائي بين البلدين، خاصةً في عدد من المجالات التي تحمل فرصًا واعدة كمسارات للتعاون المستقبلي، وعلى رأسها مجال الطاقة بأطره القائمة مثل مشروعات الربط الكهربائي، أو أطر جديدة ممكنة في هذا القطاع مثل مشروعات الطاقة المتجددة، مع التأكيد على أهمية الإسراع في خطوات تنفيذ مشروع خط الأنابيب الذي سيربط حقل أفروديت القبرصي بمحطتي الإسالة المصرية في إدكو ودمياط تمهيداً للتصدير للأسواق الأوروبية. كذلك مناقشة عدد من القطاعات والمجالات الأخرى، مثل التعاون في مجالات الأمن والدفاع، والزراعة والاستزراع السمكي والسياحة والثقافة والنقل، فضلاً عن جهود رفع معدلات التبادل التجاري والاستثماري بالشراكة مع القطاع الخاص ومجتمع رجال الأعمال من الجانبين، بالإضافة إلى التعاون في مجالات البحث العلمي والتعليم العالي.

مرتكزات العلاقات المصرية-القبرصية

تقوم العلاقات المصرية القبرصية على مجموعة من الثوابت والمرتكزات التي نستعرضها على النحو التالي:

• ضمان أمن شرق المتوسط: تصاعدت الأهمية الجيوسياسية لحوض البحر المتوسط مع بدأ اكتشافات الغاز الطبيعي الهائلة منذ عام 2009 من قبل إسرائيل وقبرص ومصر على التوالي، وفي ظل احتياطات تُقدر بحوالي 340 تريليون قدم مكعب وفقًا لحسابات عام 2017، برز إقليم شرق المتوسط كبيئة للتنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي، ومطمعًا للأنشطة الاستكشافية غير المشروعة التي أقدمت عليها تركيا متجاهلة المصالح المشروعة لقبرص واليونان. ولما كانت نيقوسيا واقعة في قلب عملية التنافس هذه، فقد سعت لتحقيق أقصى قدر من الأمن وضمان مصالحها وطرح رؤيتها الخاصة للنظام الجيوسياسي لشرق المتوسط، مفضلة صيغة الشراكات الثلاثية عن المواجهة المنفردة فانخرطت ضمن تحالفات؛ “مصر – قبرص – اليونان”، و”قبرص – اليونان – الأردن”، و”قبرص – اليونان – إسرائيل”. لكنها حرصت بالتوازي على تطوير شراكات ثنائية مع القوى الإقليمية الفاعلة على رأسها مصر كونها تمتلك من الثقل السياسي والعسكري ما يتيح لها الحفاظ على مكتسباتها وضمان أمن شركائها. 

وبالتوازي، برزت الدائرة المتوسطية كأحد الدوائر التي ميزت السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما بعد الثلاثين من يونيو 2013 عما قبلها، مدفوعة بالاهتمام المتزايد بقطاع الطاقة كمحرك أساسي للتنمية؛ فمنذ اكتشاف حقل ظُهر للغاز الطبيعي الذي تُقدر احتياطاته بنحو 30 تريليون قدم مكعب، علمت مصر على قيادة التفاعلات الشرق أوسطية مستندة إلى امتلاكها أدوات التأثير والنفوذ، فدشنت آلية التعاون الثلاثي (مصر – قبرص – اليونان) التي يحرص أطرافها على الانعقاد دوريًا بما يُضفي عليها طابعًا مؤسسيًا، وأسست منظمة غاز شرق المتوسط –التي تضم في عضويتها قبرص- لتكون مظلة لضمان مصالح الدول الأطراف. وهكذا، كانت نيقوسيا حاضرة دائمًا في قلب آليات التعاون المتوسطي التي انشأتها القاهرة.

ولم تقتصر الترتيبات الإقليمية الجديدة على البعد الدبلوماسي، لكنها تحركت بالتوازي ضمن مسار عسكري، يبدو مهمًا بالنسبة قبرص، بالنظر إلى أن البحرية المصرية تحتل المرتبة السابعة عالميًا وفقًا لتصنيف جلوبال فاير باور لعام 2020، فإلى جانب مناورات “ميدوزا” مع اليونان والتي تتسع أحيانًا لتشمل دول أخرى، انطلقت النسخة الأولى من مناورات “بطليموس 1” بين مصر وقبرص، ويظهر هذا الزخم العسكري قوة القوات المسلحة من حيث الكفاءة والاستعداد وردع الدول المعادية من خلال جاهزيتها وقدراتها المسلحة العالية، ويبعث برسالة مفادها أن مصر ستحمي خطوطها الحمراء ومصالح حلفائها في البحر المتوسط. 

وتجدر بنا الإشارة إلى أن زيارة الرئيس القبرصي تأتي قبل ثلاثة أيام من جولة المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا المقررة يومي 7 و8 نوفمبر الجاري، حيث يجب التأكيد أن أي تقارب مصري-تركي محتمل لن يكون على حساب مصالح شركاء القاهرة الاستراتيجيين وعلى رأسهم قبرص واليونان؛ إذ تنتهج مصر سياسة ثابته مفادها رفض التحركات غير القانونية والأنشطة التركية المزعزعة للاستقرار في شرق المتوسط وتضعها كإحدى شروط عودة العلاقات، كما أنها ترفض محاولات أنقرة لتغيير وضعية منطقة “فاروشا” القبرصية بما يخالف قرارات مجلس الأمن، مؤكدة ضرورة الالتزام الكامل بمسار التسوية الشاملة للقضية القبرصية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.

وعليه، فإن مصالح قبرص واليونان لن تمس خلال أي مفاوضات بحرية مصرية مع تركيا، وهي الرسالة التي حملها الرئيس السيسي لرئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس خلال أحد الاتصالات الهاتفية، مؤكدًا على “العلاقات الثنائية الوثيقة والتزام بالتعاون في الطاقة والاقتصاد وكذلك الأمن والجيش”. 

• الربط الطاقوي والكهربائي: يحتل ملف الطاقة موقعًا متقدمًا على أجندة البلدين، فبينما تتطلع قبرص لتطوير حقل أفروديت للغاز، تهدف القاهرة إلى تسريع تفعيل الاتفاقية الموقعة في سبتمبر 2018 بنيقوسيا لإقامة خط أنابيب بحري مباشر لنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت إلى محطات الإسالة بمصانع إدكو ودمياط لإسالته ومن ثم إعادة تصديره إلى الأسواق المختلفة، بما يدعم مساعي مصر للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، حيث كان لوباء كورونا وتراجع أسعار النفط انعكاسات سلبية على معدلات إنجاز المشروع.

وعلاوة على ذلك، تبرز قبرص كمحور مركزي في استراتيجية الربط الكهربائي الأفريقي-الأوروبي؛ إذ سيتم مد كابل بحري بين مصر وقبرص بطول 498 كيلومترًا (309 ميلًا)، وعمق 3000 متر (9800 قدم) ثم توصيل قبرص بجزيرة كريت اليونانية بكابل يبلغ طوله 898 كيلومترًا (558 ميلًا)، بإجمالي طول 1396 كيلومترًا (867 ميلًا)، لتنطلق منه كهرباء مصر بقدرة 2000 ميجاوات لشبكة الكهرباء في عموم أوروبا.

وسيخلق هذا الربط طريقًا سريعًا ليس فقط لنقل الكهرباء التقليدية وإنما الطاقة المتجددة؛ إذ تكمن الآفاق طويلة الأجل لمصر كمركز لتصدير الطاقة في تطورها المذهل لمصادر الطاقة المتجددة لخلق فائض إمدادات. وتهدف استراتيجية الطاقة المستدامة لعام 2035 زيادة إنتاج الطاقة المتجددة إلى 20% من إجمالي إنتاج مصر من الطاقة بحلول عام 2022، و42% بحلول عام 2035. وقد انطلقت الدولة بالفعل نحو تنفيذ مشروع مجمع بنبان للطاقة الشمسية الضخم بقدرة 1.8 جيجاوات كأكبر مجمع للطاقة الشمسية الكهروضوئية في العالم، علاوة على ذلك تشهد مصر طفرة في تطوير طاقة الرياح، حيث تم تشغيل أكبر مجمع لتوليد طاقة الرياح في مصر، وهو مزرعة رياح رأس غارب بقدرة 262.5 ميجاوات بالقرب من خليج السويس، في نوفمبر 2019. كما سيتم تعزيز إنتاج الطاقة المتجددة بمشروع محطة الضبعة للطاقة النووية. 

ويشكل خط الربط الكهربائي لمنطقة أوروبا وأفريقيا مكونًا مهمًا من استراتيجية تسريع تطوير ممر الطاقة في شرق البحر المتوسط ​​كمصدر بديل جديد لإمدادات الطاقة من المنطقة إلى القارة الأوروبية والعكس.

تعزيز التعاون الاقتصادي: أثمرت الشراكة المصرية القبرصية عن تحسن المؤشرات الاقتصادية البينية، فوفقًا للبيانات المتاحة ارتفعت قيمة التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 77.2%خلال عام 2020 مسجلة 164.8 مليون دولار مقابل 93 مليون دولار خلال عام 2019. وقد بلغت قيمة الصادرات المصرية لقبرص 153.9 مليون دولار خلال عام 2020 مقابل 47.8 مليون دولار عام 2019 بنسبة ارتفاع قدرها 222 %، بينما بلغت قيمة الواردات المصرية من قبرص 10.9 مليون دولار خلال عام 2020 مقابل 45.2 مليون دولار عام 2019 بنسبة انخفاض قدرها 75.9%.

وشملت قائمة الصادرات المصرية منتجات جديدة شملت هياكل وأجزاء المراكب وسفن الكروز والرحلات، حيث يتم تصنيعها في ورش مدينة دمياط، بالإضافة إلى منتجات أخرى جديدة مثل أجزاء للمباني الجاهزة ومستلزمات طبية. وفيما يتعلق بحجم الاستثمارات، فقد سجلت الاستثمارات القبرصية في مصر 400 مليون دولار ممثلة في 224 شركة قبرصية تعمل في مجالات الصناعة والسياحة والخدمات والطاقة. وبالنظر إلى مستوى الشراكة السياسية والاستراتيجية بين البلدين فإنهما يتطلعان لمضاعفة تلك الأرقام أكثر من مرة.

ختامًا، تتفق هذه القمة ومفهوم “دبلوماسية التنمية” الذي اعتمدته السياسة الخارجية المصرية والقائم على إقامة علاقات متوازنة تحقق المصالح المشتركة لكافة أطرافها، بحيث يخرج الجميع فائزًا، كما أنها تعكس إرادة مشتركة للبلدين لتعزيز إطار التعاون التقليدي بينهما وتطويره ليشمل مجالات جديدة، وكذلك ترسيخ الروابط العميقة وأواصر الصداقة التاريخية بين البلدين.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى